دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

قراءة ثانية في شعر المتنبي1...
ما لنا كلنا جو يا رسول
مالَنا كُلُّنـــا جَـــوٍ يا رَســـــول ♥ أَنا أَهــــوى وَقَلبُـــكَ المَتبـــولُ 
كُلَّمــــا عــادَ مَن بَعَثــتُ إِلَيـها ♥ غارَ مِنّـي وَخـــانَ فيمــا يَقــــولُ 
أَفسَـدَت بَينَنــا الأَمانــاتِ عَينــا ♥ ها وَخانــت قُلوبَهُـــنَّ العُقـــولُ 
تَشتَكي ما اشتَكَيتُ مِن أَلَمِ الشَو♥ قِ إِلَيها وَالشَوقُ حَيثُ النُحـولُ 
وَإِذا خامَرَ الهَــوى قَلــبَ صَـبٍّ ♥ فَعَلَيـــهِ لِكــــُلِّ عَيـــــنٍ دَليـــــلُ 
*****
زَوِّدينا مِن حُسنِ وَجهَكِ مـا دا ♥ مَ فَحُسـنُ الوُجوهِ حــالٌ تَحـــولُ 
وَصِلينا نَصِلــكِ في هَــذِهِ الـدُنـ ♥ ـيـا فَإــِنَّ المُقـــامَ فيـــها قَليــــلُ 
مَن رَآهـا بِعَينِـها شاقَــهُ القُـطـ ♥ ـطانُ فيها كَما تَشوقُ الحُمـــولُ 
إِن تَرينــي أَدِمــتُ بَعدَ بَيـــاضٍ ♥ فَحَميـــدٌ مـــِنَ القَنـــاةِ الذُبـــولُ 
صَحِبَتني عَلـــى الفَـــلاةِ فَتـــاةٌ ♥ عـــادَةُ اللـــَونِ عِنـــدَها التَبديــلُ 
*****
سَتَرَتكِ الحِجــالُ عَنــها وَلَكِــن ♥ بِكِ مِنـــها مِـــنَ اللَمـــى تَقبيــلُ 
مِثلُـها أَنتِ لَوَّحَتـــني وَأَسقــَمـ ♥ ـتِ وَزادَت أَبهاكُــما العُطبـــولُ 
نَحـنُ أَدرى وَقَد سَأَلنــا بِنَجـــدٍ ♥ أَقـــَصيرٌ طَــريقُنــــا أَم يَطـــــولُ 
وَكَثيرٌ مِــنَ السُـــؤالِ اِشتِيــــاقٌ♥ وَكَثـــــيرٌ مِــــن رَدِّهِ تَعليــــــــلُ 
لا أَقَمنا عَلى مَكـانٍ وَإِن طـــــا ♥بَ وَلا يُمكـــِنُ المَكـــانَ الرَحيـــلُ 
*****
كُلَّما رَحَّبَت بِنا الـــرَوضُ قُلنـــا♥ حَلَبٌ قَصدُنـــا وَأَنـــتِ السَبيــــلُ 
فيكِ مَرعى جِيادِنـــا وَالمَطايــــا♥ وَإِلَيـــهــا وَجيـــفُــــنا وَالذَميــــلُ 
وَالمُسَمَّــــونَ بِالأَمــــيرِ كَثيــــرٌ♥وَالأَمــيرُ الَّـــذي بِهــــا المَأمــــولُ 
الَّذي زُلتَ عَنهُ شَرقـــًا وَغَربًـــا♥ وَنَــــداهُ مُقابِلــــي مــــا يَـــــزولُ 
وَمَعي أَينَــــما سَلَكــــتُ كَأَنّــــي♥ كُـلُّ وَجهٍ لَـــهُ بِوَجهــــي كَفيـــــلُ 
*****
وَإِذا العَذلُ في النَدا زارَ سَمعًــــا♥ فَفِــــداهُ العَـــــذولُ وَالمَعـــــذولُ 
وَمَـــوالٍ تُحيِيــــهِمِ مِن يَدَيـــــهِ ♥ نِعَــــمٌ غَيرُهُــــم بِــــها مَقتـــــولُ 
فــــَرَسٌ سابِـــقٌ وَرُمحٌ طَويــــلٌ♥وَدِلاصٌ زَغْـــفٌ وَسَيــفٌ صَقيـــلُ 
كُلَّمــــــا صَبَّحَــــت دِيــــارَعَـــدُوٍّ♥ قالَ تِلكَ الغُيوثُ هَـذي السُيــــولُ 
دَهِمَتــهُ تَطـــايِرُ الـــزَرَدَ الــمُحـ ♥ ـــكَمَ عَنــــهُ كَما يَطــيرُ النَسيـــلُ 
*****
تَقنِصُ الخَيلَ خَيلَهُ قَنَصَ الوَحـ ♥ ـشِ وَيَستَأسِرُ الخَميسَ الرَعيـــلُ 
وَإِذا الحَربُ أَعرَضَت زَعَمَ الهَو♥ لُ لِعَــينَــيهِ أَنَّـــهُ تَـــهـــويــــــــلُ 
وَإِذا صَـحَّ فَالزَمـــانُ صَحيــــحٌ ♥ وَإِذا اِعتَـــــلَّ فَالزَمــــانُ عَليــــلُ 
وَإِذا غابَ وَجهُهُ عَن مَكــــــــانٍ♥ فَبِــهِ مِن ثَنــــاهُ وَجــــهٌ جَميــــلُ 
لَـيسَ إِلاكَ يـــا عَلــــِيُّ هُمـــــامٌ ♥ سَيفُـهُ دونَ عِرضِـــهِ مَسلــــــولُ 
*****
كَيفَ لا يَـأمَنُ العِـــراقُ وَمِصـــرٌ♥ وَسَرايـــاكَ دونَــــها وَالخُيـــــولُ 
لَو تَحَرَّفتَ عَن طَريقِ الأَعـــادي♥رَبَطَ السِــدرُ خَيلَهُــــمْ وَالنَخيـــــلُ 
وَدَرى مَن أَعَزَّهُ الدَفــعُ عَنـــــــهُ♥ فيهِمــا أَنَّـــهُ الحَقيــــرُ الذَليـــــلُ 
أَنتَ طولَ الحَياةِ لِلـــرومِ غـــــازٍ♥ فَمَتى الوَعدُ أَن يَكــونَ القُفــــولُ 
وَسِوى الرومِ خَلفَ ظَــهرِكَ رومٌ♥ فَعَــــلى أَيِّ جــــانِبَيــــكَ تَميــــلُ 
*****
قَعَدَ الناسُ كُلُّـهُمْ عَن مَســاعيـــ ♥ـكَ وَقامَت بِــها القَنـــا وَالنُصـــولُ 
ما الَّــذي عِندَهُ تــــُدارُ المَنايــــا ♥ كَالَّذي عِنــدَهُ تــــُدارُ الشَمـــــولُ 
لَستُ أَرضى بِأَن تَكـــونَ جَـــوادًا♥وَزَمانـــــــــي بِـــأَن أَراكَ بَخيـــــلُ 
نَغَّصَ البُعدُ عَنكَ قُـربَ العَطايــــا ♥ مَرتَعي مُخصِبٌ وَجِسمي هَزيــــلُ 
*****
إِن تَبــــَوَّأتُ غَيــــرَ دُنيــــايَ دارًا♥ وَأَتانــي نَيـــــلٌ فَأَنــــتَ المُنيـــــلُ 
مِن عَبيدي إِن عِشتَ لي أَلفُ كافو♥رٍ وَلي مِن نـــــَداكَ ريفٌ وَنيـــــلُ 
ما أُبالــــي إِذا اتَّقَتــــكَ الرَزايـــــا ♥مَن دَهَتـــهُ حُبولُــــها وَالخُبـــــولُ
ذي قصيدة دعيتُ إلى النظر فيها وقراءتها على نحو جديد في مكان ما ولم أكمل ما بدأت ، فلعلي منجز ذاك ولو بعد حين.
==========
ما لنا كلنا جو يا رسول ؟!
تكسرت نصال أبي الطيب على نصاله فأصاب مجد الدنيا التي ملأها وشغل ناسها ، ناكفه حسّاد وسعوا به ما أمكنتهم السعاية ، فجعلوا بينه وبين أميره في حلب ردماً حاول أن يسدّه بمغادرة حلب إلى مصر التي قبض على مقاليد الأمور فيها غلام الإخشيد عله يصيب مطمحاً في إمارة أو ولاية ملك عليه نفسه ، وسدّ عليه أقطار الأرض ، فما يني يطلبه بأي سبيل متاح وغير متاح ، إلى أن ضاقت نفسه بكافور و مواعيده ، فانتهز غفلة من أمير ورحل عن مصر ليلة عيد الأضحى سنة 350هـ تاركاً وراءه قصيدة دالية كدمّاغة جرير ودّ كافور معها لو افتدى منها نفسه " يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه" (1). ومن العراق مضى المتنبي إلى فارس ، وفي أثناء ذلك كان الشاعر وأميره ينظر كل منهما إلى صاحبه متحيناً سانحة يجود بها دهر يعيد إلى ما انقطع بينهما دفئاً بددته مطامح شاعر ، وعزة أمير ما قطع سبيلاً لألسنة الوشاة التي جهدت في حل عرى تلك العلاقة التي خيّل للناس ذات حين أنها أقوى من أن تنفصم.
لقد أدرك أمير حلب أنّه أسرف على شاعره الذي طيّر صيته في الآفاق ، فسعى إلى إعادة وصل ما كان انقطع بينه وبين أبي المُحَسَّد ، فأنفذ إليه " ابنه من حلب إلى الكوفة ومعه هدية ، وكان ذلك بعد خروجه من مصر ، ومفارقته كافوراً ، فقال يمدحه : القصيدة /ما لنا كلنا جو يا رسول /" (2). إنها محاولة رتق فتق اتسع على راقع ، فهل أفلحت تلك المحاولة ؟ ذا ما تحاول الصفحات القادمات أن تلتمس له جواباً في ظل ما يتبدى في أثناء القصيدة قبل ذاك الذي حفظته لنا كتب الأدب على قلته .
مفتاح القصيدة ...
يكاد مصراع البيت الأول يكون مفتاح القصيدة ؛ فأمر عجب أن ينافس الرسولُ مرسله على قلب فتاته ، والأصل أن يكون مُبلّغ رسالة، شرطه الأول الأمانة والإخلاص فيما ينقل. ولربما هذا المفتاح يشير إلى اختلاط الأمور، واشتباهها على الخلق بمن فيهم المتنبي وأميره سيف الدولة في حلب ، فالأول حملته نفس عزيزة متأبية على كل شيء إلى أن يفارق حلب بعد يأسٍ من أميره ، والثاني دفعه تردد ، وبعض ضيق إلى مدّ حبال الاستماع لأقاويل السعاة والوشاة ، فتقطعت حبال الود بينه وبين شاعره الذي ملأ الدنيا ، وشغل الناس .
لقد هال المتنبي أمر ذاك الذي اختاره رسولاً، فبلغت المرارة الحلوق ، وكممت الأفواه ، فليست تحِيرُ قولاً . محبٌ ورسول ؛ الأول آلمه العشق ونال منه كل منال، فظهرت عليه علائمه ودلائله ، والثاني يدعي أنها ملكت عليه لبّه ونفسه .وفي مفارقة غريبة يبدو معها أثر ذلك الحب على الرسول أشد ظهوراً ، وتباريح هذا العشق الطارئ أوقعُ في النفوس ، فقد اشتطّ الأمر إلى أن أفسدت أمانة الذي مِن شرطه الأمانة والوفاء، فاندفع يخون فيما حمل من رد على رسالة أبي الطيب ، وبدلاً من أن يوقفه على ما عليه المحبوبة من شوق إلى الشاعر ، وشدة تولّه وهيام ، إذا به يحدثه عما أصابه من لقيا تلك الفتاة، مع أنّ واقعاً يكذّب ما يقول؛ ذلك أن النحول يكون حيث يكون الشوق ، وذا ما يبدو على الشاعر لا على الرسول الذي أراد أن يفسد عليه تلك العلاقة التي تقف على حد هاوية ، أو على حد سيف ، فلم يعد له مُتقدَّم أو مُتأخّر . فالحبُّ لا تخطئه عين ، فهو كما يعرفه أهل الهوى والعشق له علامات ظاهرة لا تخفى على من لم يجرب العشق ، فكيف بمن غرق في بحور الهوى، واستقر في أعماقها ؟!
لقد سُدّت الطرق والسُّبُل في وجه الشاعر ، فما يعرف وسيلة لبلوغ سُويداء قلب تلك الغانية التي أحب ، أو قل ما هي إلا علاقته بسيف الدولة الذي تقطّعت سُبُل إعادة وصلٍ كان بينهما ، فلكأنّ ابن الأمير ما كان يريد عودة مياه الود إلى سابق عهدها بين الشاعر ووالده الأمير ، فلم يَصْدُقِ الشاعرَ في تصوير حال أبيه أمير حلب ، وفي ما إن كان ما يزال به ما بالشاعر من تَوق إلى أيام مودّة خلَت.
وللحديث صلة إن نسأ الله في أجل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المعارج : 11 – 14.
(2) ديوانه ، شرح البرقوقي : 3/ 267.

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1360 مشاهدة
نشرت فى 24 سبتمبر 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

577,913