دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

"الرقص الوثني"
أياد شماسنة
تعتبر هذه الرواية من أهم الروايات التي تتحدث عن تركيبة دولة الاحتلال، يقدم لنا الراوي شخصيات من داخل المؤسسة الحاكمة والمجتمع في إسرائيل، تتقمص شخصياته الطريقة التي تفكر بها وتنتهجها، بحيث يقعنا تماما، بأن مثل هذه التركيبة من الجماعات لا يمكنها أن تكون عادية، او عفوية، لقد تمت تربيتها على أنها أعلى من بقية المجتمعات:" فكرة الشعب المختار"، وعليها أن تكون فوق البشر، وفي حالة عدم قدرتها على تحقيق هذا العلو، عليها أن تنعزل وتعيش في "جيتو" خاص بها ضمانا لنقاء العرق والنوع.
يقدم الراوي في الرقص الوثني شخصيات يهودية متنفذة، على صعيد القرار الأمني، وعلى صعيد المكانة العلمية أو الأكاديمية. هناك "بنيامين بن يهودا" المستشار الأمني والبروفيسور في قسم التاريخ والآثار بالجامعة العبرية، وزوجته "تسيبي بنت مناحيم" الناشطة في منظمة بتسيلم، وابنته "إستير" المتفوقة في دراستها الجامعية، من المفترض أن تكون هذه العائلة مثالية، لكنها في حقيقة الأمر مختلة نفسيا وسلوكيا، تعاني من أمراض اجتماعية ونفسية، وستنعكس سلبا على العلاقة الأسرية فيما بينها. وهناك من المؤسسة الحاكمة "شلومو بن أورون" مدير احدى مكاتب أجهزة الأمن الرئيسة في الدولة، والذي يستطيع اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة.
في المقابل تقدم الرواية شخصيات فلسطينية سلبية مثل "إدريس حمدان العتيق" تاجر الآثار والممنوعات ولص الاثار، وشخصيات ايجابية مثل "مايك سمرون" الأرمني بائع الانتيكا و"سليمان شاهين" المحامي المتألق والمدافع عن حقوق الفلسطينيين.
دولة الاحتلال
الشخصيات الرئيسة في الروايات والتي تتمحور حولها الأحداث، الأحداث التي تشير إلى استحالة العدالة في دولة تكفر بالعدالة،وتزعم أن فلسطين لليهود وحدهم، وليس هناك أي مكان للفلسطينيين فيها، بعض النماذج التي تعزز هذا الأمر “أصدرت المحكمة قرارا بعدم جواز إيقاف سيارات الإسعاف الفلسطينية على الحواجز العسكرية لأكثر من نصف ساعة" ص37، بين ثنايا هذا القرار فكرة "يحق لجندي الاحتلال إيقاف سيارة الإسعاف" لكن لفترة لا تزيد عن نصف ساعة.
وعندما يتحاور "بن يهودا وتسيبي" عن علاقة ابنتهما "إستير" بالفلسطيني "سليمان شاهين" تقول "تسيبي" التي تعمل في منظمة حقوقية، من المفترض أن تدافع عن حقوق الإنسان: "هكذا هي الأمور في الدولة، نحاول إذابتهم فيذيبون بناتنا" ص39، وهنا يكمن الخلل في تركيبة اليهودي، يعمل في مؤسسة (حقوقية/يسارية) ويتحدث ويفكر وينتهج خطا (يمينيا) متطرفا.
دولة الاحتلال تعيد انتاج فكرة قداسة الدولة التي تمثل الرب على الأرض، وعلى اليهودي ان يؤمن بما يصدر عنها من قرارات وينفذه بضمير مرتاح، هذا ما جاء على لسان "مسلم أسار" الذي يسخر من هكذا دولة: " الدولة هي من يعيد كتابة التاريخ، الدولة من يعيد تشكيل المتحف لتقدم الآثار يهودية، أو إسرائيلية، أو توراتية، أو وثنية، الدولة يا عزيزتي من يدفع لكتاب التاريخ، والمؤرخين، ويدفع لهم مقابل إثارة قضايا مختلفة تخدم المشاريع السياسية في المستقبل" ص50. على لسان احدى الشخصيات الرئيسية
فكرة العزل لم تأتي اليوم عند اليهود، بل هي متأصلة في تفكيرهم، " الناس كلهم يكرهون اليهود وهي كراهية لا تزول، لذلك يعزل اليهود أنفسهم من غير اليهود، وأن أرض إسرائيل تخص اليهود وحدهم" ص61.
من الاساليب التي تنتهجها دولة الاحتلال لتسريب الأراضي والأبنة إلى المستوطنين هذا الحوار بين رجل الأمن وبين تاجر الانتيكا الأرمني:
"ـ لم لا تساعدنا في الحصول على بيت جورج؟
ـ لا شأن لي بكم، أنتم تساعدون أنفسكم
ـ مليون دولار أمريكي، أو لنقل مليون ونصف، أليست صفقة جيدة؟
ـ لست سمسارا ولا عميلا.
ـ أنت مهرب آثار خبيبي، قم بهذه الصفقة فقط وأقفل كل الملف، هذا المبنى مقابل جميع الصفقات التي قمت بها وربما تقوم بها مستقبلا، انه صبابة، أليس كذلك، صفقة رابحة" ص101، طريقة الترهيب التي يستخدمها المحتل للإيقاع بالفلسطينيين إذا ما اقترفوا خطأ ما، فيتم استخدام اساليب ابتزازهم لجرهم إلى العمالة المباشرة والصريحة.
ومن الأساليب الأخرى التي ينتهجها الاحتلال هذا الأسلوب الذس يتمثل في طرح رجل الأمن".وقضاء ليلة ممتعة وبعض النقود قبل أن يداهم الأمن الداخلي الشقة لاصطياد الضحية متلبسة في وضع يتم إسقاطها به" ص108، هذا ما حدث مع "إدريس العتيق" قبل أن يصبح عميلا للاحتلال. 
وقد جاء الفكر الاستعماري بشكل جلي وصريح على لسان رئيس بلدية تل أبيب: "أن تل أبيب تم تنظيفها من الوسخ" ص 124.
أما فكرة فكرة الفوقية التي تسيطر على العقل اليهودي فكانت من خلال قول "شلومو بن أورون": "..غير مسموح أن يتغلب أحد الأقليات على أي أحد ولو مبتدئ في الجهاز" ص178.
وكحسم لفكرة (التعايش) بين اليهود والفلسطينيين تقول "تسيبي بنت مناحيم: لا اعتقد أننا كشعب يمكن أن نتخلى عن فكرة الشعب المختار؟ لا اعتقد أيضا أن الجنرالات الذين يبنون أمجادا بقتل الآخرين سيتوقفون عن سفك المزيد من الدم من أجل الرتب العسكرية؟" ص184.
ويقول "بن يهودا" يقول: هذه الأرض لنا، كم مرة أخبرتك أن الرب أعطاها لنا قبل ثلاثة آلاف عام، وستبقى لنا، لقد ترها السكان استجابة لعبد الناصر، لو كانوا يحبونها أو ينتمون إليها ما تركوها" ص46، مما يضاف الي الكذبات التي آمن بها الاسرائيلي، ومنها أيضا كذبة أرض الميعاد، وكذبة أن الفلسطينيين تركوها مخيرين، وليسوا مكرهين وتحت تهديد السلاح. 
الأمجاد التي يحققها قادة الاحتلال تأتي من خلال قول "بن يهودا": "بيبي نتنياهو يريد مجدا على الجماجم، إنه لا يهتم إلالابكونه ملكا للدولة، ملك إسرائيل الأبدي" ص185.
ومن الواضح ان الرواية تؤكد أن الأفكار التي تقدم لليهودي من قبل القيادة السياسية أو الدينية أو الفكرية تقول على لسان احد الحاخامات الذين يرافقون الجنود في المعارك : "إذا رأيت لصا خطيرا بيده سكين أو مسدس، فاقتليه قبل أن يقتلك، وكذلك إذا رايت شخصا عربيا وشككت في أنه يحمل سلاحا أو عبوة ناسفة، فلا تجازفي ولا تخاطري بروحك وأرواح إخوانك اليهود وإنما اقتليه حتى لو كنت مسيطرا على الموقف تماما، فالأفضل أن تريح نفسك وتريحنا منه، وأكد أن القانون الإسرائيلي يتفق مع الشرعة اليهودية في هذا الشأن" ص248. 
أما فيما يتعلق بالديمقراطية التي تمنحها الدولة العرب الفلسطينيين، فهي ديمقراطية المحتل: " فإن كل من يشارك في نشاطات "غير قانونية" ضد جيش الاحتلال، أو ضد الدولة وسكانها، أو يعرب على الملأ عن دعمه لمثل هذه النشاطات، لن يسمح له بخوض انتخابات الكنيست" ص311.
هذه الأفكار لأنها تمثل إحدى الركائز الأساسية التي بنى عليها الراوي روايته، فالرواية ستقدمنا شيئا فشيئا من جمالية مذهلة، وكان لا بد من التعرف على هذه الأفكار والأقوال وعلى هذا السلوك، لنكون على مقربة عقدة اليهودي التي تنعكس فيما يقوله وفيما يفكر فيه وفيما يفعله، هذه الأفكار والأفعال جزء من تركيبة كاملة متعلقة بالدولة وبالأفراد وبالمؤسسات، وعندما نقول المؤسسات نقصد تلك التي تدعم الدولة أو تلك التي تدعي معارضتها، فالكل في دولة الاحتلال يخدم الدولة وأفكارها ونهجها.
الشخصيات اليهودية
" بنيامين بن يهودا"
ش "بنيامين بن يهودا" يقول عنه "مايك سمرون": أنه مفاوض عنيد جدا، مثل "حيط" وأن كان أكاديميا يلجأ إلى القانون الذي يمس الموضوع، فيوقف أي تحرك. يعرف البروفسور طريقتين بحكم تدريبه الأمني للتعامل مع الشخص الماكر مثل مايك، إحداهما احتوائه والسيطرة عليه، وثانيهما التعامل بجفاء وتجاهله" ص28، الصلابة احدى صفاته، وهي تشير إلى أنه رجل مؤمن بأفكاره وبمعقداته، كما أنه يعرف ويفهم القانون، ومتدرب على التعامل مع كافة الأشخاص والحالات التي يكونون بها.
"تسيبي بنت مناحيم"
زوجة "بن يهودا" التي تعمل في مؤسسة حقوقية، ومنتمية إلى حزب يساري، يكشف لنا زوجها حقيقتها والطريقة التي تفكر وتعمل بها، "بحياة ربك تسيبي، حقوق الإنسان أساسية، قولي فقط أنكم تشتغلون لأجل الشغل، لأجل المجد الشخصي، وليس لأجل حقوق الإنسان" أما هي فتفكر بهذه الطريقة: " لو أني ما زلت كذلك كما تقول أيام الكيبوتس، لساعدتني في انتزاع إنجاز آخر، أستطيع به أن اتزعم الحزب من أجل خوض انتخابات الكنيست القادمة" ص38، إذن هي تبحث عن مجدها الشخصي، وما عملها في مؤسسة حقوقية إلا غطاء/وسلة لتحقيق هدفها الشخصي، فهي لا تؤمن بأي حقوق، بل تؤمن بمصالحها وأهدافها الشخصية، وتؤمن بأن أي وسيلة يمكن أن توصلها إلى هدفها هي مباحة ويجب أن تعمل بها.
ونجدها تحمل أفكار عنصرية من خلال حديثها عن أبناء إبراهيم: "تدخلت تسيبي بغضب: إسماعيل ابن الجارية المصرية لا يحق له الحصول على ميراث إبراهيم" ص47.
"إستير"
البنت المتفوقة في جامعاتها، وتعيش في أسرة يهودية خاصة، لكنها تحب رجل من غير دينها، فتعيش في حالة من الضياع والتشتت: "كانت تريد أن تكون يهودية، أو أي شيء آخر، المهم أن تشعر بالانتماء لقضية ما، كما ينتمي بن شاهين إلى عربيته" ص143، ونجد اضطرابها وعدم يقينها بهذا الطرح التي قدمته ل"سليمان شاهين": "لديك أسبوع يا حبيبي، أما ان تتخذ قرارا بشأن الزواج، أو ألتحق بالجيش؟" ص172. هذا الطرح يعبر عن حالة الاضطراب، فهو طرح متطرف بالنسبة لها، الأول يمثل تمردها على أفكارها وعلى يهوديتها، والثاني يمثل تمرد على مفاهيم الحب والإنسانية التي تتعامل بها مع "سليمان".
العربي/الفلسطيني السلبي
يقدم لنا الراوي نماذج من العملاء، إحداها جنود "انطون لحد" السابقين، أهم وأشهر عميل للاحتلال في لبنان، فبعد أن تم الانسحاب من لبنان: "عمل حارسا ليليا ليشتري الدواء والكحول، الأول لزوجته والثاني كي يستسيغ طعم الذل في البلاد التي أقنع نفسه أنه ساعدها في شبابه، لقد تخلت عنه مثل كلب ميت" ص13، من المهم أن نفهم ونعرف ما آلت إليه أحوال العملاء، فهم ليسوا أكثر من سلم يصعد به إلى أعلى، ثم يرمى به إلى أسفل، بعد أن استنفذت مهمته، ولم يعد يصلح أو يفيد في شيء.
هذا ما كان بخصوص العميل غير الفلسطيني، فما هو حال العميل الفلسطيني؟، شخصية "إدريس حمدان العتيق" تمثل الشخصية الفلسطينية المنحلة، التي تعمل كل شيء في سبيل المال أو الجنس أو المشروب، فهي تمارس الأعمال الممنوعة، من أجل أن تكون عملية للاحتلال وتخدم مشاريعه وأهدافه في الاستيلاء على الأرض والمباني الفلسطينية: " هناك كان شلومو بن أورون يهنئه على المليون دولار التي قبضها لقاء خدمته في تسليم العمارة السكنية في سلون، والتي بناها بأموال مكتب الأمن بالتعاون مع جمعية "عطيرات كوهونيم".
اكتمل البناء الذي سهل الأمن الداخلي الإسرائيلي معاملاته ورخصه وكافة إجراءاته، ساعد إدريس في تغطية على نشاطه الأمني عبر تدريبه ليمارس دور التقي المتدين، ثم التاجر المستورد من الصين، وعندما اكتمل الدور انتهت الصفقة بشرطها النهائي وهو الهجرة من الوطن" ص271، إذن أي عميل عندما ينتهي مهاته ينتهي وجوده، أما بالتصفية الجسدية أو بالهجرة، فهو ليس أكثر من أداة يتم التخلص منها بعد انتهاء فاعليتها/دورها.
الفلسطيني
كما كان هناك فلسطينيين سلبيين هناك في المقابل ايجابيين، منهم "سليمان شاهين ومايك سمرون" فسليمان يقدم على تقديم المساعدة لأي كان، فالدافع الإنساني عنده يجعله يتقدم من المحتاج بصرف النظر عن جنسه، من هنا نجده يندفع لمساعدة "إستير" عندما يلتوي كاحلها، كما نجده شخص مرتبط بأبناء شعبه بشكل وثيق، ويقدم لهم خدماته كمحامي ومدافع عنهم بكل إخلاص وتفان، ولكن الملفت للنظر أن "سليمان" يعود لتقديم المساعدة ل "إستير" بعد مشاركتها في حرب غزة وإصابتها بمرض نفسي، ويفسر لنا الراوي علاقته بها من خلال هذا المقطع: " أخبرها أن الأمر رغما عنه، قد ابتعدت هي من البداية بقرارها، لكن الأمر الأكثر أهمية هو التحاقها بالجيش الذي يقتل إخوته وقومه العرب، أكد لها أن الأمر بالنسبة إليه لا مناقشة فيه، أخبرها أنه أحبها لأنه وجد فيها إنسانة، ولم يفكر للحظة بقوميتها أو دينها، وعندما ابتعد، كان ذلك لأنها هي من أقحمت الدين والانتماء وفضلت السياسة التي تقتل الناس على الإنسانية التي تجمعهما" ص304، لم يكن "سليمان" مجرد شخص يحب فتاة يهودية فحسب، بل كان أيضا مفكر ويقدم الحلول لتخليص الخاطئ من خطيئته، " لكنها تستطيع أن تخدم الإنسانية عندما تدون مذكراتها ومشاهدتها الميدانية في كتاب، لتريح ضميرها، وتقدم للإنسانية شهادة عن الضحية والجلاد" ص304، لهذا يمكننا القول أن الفلسطيني يعطي مثلا لما قدمه الانبياء والرسول، فرغم تعرض "سليمان" للخطف من قبل الاحتلال وإجبار المواطنين الفلسطينيين الذي فوضوه على تمثليهم أمام المحاكم الإسرائيلية، إلا أننا نجده ما زال مؤمنا بدوره الإنساني والوطني، ويقدم المساعدة لمن يحتاجها، حتى لو كان عدوه.
هذا فيما يتعلق بشخصية "سليمان شاهين" لكن هنا صورة جمعية للفلسطيني الذي يتعرض للإبادة والإرهاب من قبل المحتل ومؤسساته الأمنية والرسمية، يحدثنا الراوي عن حال الفلسطيني في دولة الاحتلال، من خلال لم شمل العائلات الفلسطينية: " أنجبت الزوجة التي تحمل الجنسية الإسرائيلية خمسة أطفال في الضفة فحصلوا على هوية خضراء، عندما خشيت من فقدان هويتها الشخصية قررت الزوجة الانتقال إلى بيت أهلها في أم الفحم، وهناك أنجبت طفلين بهويات زرقاء، حصلت على أسرة مشتتة، ملونة متعددة الجنسيات" ص140. هذه احدى مشاكل الأسرة الفلسطينية، أفرادها يحملون عدة جنسيات وكأنهم خليط من قارات متعددة.
ونجد مشاهد المجازر والتهجير التي تعرض لها على يد الاحتلال وعصاباته، من خلال الحديث الذي دار بين "سليمان وإستير":” لم تري جنديا من الهاجاناة يغتصب امرأة واحدة، وولدها الرضيع ينظر إليها، لم تكوني يوما في دير ياسين وهم يبقرون بطون الحوامل ثم يطوفون بمن تبقى في شاحنة أمام الناس في غربي المدينة؟" ص 173، هذه صورة الضحية، وإذا ما قارناها بصورة الجلاد والطريقة التي يفكر بها وينتهجها نلم حكم الظلم الذي وقع على الفلسطيني من قبل الاحتلال ومؤسساته. 
إننا أمام رواية تتحدث عن حال الفلسطيني الذي بقى في أرضه ولم يغادرها، وهذه الفكرة لواحدها كافية لتجعل الراوية تستحق أن تقرأ ويتوقف عندها ويكون لها مكان بين الروايات المهمة، فمثل هذه الأفكار التي تذكرنا بما حصل ويحصل، تنشط الذاكرة وتجعلها متحفزة ويقظة لكي لا نتوه في المجهول.
"عائد إلى حيفا"
يمكننا الآن تجاوز أهمية الفكرة التي تحملها الرواية لنتقدم من جمالية استثنائية وتجديدية، جمالية "لا تخطر على قلب بشر" والتي تتمثل بتكملة رواية "غسان كنفاني" "عائد إلى حيفا" ، او التكامل معها كما قال الروائي في احدى مقابلاته، مثل هذه التكملة بحد ذاتها تعد حالة تألق وابداع من الراوي،، فلو أكمل الراوي الروايات التي لم تكتمل "برقوق نيسان، الأعمى والأطرش، العاشق" لكن عمله منطقيا ويتوافق مع العقل، لكن أن يأتي على رواية كاملة وجاهزة ويحيي شخصياتها من جديد، ويجدد مأساة عائلة "سعيد" الفلسطيني التي بدأت عام 1948، محدثا عن الصراع عند نسل دوف/خلدون/"بن يهودا" والمتمثل بانتمائه لدولة الاحتلال وأصوله العربية، فهذا التألق بعينه، والراوي لا يكتفي بهذا، بل يضيف معلومة: أن "خالد" شقيق "خلدون/دوف أصبح فدائيا ويأتي إلى فلسطين ليقوم بعملية فدائية، وبعد انتهاء الاشتباك يقع في الأسر ويكون "دوف/خلدون" هو قائد قوات الاحتلال التي أسرته، أليس هذا هو الإدهاش بعينة؟.
إن الصراع الذي تحدثت عنه رواية "عائد إلى حيفا" لم ينتهي أو يتوقف، ما زال حياً وفاعلاً، وهذا بحد ذاته يعد حالة ابداع في الرواية، فالصراع الذي بداء في عام 1948 مستمر، وابناء الشخصيات ما زالت تعيش الصراع.
يبدأ الحديث عن شخصيات "عائد إل حيفا" من خلال دخول "إستير" إلى غرفة أبيها "بن يهودا" فتجد فيها أوراق مذكرات: "أسماء (سعيد، خلدون، دوف/ ديفيد، صفية، موشه، تورا روزنشتاين) وفي إحدى الصفحات، كتبت السيدة صاحبة المذكرات، وقعت بعد نهاية كل مذكرة باسمها "ميريام" ص148.
لكن ليس ذكر اسماء الشخصيات لوحده مثير، فلا بد من تتابع الأحداث التي جرت لهذه الشخصيات: "رحلنا إلى تل ابيب، يجب أن يبقى ديفيد بعيدا عن عين سعيد، لقد تربى صهيونيا، ويخدم الآن في جيش الدفاع، بعد أن تزوج، فضلنا جميعا أن يتحول إلى يهودا، لكي ينتمي أكثر من مجرد اقتران اسمه باسم ديفيد بن غوريون.
يجب أن يمحى اسم خلدون إلى الأبد، وأن يبدأ ديفيد حياته بعد الزواج منتسبا إلينا كعائلة يهودية من أصول بولونية، أخشى أن يصحو ذلك العربي النائم فيه، أو الميت.
لقد أحببته بعدما غدا يهوديا أكثر منا، فرحت عندما قرر الانخراط في جيش الدفاع، شعرت بمدى نجاح مهمتنا، عندما قابل عائلته العربية بعد حرب حزيران، وقف كيهودي حقيقي ليختار ما تم إعداده من أجله" ص148.
إن العودة إلى الماضي مهمة لتنشط ذاكرتنا، ولتذكينا المأساة التي حدثت ل"سعيد وصفية وخلدون" وأيضا تذكرنا بأن هناك مجرمين قاموا بسرقة الطفل وتحويله إلى عدو، عدو لأهله ولأسرته ولشعبه، وقد أقاموا على جريمتهم بعد تفكير وتخطيط، بمعنى انها جريمة كاملة، لا لبس فيها، وهذا ما أكدته "ميريام" حيما أضافت: "عندما سمعت اختيار دوف/ديفيد/يهودا القادم أمام سعيد، شعرت أني انتصرت، كما انتصر الجيش في حيفا، وكما اخذنا أورشليم/ خسر سعيد كما خسرت القوات العربية" ص149.
هناك تفاصيل لا بد من ذكرها في اللقاء الذي تم بين "سعيد وخلدون/دوف"، ومن يعود إلى رواية "عائد إلى حيفا" سيجد هناك موقف متطرف من "خلدون/دوف" تجاه "سعيد"، كما يجد اللقاء غير مفصل من قبل "غسان" فهو لم يدخلنا إلى التفاصيل التي جعلت "دوف/خلدون" يكون بهذه القسوة، لكن الراوي في "الرقص الوثني" يقدم لنا تفاصيل تزيل هذه الغشاوة وتجعلنا نعرف حقيقة ما وراء هذه القسوة ودوافعها والطريقة التي جعلت "خلدون" يسلكها: "نجحت ميريام في مواجهة سعيد، وتحلت بالروح الصهيونية التي مكنتها من إتمام ما تم تدريبها عليه منذ البداية، لقد كانت التوقعات بعودة سعيد وصفية في يوم من الأيام أكيدة مئة بالمئة، لذلك تم التحضير لهذا اللقاء المتوتر بحيث تسهل السيطرة عليه وتوجيهه" ص287.
لقد كانت اللقاء معدا في السابق ومخططا بشكل محكم، بحيث لا يترك أي أثر على "خلدون" في المستقبل، كما أن "ميريام" تدربت على اسلوب وطريقة التعامل مع "سعيد" قبل أن يعود إلى حيفا، على النقيض من "سعيد وصفية" اللذان جاءا بعاطفة ومشاعر الأبوة، من هنا لم يبديا أي مشاعر أو ردة فعل متطرفة ـ كحال العرب ـ في هكذا وضع، فذهبا وكأنهما يمتلكان برودة اعصاب الانجليز.
والآن يمكننا معرفة حقيقة ما جرى بعد اللقاء، عاد "سعيد" إلى رام الله: " وأخبر العائلة بما حدث معه، سافر ابنه الاخر خالد متسللا إلى عمان، وعلمنا أنه انضم إلى منظمات ياسر عرفات، بينما بقى سعيد ضائعا بين ألم الخسارة والخوف من التضحية" ص288، نفذ "سعيد" ما قاله ل" دوف" ويرسل/يذهب "خالد" ليعيد ما سلب منه، لكن العمل الفدائي متراكم ومترابط، والفدائي ليس أكثر من حلقة في سلسلة طويلة، ويمكن أن يستشهد أو يؤسر، وهذا ما حصل مع "خالد": "تم اعتقال خالد قرب قرية عقربة في منطقة يسميها الأهالي ب "الصير" كان يجلس هادئا، هو يحتضن بندقيته الاتوماتيكية الفارغة، لم يكن خائفا، كان آخر من تبقى من هذه المجموعة المتسللة، والتي اشتبكت مع عدد كبير من قوات الجيش المدعومة بالهيلوكبتر، أصبنا بخسائر فادحة، لكن العملية تم احباطها في النهاية ولم يبقى أحد من المتسللين حيا إلا خالد سعيد" ص289، هذه تكملة الاحداث في رواية "عائد إلى حيفا"، فالشخصيات حية وفاعلة ولم تنتهي عند ما قاله "سعيد" ل"دوف"، ومثل هذه التفاصيل تخدم فكرة استمرار الصراع.
يموت "سعيد" قهرا بعد أن يعرف بأسر "خالد" والحكم الذي صدر بحقه، و"صفية" تصاب بالسكري، والتي كانت تحاول أن تتغلب على واقعها المأساوي فقد: " كانت تغزل الصوف وكأنها تقاتله نيابة عن الدينا رغم أن النتيجة كانت جميلة، ما لا تبيعه تهبه للمحتاجين.. منذ وقع خالد في الأسر لم تعد تغزل للناس، غزلت ثلاث جرزات لترسلها إليه، لكي تحميه من الشتاء، مات صفية أيضا بعد سعيد بسنة واحدة" ص292.
هذه نهاية عائلة "سعيد" الفلسطينية، وهي نهاية مأساوية بالتأكيد ومؤلمة إنسانيا ووطنيا، ولا يمكن لكل من يقرأها إلا الانحياز لها والوقوف إلى جانبها، لكن من جهة أخرى نجدها منسجمة مع ذاتها، "سعيد" الذي فقد الأبن الأكبر "خلدون" وتلقى منه صفعة مدوية حين قال له "كان عليكم إلا تخرجوا من حيفا، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن إلا تتركوا طفلا رضيعا في سيرير، وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم إلا تكفوا عن محاولة العودة، لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا، أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون! الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات" ص406 و409 الآثار الكاملة لغسان كنفاني، يحاول أن يصحح الخطأ الذي اقترفه في عام 1948 من خلال "خالد" الذي أصبح مقاتلا في الثورة الفلسطينية ليسترد ما فقده.
وإذا ما توقفنا عند حالة "سعيد" نجده كأي أب يحمل شيء من الخوف/التردد الإنساني تجاه فقدان الابن الثاني "خالد"، وهذا أمر طبيعي، وعندما علم بأسر "خالد" تألم، حزن كأي أب يتعرض ابنه للأسر، ونجد "صفية" سلمت بالأمر والواقع، وحاولت أن تتكيف مع الواقع من خلال ارسال جرزات الصوف "لخالد"، لكن "السكري" عجل في نهايتها، فالألم التي عانته أسرة "سعيد" ألم إنساني ووطني، ويمكن لأي إنسان أن يمر به أو يتعرض له.
"بنيامين بن يهودا"
يعرفنا الراوي على هذه شخصية وما تعانيه من صراع، فهي شخصية غير منسجمة مع ذاتها، وتعيش في حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار، وإلا ما الداعي لأن تبحث عن جذورها البيولوجية؟، وما الداعي لوجود تلك الأوراق والمذكرات إذا كانت صادقة مع ذاتها؟ وهذا ما وضحته "إستير" عندما خاطبته قائله: "أسرارك الخاصة هي جذوري أيضا، بابا، وكما أن من حقك الاحتفاظ بها بين أربعة جدران، فإن من حقي أيضا أن أعرف من أكون أنت عربي الأصل بابا! هل هذا صحيح؟" ص159، عقدة الجنس/الأصل أهم مشكلة عند اليهود، فهم شعب الله المختار، وهم من خصهم الرب بهذه الأرض، وإذا عدنا إلى موقف "تسيبي" المتشنج عندما ذكر النبي "إسماعيل" أمامها وكيف صرخت بحدية: "إنه ابن الجارية المصرية"، نعلم الخلل الذي بنيه عليه افكر الصهيوني، فنقاء العرق شرط أساسي في الفكر الصهيوني، كما أن الدين اليهودي الرافد الأهم لتغذية هذا الفكر، لهذا نجدهم يحملون دين مغلق على أصحابه، ولا يقبل (الغرباء).
من خلال هذه الثنائية في الفكري الصهيوني يكون " بنيامين بن يهودا" غير مستقر القناعة بنقائه وصفائه، ويحاول جاهدا أن يعوض عقدة الخلل في العرق/الجنس/الأصل من خلال عمله الحثيث والمخلص في خدمة الدولة.
يقدم لنا الراوي حالته من خلال الحوار الذي يتم مع "إستير": 
"ـ: أنا إسرائيلي، يهودي، قد نشأت كما نشأ جدك، يهودا مخلصين للدولة.
ـ: هل أنت متأكد أنك نشأت، أم سرقت، لا تنكر أنك كنت تخرج من الغرفة وأنا صغيرة، وأنت تمسح الدمعة عن عينيك، وكثيرا ما كنت أشعر بإحساسك بالضياع، هل عرفت أن تفانيك ومحاولة نجاحك ناتج عن إحساسك بالغربة؟
..أنت عربي؟ هل جدي يهودا هو ديفيد؟ هل صفية هي أمه العربية؟ سعيد العائد إلى حيفا هو جدي الحقيقي؟ كيف كان ذلك كله؟" ص160، إذا كان الإنسان منتمي لجهة/لطرف/لفكرة يكون منسجما ومتزنا، ولكن إذا كان غير منسجما وغير متزن، سيعيش في حالة اضطراب وصراع بالتأكيد، وسيكون هناك خلل في شخصه أو في الفكر الذي يحمله، وها هو "بن يهودا" يعترف بحالته غير المستقرة :
"أنا لا أعرف إستير، أنا لا أعرف، فقط أريد أن أحيا بسلام، أخرجي من هنا واتركيني أبحث عن قليل من السلام، هيا أخرجي" ص160، الملفت في فعل "أبحث" جاء ليؤكد حالة عدم الاستقرار، رغم المكانة العلمية والأمنة التي وصل إليها، ونجده شبه منهار عندما يقول ل"تسيبي" : "هناك من يقوم بتصفية الحسابات معنا" ص161، إذن الخلل يكمن في الفكر الذي يحمله "بن يهودا" فهو رجل متفان في عمله، ومخلص في عطاءه، لكنه نفسيا، غير مستقر، ويعاني من عقدة الجنس/الأصل/العرق الذي يجعله مشوش، غير نقي: "ـ بنيامين، هل تريد ان تخبرني أن أصولك عربية؟
ـ : نعم ، لا أعرف، لقد تربيت صهيونيا يهوديا أخدم الدولة بكل ما استطيع، وأبني الوطن، هذا ما أعرفه، ولا أريد أية بلبلة في حياتي" ص162، إذا ما أخذنا أي إنسان آخر يولد في بلد ما، وينشأ فيه، ويتحدث بلغة سكانه، ويتعلم بجامعاته أو يعمل فيه، يكون منتميا ومنسجما مع ذاته ومع الشعب الذي نشأ فيه، لكن في حالة اليهودي "بن يهودا" نجده غير ذلك، وهذا يعطينا فكرة، أن هناك الخلل في بنية الفكر الذي يحمله، الفكر الذي يعتمد على الجنس/العرق/ وليس الانتماء أو العمل، من هنا يمكننا أن نفهم الطريقة القذرة يتعامل بها المحتل مع العملاء، فهو يعتبرهم غرباء غير أنقياء العرق، لهذا يتم تصفيتهم أو ترحيلهم.
حالة عدم الاستقرار تدفع "بن يهودا" ليبحث عن أجداده في مخيم الجلزون في رام الله،: "أنه يود الذهاب إلى رام الله، إلى مخيم الجلزون، يريد أن يبحث عن شيء ما" ص236، مفارقة محزنة، رجل يحتل مكانة عالية في التعليم، وله وضعه في الأمن، ومع كل هذا، نجده يشعر بعقدة النقص، عقدة عدم اندماجه مع المجتمع الذي يخدمه، رغم كل هذا التفان، فأي خلل هذا؟، ما هي المشكلة؟، ومن هو مسببها؟ كل هذه الأسئلة تشير إلى وضع غير عادي تعيشه شخصية "بن يهودا" وعلى أن هناك خلل في الفكر الذي يحمله.
دولة الاحتلال ومؤسساتها ورجالاتها يتعامل مع أي كان على أنه شيء/جماد وليس كائن بشري، وهم على استعداد أن يراقبوا أنفسهم إذا ما طلب منهم ذلك، فالدولة عندهم هي الإله "يهوه" المقدس، الذي لا يرفض له أمر، وأوامره يجب أن تنفذ، "بين يهودا" رغم ما يتمتع به من مكانة علمية وأمنية، إلا أنه أيضا يكون تحت المراقبة وتحت أعين الدولة وأجهزتها، "شلومو بن أورون" أحد ضباط كجاز الأمن العام، يقدم/يعطي ل "بن يهودا" تقارير وافية ومفصلة عن عائلة "سعيد وصفية" تزيد من متاهته وما جاء في هذه التقارير ما يلي: "لم يكن البروفسور يعرف أن خالدا هو شقيق عمه، كان صغيرا عندما عرف بالعملية التي حدثت قبل سنوات، قص عليه والده حكاية المتسللين الذي تمكن هو الجيش من قتلهم، وأخبره كيف تمكن من أسر الشاب الوحيد الذي نجا من العملية، لم يعرف بنيامين أن من يتحدث ديفيد عنه هو خالد سعيد عبد الحق الذي هو بالأصل ابن سعيد عبد الحق، الرجل الذي جاء إلى ميريام في حيفا يبحث عن ولده الذي نسيه تحت النار وهرب، وأن يهودا هو ديفيد، وهو ذاته من الناحية البيولوجية خلدون سعيد عبد الحق الأخ الشقيق لخلدون سعيد، والآن خلدون قد اعتقل شقيقه، وألقى به في المعتقل محكوما بالسجن في سبيل الدولة" ص290، بعد هذا التقرير تزداد حالة "بين يهودا" سوءً، فهو الآن يعرف بأن ما حدث لعائلته في عام 1948 ما زال أثره حيا وفاعلا، لهذا تتوالى الأحداث وتتراكم فوق بعضها، بحيث يصعب حلها، أو إيجاد مخرج لها.
لكن إنسانية "بن يهودا" تجعله يطلق هذه الكلمات: "اللعنة عليك يا شلوموا" ص290، ويبدأ في خوض حالة من الصراع تجله ينحاز ـ حسب ما جاء على لسان الراوي ـ للضحية على حساب الجلاد الذي هو جزء منه: "فهم الآن شعور إستير بالضياع بعد الصدمات التي تعرضت لها، هذا هو معنى أن يكون الإنسان ضائعا بلا هوية واضحة ينتمي إليها، يختار طريقه بنفسه، هو الآن خليط حقير من البشر الذين لا ينتمي لأي منهم، فقد خدم الدولة بإخلاص، لكنها سبق وصنعت منه مسخا، ومن والده فرانكشتين جديد، الفرق أن فرانكشتين الأصل هو خليط من لحم الضحايا، بينما فرانكشتين الإسرائيلي الصهيوني خليط من لحم الأحياء، طفل فلسطيني تتم تربيته إسرائيليا ليقتل أخاه الفلسطيني" ص290و291. وهنا تنكشف حقيقة الدولة/ الإله "يهوه" المقدس، فهي/فهو مجرم بحق الإنسانية وبحق من يخدموه/ا، ولا يبالي بأحدا أيا كان، وبما أن الدولة/الإله مقدس فله أن يفعل بعباده وبخدمه ما يشاء، فهو صاحب القرار الذي لا يرفض أو يناقش.
"إستير"
مجموعة من الأحداث والعلاقات تجعل "إستير" تمر في حالة من عدم الاستقرار، علاقة الحب التي تنشأ بينها وبين "سليمان شاهين"، وهنا تقع أول مشكلة عند "إستير" فكيف لها أن ترتبط بشاب من غير دينها؟.
والمشكلة الثانية: بعد أن تقرأ أوراق "بن يهودا" السرية تعرف أن جذورها عربية ـ هذا قبل أن تعرف أنها أبنه بالتبني ـ وبعد أن تعرف أنها ابنة بالتبني تزداد حيرتها أكثر بحيث ترجح أنها من إحدى العائلات الفلسطينية التي جاءت إلى البحر وفقدت أبنتها، وهنا تكون المشكلة الثالثة، وما يؤكد أن جذورها عربية، لم يتقدم أي من الأسر اليهودية ليسأل عنها، كعادة اليهود الذين يملكون جهازا امنيا يبحث عن أبنائهم.
"إستير" تمر بحالة صراع أصعب وأعمق من تلك التي مر بها "بن يهودا" حيث علاقتها ب"سلميان" وجذورها العربية كلها جعلتها متطرفة في مواقفها، من صورة الصراع الذي تعانيه: "دارت الغرفة بإستير عندما عرفت أن بنيامين هو بن يهودا/ديفيد/ بن سعيد العائد إلى حيفا، عرفت أنها تنتمي للعرب، أبناء عائلة مطير قد يكونون أبناء عمومتها، بن شاهين قد يكون أحد أقربائها، أصرت أنها لا تشعر أنها عربية، هي يهودية علمانية، إسرائيلية، بل لا تستقر على وصف حالتها" ص150
إذا ما اخذنا فارق السن بينها وبين "بن يهودا" يمكننا ان نستوعب الحالة التي تمر بها، فهي لا تخفي "اضطراباها/صراعها/لخبطتها في حسم موقفها، فتظهر مشاعرها وأفكارها، ولا تبقيها في "غرفة الأسرار"، لهذا نجدها تخاطب "بن يهودا": "أسرارك الخاصة هي جذوري أيضا، بابا، وكما أن من حقك الاحتفاظ بها بين أربعة جداران، فإن من حقي أيضا أن أعرف من أكون؟" ص159، مثل هذه الصراحة والوضوح تشير إلى أن "إستير" لا تخشى خسارة أي شيء، فهي لم تعطي/تخدم الدولة كما فعل "بن يهودا" فهي ما زالت في أول الطريق، وتريد أن تحسم أمر هويتها قبل أن تغرق في خدمة الدولة/الإله، من هنا نجدها واضحة وصريحة ولا تخشى شيئا ولا تخشى أحدا.
حيوية الشباب تجعل ميول الفتاة متطرفة، ولا تخضع للسيطرة الأب أو الأم، ولا تنفيذ الأوامر والنصائح التي يوجهانها، لهذا نجدها تقف بصلابة أمام أمها عندما تحدثها عن ضرورة التخلي عن "سليمان":
"ـ : أنت ذاهبة إلى العربي، إستير، لقد غسل دماغك بأكاذيبه الملفقة.
ـ : أنا أيضا عربية ماما،، ألم تعلمي ذلك؟ لا خيار لي، لكني لست ذاهبة إلى بن شاهين حبيبي، إنه يقبلني كما أنا، يهودية أم عربية، أننتم فقط ترفضون العرب، أنا لا أحتمل أن أعيش غريبة، سألتحق بالجيش، سألتحق بوحدتي التي تدربت فيها، القائد قال لي أني سأكون مفيدة للوحدة" ص163، رغم قناعتها بأن العرب وحبيبها "سليمان" يحملون فكر أنقى وأكثر إنسانية من أمها، إلا أنها تقرر ان تقوم بعمل لا يتناسب وتلك القناعة، التحاقها بالجيش، وهذا التصرف ناتج عن حيوية واندفاع الشباب الذي يأخذ مواقف متطرفة ومتناقضة.
يفصل لنا الراوي طبيعة وخلفية هذا القرار ودوافعه:
"ـ : متى سنتزوج يا بن شاهين؟
ـ : عندما نكون جاهزين، حبيبتي إستير.
ـ : لديك أسبوعيا حبيبي، أما أن تتخذ قرارا بشأن الزواج، أو ألتحق بالجيش؟" ص172، حالة الاضطراب وعدم السيطرة على المشاعر واضحة فيما سبق، فهي تعاني من ضغط نفسي ولا تستطيع التخلص منه أو السيطرة عليه، لهذا نجدها: " تناولت حقيبة اليد، لكنها قبل أن تغادر، قالت:
ـ : هل تأخذني إلى مخيم الجلزون في مدينة رام الله؟ 
ـ : أريد ان أقابل صفية أو أي احد من أبنائها أو أحفادها، هذا أمر مهم جدا بالنسبة لي" ص172، إذن هناك مشاعر محتقنه، وتريد أن تتخلص منها، لكنها لا تعرف الطريق/الأسلوب المناسب لتفريغها، لهذا نجدها مضطرب الأفكار والأقوال، فتتحدث بشكل غير منسجم، تأخذنا إلى اليمن ومرة إلى الشمال.
تأكيدا على انفعالها: "ـ : أيه صفية؟ سأل بن شاهين،
ـ : صفية، المرأة في رواية عائد إلى حيفا وزوجها سعيد، أو أبناءهما أو أحفادهما، هل تأخذني إلى رام الله، اريد أن أعرف لماذا تركت جدي وراءها وغادرات إلى مكان آخر، كان بإمكانها البقاء والاختباء أو الانتباه لولدها، أو فداءه بروحها كما يدعي العرب فداء الأرض بأرواحهم؟ ص172. 
نجد فيما قالته أنها تتحامل على العرب، أو تحمل "صفية وسعيد" مسؤولية ما يحصل لها، وما حصل لجدها "دوف" لهذا نجدها تطرح الاحتمالات التي كان من الممكن أن يفعلانها، ونجد الألم الذي يعتريها، فهي تتألم لما هي فيه، كما تتألم لما حصل لعائلة جدها أيضا، 
يقدم لنا الراوي حالتها قبل ذهابها إلى الجيش من خلال هذا المشهد: "ناقشت إستير أن إثبات الهوية يجعلها بتناغم مع مجتمعها ومحيطها، فإن كانت أصولها عربية، فستنتمي إلى العرب بإخلاص وتناضل من اجعلهم وأن كانت يهودية الأصل فستناضل مع اليهود." ص229، لكن "سليمان" الفلسطيني العربي يوضح لها حقيقة جهلتها أو تتجاهلها كيهودية تربت على الفكر الصهيوني، يقول لها: "إن كان الانتماء للجماعة أكثر أهمية أم الانتماء للحب والحق والعدالة والإنسانية؟" ص229، من خلال هذه الفقرة يعري "سليمان" الفكر الصهيوني وحامليه، مبينا أن هذا الفكر مدمر لكل ما هو إنساني، مدمر للحق، للحقيقة، فالأوهام التي يزرعها في اليهود تجعلهم يفقدوا إنسانيتهم ويصبحوا وحوشا بشريا، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم أعلى من بقية البشر، فهم يستمدون هذه الفوقية من الدولة، من الإله "يهوه"، من هنا نجدهم يقعون في مستنقع الصراع النفسي عندما يشعرون أن هناك شيء يمس تلك الأكاذيب والأوهام التي يزرعها الإله/الدولة فيهم.
من مظاهر الصراع التي تمر بها "إستير" هذا المشهد: " بكت كثيرا، وأصرت على الالتحاق بالجيش، ليس من أجل البحث عمن تنتمي إليه أو تثبت أنها تنتمي إليه، بل انتقاما من كل من حولها" ص230، حالة البكاء، ذهابها للجيش الذي جاء كرد فعل وانتقام ممن سببوا لها هذا الألم/الحيرة/الصراع، يجعلنا نتأكد بأنها غير مقتنعة بالجيش، وما ذهابها إلا كمن يقدم على الانتحار كرد فعل ـ العاجز ـ عن مواجهة وحسم الأمور كما يريدها.
بعد أن تشارك استير في العدوان على غزة، لا تستطيع النوم فتكون بهذا الحالة: "عندما تنام تشعر أنها تسقط في حفرة عميقة، ..بدأت إستير تعاني من نوبات صداع حادة لا تزول إلا بمسكن الترامادول" ص251، بعد هذه الحالة التي وصلت إليها تعرض نفسها على طبيب الوحدة وتخبره بحقيقة مشاعرها وما تعانيه من صراع فكري فيتم 
إخراجها من المعركة، وترسل إلى طبيب نفسي للعلاج، وهناك تخبره بحقيقة من تعانيه: " لم تعد قادرة على احتمال التمييز والعنصرية، وتمقت فكرة التفوق التي يزعمها المجتمع والادعاء بالأفضلية على كافة شعوب الأرض من يسمون بالأغيار حسب الفكر اليهودي والصهيوني" ص255، هي صريحة في آرائها وواضحة، لا تخفي ما تفكر فيه وما يؤرقها، لهذا تتحدث بكل وضوح أمام الطبيب، الذي يقر بأن: "إنها تعاني من اضطراب في الهوية بالإضافة إلى أعراض الصدمة التي تلقتها في الحرب.
أنها تعاني بشدة من اضطراب فقدان الهوية.
الفتاة مضطربة، ضائعة بين كونها يهودية وبين حبها لعربي يصنف كعدو بين أقرانها، مشتتة بين ما أخبرتها به تسيبي من أنها متبناه ولا تنتمي للعائلة، كل ذلك كان قاسيا جدا" ص264. هذه حالة اليهودي عندما يتعرض لفكر/لموقف/لحالة تتنافى أو تتناقض أو تتباين مع الأفكار التي تزرعها الدولة، يزرعها الإله "يهوه" في أبنائه، فتجعلهم في ضياع وتيه لا يعرفون الخروج منه، فأي فكرا هذا؟ وأي اشخاص يقبلون أن يكون بهذا الخضوع والاستسلام؟. 
يأتي الخلاص من مرض "إستير" من خلال "سليمان" الذي ما أن تقابله حتى " ألقت بنفسها بين ذراعي بن شاهين الذي وقف ليسلم عليها، عانقته بعنف وبكت بحرقة كانت يداها حديديتين وهما يلتفان حول عنقه" ص303، وهنا تبدأ حالتها في التحسن، يقول طبيبها حاسما الموقف بضرورة التخلي عن فكرة نقاء العنصر ونقاء شعب الله المختار : "الحب والقيمة الإنسانية هما الطريق الوحيد للشفاء الجيد يا عزيزي" ص305، ويحسم "بن يهودا" موقفه من الفكر الصهيوني الذي يحمله، ويحسم موقفه من زواج "إستير" ب "سليمان" فيقول: "اللعنة عليك يا شلومو، لقد صنعنا في إسرائيل فرانكشتين جيدا، من لحوم الضحايا الأحياء، لقد دخل فرانكشتين بيوتنا وتبلس أبنائنا" ص305. 
النهاية والفنتازيا
الراوي يختم روايته بطريقة تنتصر فيها الضحية على الجلاد فيجعل "بن يهودا": "قبل شهور زار بن يهودا مخيم الجلزون كمستشار لجمعية أهلية غير ربحية (NGO) أقام كعضو لجنة مناصرة للشعب الفلسطيني، استضافه الناشط والكاتب محمد خالد سعيد عبد الحق في بيته، وناقش معه فكرة كتابة رواية عن جده سعيد عبد الحق، قال إنه سيبنى على ما كتبه غسان كنفاني في روايته عائد إلى حيفا" ص313، فيبدو وكأنه يبحث عما يعترف له بالخطيئة/الجريمة التي اقترفها جده "دوف"، ويريد أن يعوض الضحية عن شيء مما فقدته من جوع وحرمان. 
ولا يكتفي الراوي بهذا، بل نجد "بن يهودا" يحاول أن يقدم اعتذاره ويصحح الخطأ الذي اقترفه جده "دوف" من خلال الاعتراف الجريمة التي اقترفتها "ميريام" من خلال: “ أوصى بنسبة الرواية إلى ابن عمه محمد خالد سعيد عبد الحق، قال أنه كتب ما استلهمه من نقاش محمد عبد الحق، ولولا نقاش محمد والأسئلة التي توقد ذهنه عنها ما استطاع إنجاز الكتاب" ص314. وكأن الراوي بهذا الاعتراف اراد ان ينصف الحق ويعيده إلى اصحابه. 
اخطاء الرواية
في كل عمل إنساني لا بد من وجود بعض الأخطاء فيه، وهذا العمل لا يخرج عن هذه القاعدة، من هذه الاخطاء جعل المحامي "سليمان شاهين" يعرف الاسم الكامل لإدريس في الصفحة 137: "ما علاقتك بإدريس حمدان العتيق؟" لقد كان هذا اللقاء الاول بين "مايك سمرون" مع المحامي، فكيف عرف اسمه كاملا؟، اعتقد أن هذا خطأ وقع فيه الراوي.
ونجد خطأ آخر عندما أخبرنا على الكتاب الذي أرسله رئيس الجامعة إلى "بن يهودا" والذي جاء بهذه الصيغة: " رئيس الجامعة يستدعيه إلى المثول غدا بين يديه لمناقشة عدد من الشؤون الأكاديمية" ص 188، فكلمة "مثول" تعطي مفهوم أن هناك مشكلة ما، وأن اللقاء سيكون متعلق بأخطاء اقترفها "بن يهودا" وكأن الراوي يخبرنا ـ سلفا ـ بما سيكون عليه اللقاء، وهذا ما كان .
وهناك خطأ ورد في فقرة: " أبدى بن شاهين أسفه لما حدث مع تسيبي، قال بن يهودا أنه أوكل محاميا كبيرا ليترافع عنها في القضية، ربما شك أن إستير قاسية أو أن بإمكانها أن تفعل ما تريده بأي ثمن" ص301، الخطأ في "إستير" والصحيح هو "تسيبي" .
كتابة الراوية
جميل أن يتم تجاوز السرد المألوف في العمل الروائي، الراوي يحثنا عن طريقة اختيار العنوان من خلال: " وصل بعد قليل مندوب من دار "موريشت" للنشر والتوزيع ومعه طرد كتب عليه رواية رقص الكولونيل/ الجزء الأول، الرقص الوثني/ وطرد آخر كتب عليه أيضا: رقص الكولونيل: الرقص الملكي" ص310، وهنا العنوان والراوية متعلقة "بن يهودا" في مقابل دار النشر الإسرائيلية والمؤلم الإسرائيلي، نجد تدخل من "سليمان شاهين" المدافع عن حقوق الفلسطينيين، ليكون حق سردها لصالح هذا الشخص: "رفع المدعو محمد خالد سعيد عبد الحق، الروائي من رام الله قضية إلى المحكمة يدعي ملكيته وأحقيته بهذه الرواية، أن البروفيسور بن يهودا قد سرقها منه أثناء زيارته له إلى رام الله" ص313." فهنا يقدمنا الراوي من الحقيقية وأصحاب الحق اكثر ، ليكون صوتهم هو المسموع، وفعلا يتم أخذها إلى "مدير دار النشر "مساءات، ميلاد أبو حشيم" ص314، والذي يقدم الرواية لجائزة البوكر، طبعا هنا تلاعب من الراوي بالأسماء، والمقصود هو دار فضاءات ومديرها "جهاد أبو حشيش" لكن النهاية كانت مفاجأة لنا عندما قال الراوي: "محمد عبد الحق إنه لم يكتب الراوية، وإنما للرواية كاتب آخر هو من تواصل معه منذ البداية، لذلك فالرواية جملة وتفصيلا هي لروائي من القدس، هو الذي خلق الشخصيات، وابتكر المؤامرة الإبداعية" ص314، هنا كل شيء ضمن المنطق السردي، فهذا يمثل تجديد وتغيير في شكل السرد، لكن الراوي يفصح عن نفسه من خلال "إعلان" (26)، وهو آخر فصل من الراوية : "أعلن أنا إياد شماسنة عن تسامحي مع الحالة التي حدثت بعدما نشرت رواية "الرقص الوثني باسم بنيامين بن يهودا ثم باسم محمد خالد سعيد بد الحق. إن سعادتي عظيمة لأن شخصيات روايتي خرجت من تحت وصايتي الإبداعية واكتملت وأصبحت تنافسني" ص317.
وفعلا كان خروج الرواية إلى النور قد أدهشنا وأمتعنا، وجعلنا نتأكد بأننا يجب ان ننحاز للحق، وأن نبقي ألمنا متقدا إلى أن نأخذ حقنا، كما أخذ "محمد عبد الحق" حقه في سرد الراوية، وإلى يكون هناك من يعترف بالجريمة التي اقترفت في عام 1948،كما اعترف "بن يهودا". 
بقي القول الرواية من منشورات فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2017

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 134 مشاهدة
نشرت فى 15 مايو 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

578,688