جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الرسالة الثالثة
حول الرواية مرة أخرى
الأربعاء: 20-6-2018
طابت أوقاتك يا عزيزتي
أرجو أن تكوني بخير، لا تقلقي بشأن كثرة الأعمال وازدحامها خصوصا في شهر رمضان وما بعده من (عجقة) العيد السعيد، فكل عام وأنت تتمتعين بالجمال والأناقة والحب، فهي أوقات تتزاحم فيها الفروض الاجتماعية، ولا أحد يستطيع الفكاك من عاداتها إلا من لم يحفل بها مثلي، لقد عودت الآخرين على أن أظل وحيدا، ولا أدخل في هذه الأجواء. لقد سرني أيضا تحسن أمور العمل، فمشروعك منذ رأيتك آخر مرة في تقدم، يسعدني أنك تمنحنين جل الوقت لإنجاز أعمال ذات قيمة جمالية بعيدا عن الهوس القديم، بما ليس منه فائدة حقيقية.
وأما ما جاء في رسالتك الأخيرة بخصوص الرواية، ها أنت تدفعينني لأعاود الحديث عنها، لاسيما أنك ما زلت تظنين أنني قادر على كتابة رواية، وما هي إلا مسألة وقت كما قلت: "كتابتك للرواية ستحدث ولا أظنك إلا مؤجلها ليس أكثر، لديك من القدرة ما يؤهلك لكتابتها وإن بأسلوب حداثي خارج القوالب المعروفة للرواية، يمكنك ابتداع ما يخصك، أثق تماما بما تجود به قريحتك المجنونة". لقد أعجبني وصفك لقريحتي أنها "مجنونة"، أشتاق لذلك الوقت الذي كنت تمتدحين النصوص بقولك: "مجنون"، ها هي تعود وإن بصورة أكثر هدوءا. كم أحب ذلك منك أيتها المجنونة مثلي تماما.
والآن فلتتفضلي علي، وتصغي إلى ما سأقوله حول الرواية.
صحيح أن الأعمال الأدبية ليست إعجازا، وأنه لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، حتى أعظم الأعمال عبقرية وبلاغة، ولكن مع ذلك يجب ألا تقع في محظورات الخطأ الذي سيكون بإمكان القارئ العادي أن يلاحظه فضلا عن الناقد المتوسط والمثقف ذي الدربة في قراءة الأعمال الأدبية.
في هذه الرسالة أحب أن أطلعك على بعض ما قيل في رواية "حرب الكلب الثانية" التي فازت بجائزة البوكر هذا العام. مقال في صحيفة خليجية يبرز فيه كاتبه أخطاء ظاهرة في الرواية، ويقارن تلك الإخلالات بروايات أخرى تدور في فلك الفنتازيا، تعد علامات بارزة في هذا الصنف من الروايات، تلك التي تحدث في عوالم خيالية وتستبق الزمن واللحظة الراهنة كحال رواية "حرب الكلب الثانية"، غير ناسٍ بطبيعة الحال تلك الموجة من الكتابات المادحة للرواية وتمجيدها، محتفلة بالرواية والروائي ومشروعه الكبير، وأنها إضافة مميزة كونها خرجت عن إيقاع مشروعيه الروائيين: "الشرفات"، و"الملهاة الفلسطينية".
ناقد وأكاديمي فلسطيني يصف روايات نصر الله بأنها مملة، ويذكر من ذلك على سبيل المثال رواية "أرواح كليمنجارو" وغيرها، وأنه لم يكد يبدأ الرواية حتى يدفعها جانبا ولا يكملها، ويعيد ذلك إلى ذائقته، بالطبع هو يسخر في "خربشاته" من أن تكون ذائقته هي المسؤولة عن هذا
الملل. هنا مشكلة الروايات الحديثة القائمة على التجريب، كالشعر تماما، تحتاج إلى ذائقة بمواصفات معينة بالتأكيد، وليس نصر الله وحده في هذا، وإنما كتاب روايات آخرون يشاركونه هذا الملل، ويشارك الناقد غيره في هذا الرأي بالتأكيد، وقد قرأت شيئا من هذا مؤخرا.
ما مناسبة هذا الحديث؟ لعلك ستسألين نفسك هذا السؤال، وأكاد أسمعه يرقص مع ضحكة ماكرة على شفتيك، لتظني بي الظنون؛ معتقدة أنني ذو نظرة سوداوية تجاه "الكتاب الكبار"، لا شيء من ذلك هنا، وإن كان في النفس شيء تجاههم، ولكن ليس هذا محله الآن، وأنا أكتب لك بموضوعية وشيء من الحيادية. سأحاول الإجابة على سؤالك مطولا إن استطعت، وأمدتني روحك بالإلهام اللازم والقدرة الكافية لشرح المسألة شرحا وافيا.
تؤكد لك المسألة النقدية حول الروايات الفائزة، يا عزيزتي، أن الأعمال الأدبية الفائزة في المسابقات الأدبية (شعرية، قصصية، روائية، نقدية،...) عدم إجماع الوسط الثقافي على تلك النتائج التي خرجت بها لجان التحكيم، وهذا ابتداء صحي وطبيعي، والمسألة ليست عربية فقط، حتى لا نظل نتهم أنفسنا بالتحيز والمحسوبيات والفساد، كما قال أمجد ناصر عندما خرج من القائمة القصيرة هذا العام في مقال يشنع فيه على الجائزة ولجنة التحكيم وزملائه الأدباء المتأهلين، ويكيل لهم الاتهامات غير المبررة، ونسي أنه كان يوما عضو لجنة تحكيم هذه الجائزة في عام 2010.
لقد حدث ذلك أيضا في الغرب، قبلتنا دائما في الحكم على الأشياء، فها هي (جينفر إيغان)، الروائية الأمريكية تقول: "لقد حكمت جوائز كبرى وأعرف كيف يتم هذا. فالأمر يعود إلى الذوق، ومن ثم الحظ، إذا حدث ووصلت إلى القائمة النهائية فهذا أنك محظوظ بما يكفي لتكتب شيئا يروق لحكام معينين". وبالطبع ليس (إيغان) وحدها، بل للشاعر المكسيكي (أكتافيو باث) رأي مشابه، وهم يعذرون لجان التحكيم، ويقبلون بكل روح رياضية نتائج المسابقات التي رُشحوا لها، ولا يقولون عن كتبهم أنها وحدها المقدسة، تعلو ولا يعلى عليها.
لعلنا جميعنا لم ننس تلك الهجمة الغبية على رواية "كونشيرتو الهولوكست" التي فازت بالجائزة نفسها قبل عامين، واتهام كاتبها بالتطبيع، وذلك الهراء النقدي لنويقد مصري يتدرب على الكتابة، وهذياناته المقيتة في حقها، وقد كرهته على نحو شخصي لقلة أدبه وذوقه المحدود والمنحط وسطحيته في الكتابة الملئية بكل شيء إلا النقد، فإنه لا شك مفارقُهُ إلى الأبد، ولن تبشر كتاباته بأي مستوى نقدي محترم على الإطلاق إن بقي سابحا في جهالاته المفعمة بالزهو الكاذب، والغارقة في الجهالات كثيفة الظلام.
المسألة الثانية وهي مسألة إبداعية محضة، هنا أتذكر ما كتبتُه حول رواية "مملكة الفراشة" في كتابي "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية" وأخطاء الكاتب فيما كتبه في الرواية حول موقع "الفيسبوك". ما حدا بالكاتب أن يبعث إلي برسالة يؤكد فيها صوابه وخطأ وجهة نظري وتحليلي. تمر الأيام وتفوز هذه الرواية بجائزة عربية، فيثور حولها اللغط، ويكتب كاتب آخر مقالاً يبين ما في الرواية من أخطاء، تلك الأخطاء التي أشرت إليها قبله، ويتهم لجنة التحكيم أنها منحت الرواية الجائزة لشهرة الكاتب دون أن يقرؤوا الرواية، إذ لو قرأوا الرواية، كما قال، لما استحقت هذا الفوز.
ماذا أريد أن أقول؟
أردت أن أقول إن هناك استعجالا في كتابة الرواية والتهافت عليها والتلبس بصفتها، وكأن صفة "الروائي" أمارة إبداع وعلامة تميز، وهي "فيزا" الدخول إلى عالم الشهرة والإبداع والجدارة الأدبية، وكأننا بذلك جميعنا نقضي، ونحن لا ندري، على فنون كتابية أخرى، جديرة بالحياة والاحتفاء كالشعر والمسرح والقصة القصيرة والموسيقى مثلا.
هل تلاحظين مثلما ألاحظ أن الحياة الإبداعية العربية والمحلية تفتقر إلى فن المسرح، ونقاد المسرح، وإنتاج المسرحيات، لقد مات هذا الفن الذي هو أبو الفنون جميعها، خلف وراءه خلفة أضاعوه وأماتوه! ولم يعد أحد يحفل به، وأنا واحد من الكتاب الجدد الذين لا يهتمون بالمسرح قراءة واقتناء ومشاهدة ونقدا، بل إنني أؤكد جهلي المطلق بهذا الفن.
تعالي نستذكر معا بعض كتاب المسرح، ولو سألتني عن بعضهم لن أستطيع إلا أن أقول اسمين أو ثلاثة كأقصى حد، وليس من هذه الأسماء أي اسم حديث، وقد أثرت هذا السؤال مرة مع صديق لي، وناقشت معه لماذا نحن، أنا وهو، لا نقرأ مسرحيات ولا نكتب في المسرحيات. ما حدا به أن أحضر لي في اليوم التالي مسرحيتين لكاتب عربي، تجاوز عمر نشرهما أكثر من (47) عاما. إنه خلل فاضح في الحياة الثقافية العربية، ونفص معيب في أبجدياتها الإبداعية بكل تأكيد. ولكن ربما هناك أسباب موضوعية لخفوت هذا الفن وتراجعه.
هل للرواية هذه القدرة من الهيمنة على الصنعة الكتابية، وتوجيه الأقلام نحوها أم أن بريق الجوائز أفسد الخريطة الإبداعية؟ أفكر أحيانا بما سيحصل بفن الرواية لو توقفت كل الجوائز التي تخصها؟ هل سيعود الكتاب إلى المسرح أم سيعودون للشعر أم أنهم سيصمتون؟ هل سنكتشف حقيقة مواهب أولئك الكتاب؟ أكاد أجزم أحيانا أن ثمة ديكتاتورية غير معلنة مسيطرة على عقول الكتاب ليكتبوا رواية، ديكتاتورية الشهرة والمال، وأصبحت الدوافع غير بريئة، يشوبها التفكير بالدولار، قبل الرواية ذاتها، ما جلب آثارا سلبية جدا على الرواية، وضاعت روايات عظيمة بين هذا الركام الغث، ربما سيكون حكما قاسيا قول أحد أصدقائي: "إذا تحدثنا عن الكم لن يموت أي نوع أدبي. وإذا تحدثنا عن النوع فنحن لا نملك لا رواية ولا قصة ولا مسرح ولا شعر إلاّ ما ندر. المشكلة أن الكل واثق من أنه فوق الجميع، وأقسم أن 99% مصيره المزبلة".
ابتعدت كثيرا عن محور الحديث، أعود فأقول يجب عدم الاستعجال في كتابة الرواية، بل يجب على كاتبها أن يراجعها، ويتتبع كل عنصر من عناصرها، ليرى منطقيته وترابطه مع غيره وواقعيته وجماليته منفردا وبالتضام مع غيره، عليه أن يفعل كل ذلك وأكثر قبل أن يزج بمجموع أوراقه إلى المطبعة، ويشارك فيها في المسابقات فتتعاورها أيدي النقاد ولجان التحكيم. وربما سبب بعضها اكتئابا ثقافيا للجان التحكيم.
في مقابلة مع أحد الروائيين يقول إنه يضع إشارات يتتبع من خلالها عمله الروائي بحيث لا ترتكب شخصياته حماقات سردية، فيَحدُث خلل أو تناقض أو تعارض بين أول الرواية وآخرها. بلا شك في أنه عمل مرهق وصعب، ولكنه ضروري وواجب لمن أراد أن يكون كاتبا روائيا ناحجا. عليه أن يتخلص من السيطرة العاطفية لبعض سخصياته عليه، ويكون موضوعيا بدرجة
فنية عالية. يُنقل عن (ماركيز) أنه خرج من غرفته وهو يبكي عندما اضطر فنيا لقتل شخصية "الجنرال" في إحدى روايته، ولكنه لا بد من أن يفعل ذلك، فلم يجعل الشخصية تقوده لكي تدمر عمله الروائي، كم كان شجاعا وناجحا وعبقريا.
بعد كل هذا الاستطراد أعود إلى ما بدأت به هذا الحديث؛ لا رواية دون ملحوظات نقدية بكل تأكيد، ولكن على الكاتب أن يتجاوز عقليات النقد المتوسطة والعالية ويتماس مع عقليات النقد الكبرى؛ لتظل الرواية عبقرية في عقول جماهير القراء الواسعة، من قراء مدربين ذوي ذائقة فنية عالية وحساسة ونقاد صحف، وهنا تحوز هذه الرواية صفة الإبداع حتما، من المثقفين والنقاد والقراء على حد سواء، ولا يستطيع أحد أن يلاحظ أخطاءها وعوارها، إن وجدت، إلا كبار النقاد، وهنا تصبح مسألة الجوائز سهلة، وستخف موجات الانتقاد الحادة لكل عمل روائي يفوز.
هل سأستطيع، كما قلت وتنبأتِ، أن أكتب تلك الرواية التي في ذهني؟ لا أدري إلى الآن هل باستطاعة قدراتي الذاتية تفتيق الخيال على تقنيات خارجة من "قريحتي المجنونة" لصنع رواية مذهلة تتجاوز عقليات النقد الصحفي لتتماس مع عقول النقد الكبرى، فما زلت مؤمنا أن للروايات عوالم سحرية، وأنها خلق من بعد خلق في ظلمات ثلاث (الشكل، والتقنيات السردية، والفكرة المدهشة)، وقليل جدا من الروائيين من نجح في أن يكون عظيما، كالشعراء تماما، فالشعراء العظام نادرون؛ ربما على طول تاريخ البشرية لن تجدي عشرة شعراء حقيقيين، وليس كتبة شعر، وكذلك هم الروائيون، فالروائيون العظماء نادرون أيضا، ولست أعني كتاب الخراريف والحكايات وأصحاب السقطات السردية. فـ "الرواية ليست لعبة شكلية أو حكاية تروى بنسق حكائي فحسب، بل هي انغماس في صيرورة الحياة وبحث في التجديد وحس جمالي في استخدام اللغة والقدرة على معاينة المعضلات المعاصرة والتوفر على معارف عدة من العلوم الحديثة والفلسفة والفكر والتاريخ والفنون والاقتصاد وعلم النفس والاجتماع"، كما تقول الكاتبة العراقية لطفية الدليمي. فإذا لم يقرأ الكاتب فلسفة وفكراً ونقداً وأساطير ولغة وعلم نفس، سيكون حكّاءً يتقن الثرثرةَ، ولن يصبح كاتبا كبيرا يوما ما، ثمة ضحالة ثقافية وفكرية، يا عزيزتي، في الروايات المنشورة مؤخرا، وسبق أن ناقشنا ذلك في بعض لقاءاتنا على قلتها.
ملاحظة أخرى: كثيرة هي الروايات العربية التي اعتمدت على تقنية واحدة ومكررة، حتى غدت كلاسيكية بسبب كثرة الروائيين الذين اعتمدوها. فأين التجديد في الشكل؟ وأين الرّواية العربية التي ابتكرت شكلها الخاص؟ بل كيف يفكر الروائيون في الروايات التي يكتبونها؟ الرّواية المكتوبة هي الصيغة الأخيرة لعملية التفكير بالرواية، لكن كيف توصل إلى ذلك وهواجسه الإبداعية فالرّواية المنشورة منجز مكتوب ونهائي بعد هذه العملية. هناك تقنيات سردية صعبة ومعقدة تحدث عنها روائيون كبار، غربيون بالطبع، ولم يستطع أي روائي عربي الاقتراب منها. ثمة استسهال في بناء الرّواية. والروائيون ليسوا معنيين بالإبداع، معنيون بالنشر والترشح للجوائز. كم روائيا الآن يكتب من أجل الابداع؟ أسئلة ستجدين إجاباتها صادمة ومحزنة إلى حد المصير الأسود للرواية المعاصرة، عربيا على الأقل.
وعلى الرغم من كل ما يقال حول الرواية ما زال هناك سؤال يدور في رأسي: هل يمكن أن يأتي يوم وتموت فيه الرّواية كما ماتت المقامات والملاحم مثلا؟ فالقصة القصيرة تحتضر
وكذلك المسرحية، صحيح أيضا أن "كل فن أدبي فيه إبداع ويستطيع أن يُحدث في المتلقي الدهشه، ويجعله يحلق بالفكر والخيال، فهو لا يموت مهما ضعفت أنفاسه"، وهنا أتذكر كاتبا فلسطينيا أصدر كتابين في المقامات، ولكنني لم أستطع قراءتهما، ويجب علينا الاعتراف أن حضور القصة القصيرة في المشهد الثقافي ضعيف جدا، وكذلك المسرحية خصوصا أنه لم يعد أحد يكتبها إلا نادرا جدا، وصحيح أن هناك فورانا في الرّواية، لكنها حتما ستموت يوما لصالح فنون أخرى كما ماتت الملاحم والمقامات والسير الشعبية.
على كل حال، أشكر لك فضلك في الإسهاب في الرد على الرسالة السابقة، وأتمنى أن نلتقي قريبا، فقد حان الوقت الذي تصافح فيه عيناي جمالك البهي الذي اشتقت إليه بكل ما في من قوة روحية وعقلية.
دمت بخير ومجد وألق، أرجو أن تتذكريني وأنت في معمعة العمل، وحاولي أن تكتبي لي عن أي شيء أردت، فالروح تسعد كلما نهلت من خمرة حرفك. أحبك
المشتاق إليك دوما: فراس حج محمد
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية