دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

إنّ المنزلَ في داخلي.. وبما أنّ له تصميمًا آخرَ مُبايِنًا للجمالِ والنّظام تماما، فإنَّ لِفـَوْضاه وقُبْحِه دورا في صناعة قسطٍ، لعلّه الأهمّ، مِنْ حضوري في الحياة.. إنّ محتوياتِ الرّوح وتركيبة مزاجِ النفسِ لا يمكنُ أنْ تكون صِرْفاً من بصماتِ كآبتنا القديمة أو ذعرِنا الأوّل، أو ذبذبات الأنسِ الخافتة.. أنا أسمع صوتَ أمّي في خشخشةِ الحطبِ الذي تتلحّسُه النّارُ فيدندِنُ ترنيمةَ الاضطرام. أنا أسمعُ مِنْ بعيد مِنْ غياهبِ الوقتِ النّازحِ في الغيبةِ، عجينَ دقيقٍ يموءُ في جفنةٍ تُقْرَعُ بلطافةٍ، فآنَسُ، تُداخلني ألوانٌ من جذلٍ جارح.(عُذْرًا، عليّ أنْ أخلعَ أثوابًا عن راهنيّتي حتّى تغطسَ ذاكرتي في نهرٍ الذّاكرة المقدّس لتتطهّرَ فتحْـيا طقوسَ الذّكْرى..) أليس هذا ما يُسمّيه محمود درويش:"حضرة الغياب".. هذا قِطافُ فاكهةِ الآفِلاتِ.. كيف تقطفُ الذاكرة الوقائعَ الذّائبةَ وقد انحلّتْ في تفاصيلِ الوقتِ المتلولب؟ !ذلك يكونُ عن طريق الفقْدِ الذي يُفْضي إلى مقارنةٍ بالحواسّ: أنا لا أسمعُ الآن، في منزلِ الكهولة الثّانية (من سنّ الثلاثين إلى سنّ الخمسين تقريبا، في اعتقادي هو سنّ إرجاء الموت فكرةً) خشخشةَ الأحطابِ العازفة، ولا مُواءً في جفنةٍ تقْـرَعُها يدٌ تنْحتُ إيقاعَ العُمْرِ الأوّل، ولا نقيق دجاج ينتشرُ في الأرض، بُعيْدَ إسفارِ الصّبْحِ.. أنا لا أشمّ رائحةَ الشايِ تُحمحِمُ في غرفتي و تغلغلُ تحت المُلاءةِ. لا أسمعُ حوافرَ أتانٍ والدي تُوقِّعُ الفوضى.. ما يجعلُ الإنسانَ في بؤرةِ مقارنةٍ عجيبة، هو أنْ يكون ملتَقَى أصواتٍ وافدةٍ من أفولٍ ممعنٍ في أفوليّتِه، وأصواتٍ تتوافدُ لامعةً بلحظتِها، وكلّ منها مختلفٌ عن الآخرِ، نقيض له.. ذاك يدفعني إلى أنّي أشكُّ في سلامةِ حواسّي، إلى درجةِ أنْ يتبادرَ إليّ أنّ أذنيَّ ليستا تينكَ اللّتيْن سمعتُ بهما كلّ حكايا تاريخِ سَمَاعي الطفوليّ و الشبابيّ، و أصواتًا غير التي أسمعها الآن. و ذلك ينطبقُ على أنفي الذي يشمّ روائحَ لا يفقَه لها طعْما. و كذلك على عينيّ و يديّ و لساني.. إنّني لا أذوقُ الآن ما كنتُ أذوق بالأمْسِ، مع أنّي لم أفقدْ الحواسّ لأنّني أتوجّه إلى سوقِ المدينة.. 
_________ 
سيف الدّين العلوي 

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 86 مشاهدة
نشرت فى 17 يناير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

563,868