دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

- كرسي ابن أخي - 
-------------
ذاك اليوم لم يكن يشبه سلفه ، بل ربما لم يكن يشبه بقية الأعداد من أيام السنة ، الطيور الغاضبة تحلق على ارتفاع شاهق ، نعيقها يملأ الأرض عويلا ، الكرسي الفارغ من اللاشيء يئن وحيدا في زاوية مهملة ، كان ينتظر حدث مفاجئ يؤنس وحدته الشاحبة ، الأمطار منذ الصباح لم تشأ أن تتوقف عن الطيران ، يالها من متمردة ، شجيرات الغابة تطأطئ أعناقها ... 
سار زرداشت ابن السبعة عشر عاما في ذاك الطريق الموحل ، لم يأبه للمطر والبرد اللذين يحاربوا خطواته المتعثرة ، ولا بطنه الممتلئ بكل شيء إلا من الخبز اليابس ، ثيابه المهشمة تحاوره في لحظات التوقف ، تبدي امتعاضها مما يدور حوله ، لكنها لا تلبث أن تنزوي متقهقرة إلى تاريخها العنيد . 
- هل لي ببضع قروش ياسيدي ... 
- منذ متى وأنت بهذه المهنة يافتى . 
- ليست مهنتي ياسيدي ... فقدت أهلي هناك وبقيت وحيدا أتتبع آثارهم عبر رنين هاتف جارنا . 
- أغرب عن وجهي فلدي عمل آخر . 
ضم زرداشت يده الممدودة إلى صدره في عناق جديد ومضى ينفض الوحل من قدميه العاريتين . 
حانة ملونة صاخبة تكتسي حلتها القشيبة في تلك الليلة ، الساهرون يمارسون شتى أنواع الرقص والمجون ، الطاولات تكاد تختنق من الطعام الذي أرخى ضفائره عليها دون خجل ، امرأة مترنحة تخرج لتوها من الباب الخلفي ، السائق يفتح باب سيارة سوداء ... 
- سيدتي ... سيدتي ... 
التفت المرأة المكتنزة الورك ، همت أن تلج السيارة ، لكن صراخ الفتى استوقفها هنيهة . 
- ما بك أيها الفتى ... لقد انتهت وصلتي ، ألم ترني هناك على الخشبة !!! 
( خشبة تقصف رأسك الأشعث ) سرها لنفسه وابتسم ... 
- لم أكن هناك سيدتي ... جائع أنا ... هل تفهمين ما أقول ... 
- جائع ... ههههه ... أيوجد في بلادنا جياع ... قهقهت المرأة بصوت مرتفع جدا هذه المرة . 
- طريقك مسدود ... مسدود ... إن شاء الله ... 
مضت السيارة مسرعة ، تاركة وراءها طفل يطلق صافرة نهاية العمر . 
لم يطل غياب الفجر ، فها هو يصوب أشعته من جديد ، تتبعه شمس كانت متخفية خلف ظلمة وغيم ، بينما يتابع زرداشت مسيره وهو يمسك بطنه الصغير بكلتا يديه . 
( الآن لا بد أن يراني أحدهم ) حدث نفسه وعيناه تبحثان بين جمهرة السيارات التي ( تطرطش ) كثيرا من المطر والطين . 
عندما انتصف النهار كان زرداشت قد فقد ما تبقى في جعبته من أمل . 
- ياله من بناء فخم ... هنا سأجد ضالتي بكل تأكيد . 
ولج المبنى بقدمين موحلتين ، استوقفه البواب ... 
- إلى أين أيها الفتى ... 
- لدي موعد مع صاحب المبنى ... 
- المبنى ليس له صاحب ، هنا الوزير هو السيد . 
- أدري ذلك ، لدي موعد مع الوزير . 
استهجن البواب كلمات الطفل ، لكنه لم يتجرأ أن يصده أكثر ... 
رفع سماعة الهاتف ، تمتم بكلمات لم تصل لمسامع الفتى . 
- أدخل ... أدخل ... عليك بالطابق الثاني ... 
رجل بربطة عنق ، رائحة العطر تفوح منه وتملأ المكان . 
- ماذا تريد يا ... 
- أريد أن أرى الوزير ... لدي موعد معه . 
ارتبك الرجل المتأنق للحظات ، لكنه انصاع لكلمات الفتى ، ربما خشي أن يكون قريبا للوزير . 
- انتظر هنا ... سأعود إليك ... 
لحظات مرت كما دهر ، عاد الرجل ولم يغلق الباب خلفه . 
- أدخل السيد الوزير ينتظرك ... 
رمقه الوزير بنظرات متعاقبة ثم أشاح عنه ، لم يتذكر بأنه شاهد هذا الطفل من قبل ، ملامحه لم توحي له بشيء ما . 
- من أنت يافتى ... ماذا تريد ... كيف وصلت إلى هنا ... 
خيم الصمت على أركان المكتب الفاخر ، في تلك اللحظة ارتعشت لبلابة كانت تتدلى من السقف المزركش ، عيون زرداشت تجول في سماء الغرفة الكبيرة . 
- أنا جائع ياسيدي ... ألم تعرفني !!! . 
قهقه الوزير قبل أن ينقلب على قفاه بكرسيه الوثير ، رفع حاجبيه وعاود قهقهته ... 
- وأنا أيضا جائع ... يعني أصبحنا اثنين ياولد . 
لم يدعه الطفل يتم كلامه ، انقلب على عقبيه حتى وصل إلى باب المكتب ، التفت فجأة ، لم يكن يتوقع أن عينا الوزير تتابعانه ... 
- أنا زرداشت يا سيادة الوزير ، زرداشت ابن أخيك الذي مات هناك تحت الأنقاض ، أتذكره !!! . 
مرة أخرى لم يمنحه وقتا للكلام ، فقد حطت قدماه رحالها في الشارع الخالي من كل شيء ، إلا من سيارة الوزير وواجهة مبنى كبير ... 
( البؤساء يموتون مرة أخرى ) ... قالها زرداشت ثم غادر إلى وجهة غير مجهولة ... 
-------------
وليد.ع.العايش
٥/١/٢٠١٧

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 89 مشاهدة
نشرت فى 14 يناير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

563,936