جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
أثر الكتابة في قصيدة
"قلم يَكْتُبك"
"كمال أبو حنيش"
قلنا، أن المرأة والكتابة والطبيعة والثورة عناصر تخفف من وطأة الواقع على الكاتب/الشاعر، فيمكن للكاتب/للشاعر أن يستخدم كل هذه العناصر أو واحدا منها ليزيل ما علق به من تعب الحياة، "كميل أبو حنيش" رجل أسير في سجون الاحتلال، ومحكوم بعدة المؤبدات، لكنه ما زال متشبث بالحياة، رافضا كل من يدعي بأننا عشاق (موت) ونبحث عن حياة أخرى في العالم الآخر، سنجد في هذه القصيدة ألفاظ وكلمات تؤكد حرص الشاعر على التشبث بالحياة، وعلى السعي نحوها رغم جدران الزنزانة.
فاتحة أي نص أدبي مهمة، لأنها تعطي المتلقي صورة أولية عما يريد تقديمه الكاتب/الشاعر، كما أن للعنوان وقع خاص على القارئ، فالعنوان يثيرنا ويحفزنا على معرفة (الحالة) التي يريد تقديمها لنا، وهذا ما يجعلنا نتساءل: لماذا يكتبك القلم "قلم يَكْتُبك"؟ يجيبنا الشاعر مباشرة بقوله:
"أحْتَاج لأفق أرحب
مِنْ هَذَا الأفق
الْمَسْكُون بِزفَرَاتِ الأرق"
الحديث عن الظرف/المكان/الحالة التي يمر بها الشاعر يجعلنا نتأكد وقع للمكان وللظرف عليه، والشاعر لا يكتفي بتناوله للألم الذي يثقل كاهله، بل يحدثنا عن هدفه/مبتغاه من التحرر من هذا المكان والظرف، يقول:
"لِكَيْ يَخْرج بُرْكان الْكَلِمَات
المتأججة بِجَوْفِي ...
أو حَتَّى انْطَلق كَمَّاء
يَتَبَخَّر تَحْتَ الشَّمْس
وَأمِضي مِثْل بَحَّار
يَتَكَاثَف فِي شَكْل سَحَابه ...
وأواصل سَيْري فِي الرّيح
وأمطر كَلِمَات تَرَوِّي
عَطَش الأشجار ...
ببستان الْقلب"
الشاعر يستخدم "الكلمات/الكتابة" كوسيلة للتحرر من واقعه وأيضا ليتقدم إلى الأمام، متجاوزا الزمن الذي توقف في الزنزانة، ومخترقا جدرانها، متناولا الطبيعة، من حلال حديثه عن الماء والسحاب والبخار، ثم مجدة يربط بين الكتابة والطبيعة من خلال:
"وأمطر كَلِمَات تَرَوِّي
عَطَش الأشجار ...
ببستان الْقلب"
يستوقفنا الحديث عن الماء، فهو عنصر الطهارة والذي ينقلنا من حالة فكرية/إيمانية/عقائدية/روحية وجسدية إلى حالة أخرى، هكذا جاء في الديانات السماوية، فالمسيحي يتعمد بالماء، والمسلم يغتسل، وجاء في الملاحم والاساطير القديمة أن الوحوش تتأنسن عندما تستحم بالماء، وهذا ما حدث مع "انكيدو" في ملحمة جلجامش.
الملفت للنظر أن الشاعر لا يستخدم الماء لطهارته هو، بل يجعل من نفسه الماء الذي تحتاجه الطبيعة وما عليها من كائنات، فهو هنا يتماثل مع فاعلية وأثر وحيوية الماء، وما يستوقفنا أن الشاعر ذكر حالتين للماء "المطر والبخار/السحاب" بمعنى الغاز والسائل، ولم يتناول حالة التجمد/الجليد، لماذا؟، وهل لهذا الأمر علاقة بوجوده داخل الزنزانة؟ فلم يرد أن يزيد من ألمه، من الألم الذي هو فيه، فاستثنى الحالة الثالثة للماء؟. المقطع الثاني يحدثنا عن أثر الكتابة عليه وعلى الحياة، حتى يبدو لنا فعل الكتابة الفعل الوحيد المخلص للشاعر:
"يَعْني ..
أن تتهيأ لاستفراغ الألم
السَّاكِنَ فِي أحشائك
أو لِاِسْتِخْرَاج ' الذَّهب الْخَالِص '
مِنْ بَيْن صُخُور"
فالأثر الذي يخلفه فعل الكتابة مزدوج، التخلص من الألم، والتقدم بفرح/بأمل من الحياة.
من هنا نجد الشاعر يعطي القلم صفات علوية، أعلى من المكانة العادية للبشر:
"الْقَلَم طَبِيب يكشِّفُ عَنْ عِلَّتِكَ ...
يسألكَ بِمَاذَا تَشْعر ؟ مِمَ تتألم
تَخْجل أن تَتَفَوَّه قُدام الْقَلَم" هذا كلام منطقي وينسجم مع فكرة الشاعر عن الكتابة وأداتها "القلم" لكنه يفاجئنا بالمقطع التالي عندما قال:
"بِكُلِّ مَشَاعِركَ فَلِلْقَلَم وَقَاحَة عَاهِرَةٍ
لَا تَخْجل فِي جَسِّ الأسرار
النَّائِمَة عَلَى الْجَسَد ...
وَفِي أعماق الرّوْح ...
ثَمَّة أشياء لَا نَكَشِّفُهَا
ونخاف بَأن يَفَضَّحهَا الْقَلَم الثَّرْثَار"
نتساءل: كيف حدث هذا الانقلاب عند الشاعر، وجعله يستخدم لفظ "عاهرة"؟ وما هي المقدمات، الدواعي لهذا الانقلاب؟ اعتقد أن استخدام فعل "يسألك" اعاد إلى العقل الباطن للشاعر فترة التحقيق وما فيها من تعذيب جسدي ونفسي، فجعله يستخدم لفظ "عاهرة" كردة فعل لا اراديه عن تلك الفترة المؤلمة التي مر بها.
كما أننا نجد في المقطع الأول ما يدعم ما قلنا من خلال استخدامه:
"مِمَ تتألم
تَخْجل أن تَتَفَوَّه"
فنجد الألم وعدم التكلم/التفوه ما زالا حاضرين ومؤثرين في الشاعر، لهذا نجده يفقد اتزانه ويتفوه بلفظ "عاهرة وثرثار.
يقدمنا الشاعر أكثر من ألمه ووجعه وقهرة من خلال قوله:
" الْقَلَمِ كَرَشَّاش
يَخْرجُ مِنْه رَصَّاص الْكَلِمَات
فإن لَمْ تَضْبطْ صَمَامَ أمانه
أن لَمْ نتَحْكمْ بالسبابة
مِنْ فَوْق زِنادِه
قَدْ يجرّح أو يرْدي
مَنْ أحببناهم يَوْمَاً"
يبدو لنا وكأننا في معركة، فهناك رصاص، ورشاش، وزناد، وسبابة" وكلها تعطي صورة الجندي في المعركة، فمن أين جاء بها الشاعر؟ ولها لها علاقة بفعل "يسألك" السابق؟.
يستمر الشاعر في تقديم صورة القلم، حتى يبدو لنا وكأنه إنسان حقيقي:
"الْقَلَم كَثَائِر ...
يَتَمَنْطَقُ بِحزام نَاسِف
وَيُهَاجِمُ بِالْكَلِمَات حُصونَ الأعداء
يَزْرَعُ ألغاماً فِي دَرْب
لُصُوص الأوطان ...
وَيَحْمِي عَذْرَاء عَلَى وَشْكِ الْفَضِّ
عَلَى أيدي الْمُغْتَصبيْن
يَحْرسُ أحلام الْمَسْحُوقَيْن
وَيُسَيِّجُ كَرْم الآمال
لئلا تَخْتَالُ بِهِ
قُطعان الدَّجَالِين"
وهنا يبدأ الشاعر بالتعاطي مع القلم ككائن حي، ويرفع من مكانته ليُوصله إلى مكان مقدس، حتى يبدو لنا وكأنه يمجد هذا القلم الفاعل والمُحدث لكل هذا الخير ومزيل الفساد والمفسدين من الأرض:
"يا قَلَمَي يا كُلَّ الأشياء
أنقذني مِنْ نَفْسي
وَأكْتُبنّي فِي شَكْلِ قَصِيدَة
وَاُرْسمنّي فِي شَكْلِ حَمَّامه
وَاِجْعلنَّي كَالْزَّهْرَة تَتَفَتَّح
فِي آخر سَاعَات اللَّيْل
وَكَالْمَطَر الْهَاطِل فِي الأرض الْعَطْشَى"
فقد منح القلم/الكتابة الشاعر الهدوء والسكينة، حتى أنه تحرر وتخلص وتجاوز حالة الألم، وأخذ يتحدث عن فكرة البياض الكامل، مستخدما ألفاظ بيضاء: "يا قلمي، وأكتبني، شكل، قصيدة، وارسمني، حمامة، كالزهرة، تتفتح، كالمطر، الأرض" كل هذا يعطي مدلول إلى أن الشعر تحرر من واقع ووقع الزنزانة وتفتحت روحه للحياة.
لكن قبل أن انهي أشير إلى استخدام الشاعر للماء/للمطر في خاتمة القصيدة، وكأنه اراد بها أن يؤكد على دورة الحياة الجديدة، وعلى أن هناك حالة ستحل عليه من خلال المطر/الماء الذي سيغتسل/يرتوى منه.
ملاحظة: القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس بوك.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية