هندسة الانتباه

العلوم والفنون والآداب

 

الصراع بين الروح والجسد والحب والموت في منف..دراسة الأديب فكري عمر

 

الصراع بين الروح والجسد والحب والموت فى منف.. دراسة وقراءة نقدية لرواية (رنزي يا ظل الإله" للأديبة نجلاء محرم ، بقلم الأديب/ فكري عمر، والتي ألقها خلال استضاف نادي أدب قصر ثقافة المنصورة برئاسة الأديب الدكتور/ أشرف حسن، الأديبة/ نجلاء محمود محرم، وذلك مساء الأحد 4 نوفمبر 2012، وقد أدار اللقاء الأديب/ أيمن باتع فهمي – سكرتير النادي.

ويقول في الدراسة:

تفاجئنا روح "رنزى" البناء فى البداية وقد اطلعت على سر رهيب. تشتَت هدفها.. تدفع الجسد لاتخاذ خطوة لكشف الحقيقة مرة، وتسحبه مرة أخرى بدعوى الحفاظ على وجودهما معاً (الروح والجسد والقرين) لأطول فترة دون التعرض للأذى. هذه بؤرة الصراع الرئيسية التى تسلط الروائية "نجلاء محرم" منظارها الأدبى عليه فى روايتها "رنزى يا ظل الإله"، رحيلاً فى الزمن إلى الوراء. تكشف لنا بعداً إنسانياً، ودينياً فى حضارة لم تتضح كل أسرارها بعد. هى فى نفس الوقت تحيل قارئها إلى واقعنا الآن. هذا الواقع يتمزق فيه الفرد حين يدرك بالتجربة زيف الكهنة فى عصره وفى كل عصر. ما أروع ما يجنيه الإنسان حين يتبع عقله وقلبه فى اتجاه التفكير للوصول لنتائج منطقية ترضيه، وتريح ضميره من التبكيت المستمر! وما أقسى عذابه لو ظل رهين ذلك الصراع بين إشهار الحقيقة أو الحفاظ على الجسد من أذى الكهنة؛ تدابيرهم وإهدارهم لدم من يمس قداستهم المدعاة.
بحرفية سردية تلج الروائية مباشرة إلى جوهر الصراع الفنى من الفصل الأول أو من اللقطة الأولى.. "رانزى" البناء ذو الثمانية عشر عاماً بالتقويم الفرعونى يريد أن يذبح أضحيته فى المعبد دون اللجوء للكهنة. ذهب ليلاً فرأى ما لا يمكن أن يراه أحد أثناء النهار، الكهنة الذين يمجدون "حتحور - البقرة المقدسة" أثناء النهار يضربونها بالعصى تحت أستار الظلام وفى غياب "خنسو – القمر"؛ لأن روح الإله غادرتها.
الروح "با"- لرنزى تتعرض لاختبار صعب. هى مأمورة أن تظل لأطول فترة فى جسده و"كا" القرين الروحى يريد أن يندفع للإعتراف بفعل الكهنة. لكن الروح لا تقدر على امتداد فصول الرواية أن تصمت، إنها نورانية سامية، من السماء هبطت؛ لتلازمه مدى حياته الدنيا، وهى إذ تبكته عبر فصول الرواية؛ فلكى تحافظ عليه من التهور والاندفاع فى قول الحقيقة للفرعون وللشعب، ولتبنيها منهجاً بين الناس، ففى الفصل 36 تقول روح "رنزى" له: "أبداً لن يهدأ بالك إلا بضياعنا يا رنزى.. ليتنى كنت وحشاً من وحوش البرارى لأقطع طريقك وأمنعك عن الوصول.. ليت لى ذراعان وكفان.. ليت لى مخالب وأنياب لأنبشها فيك قبل أن تفعل ما أنت ثاو عليه". ونفهم دوافع قوة الشد والجذب بين الاثنين (با – كا)، وهى إشارة أخرى على تكون الضمير لدى المصريين، وتسميتهم للصوت الداخلى الذى يواجههم بالحقيقة كل وقت بـ"با": الروح السماوية النورانية التى تؤمن بالعدل والخير والحق.
مصر التى كان الفراعنة يطلقون عليها اسم "كيميت" أى الأرض السوداء لخصوبتها. تطالعنا أيضاً بوجه خصوبتها الدينية وتجدد أفكار أبناءها. ندرك أن مصر هى فجر الضمير الإنسانى، منها خرجت الأساطير الأولى للخليقة، ومنها تأسس فكر دينى يعتمد على الحلول، أى تجسد الإله فى روح الحيوان سواء كان هذا الحيوان أو الطائر نافعاً أم ضاراً. إن كان نافعاً فلتكريس نفعه فى الوادى، وإن كان ضاراً فلدفع هذا الضرر عن أهل الوادى.
ملحوظة: لـ"فرويد" رأى آخر له وجاهته فى تطور الأديان إلى هذا الشكل الطوطمى أشار فيه للآلهة المصرية القديمة لكن لن نميل إلى الاعتماد عليه الآن اتساقا مع روح الرواية التى تتحدث عن الصراع من زاوية علاقة الكهنة بالدين، وليس تفسير وجود الدين نفسه بهذا الشكل، وتطوره.
يواجه أهل منف، وضمنياً أهل مصر فى ذلك الزمن وكل زمن، اختباراً وصراعاً آخر مع الكهنة على البر الغربى أرض المعابد والمقابر التى يرعاها أو بالأصح يستحوذ عليها الكهنة. الفرعون يبدو كأنما هو امتداد لـ"رنزى"، وهو ما يمكن أن نستبعده فى الحقيقة لكنه قُدم فى الرواية بصورة تتماهى مع الصراع الأصلى. يتبنى الفرعون "نفر إر كارع" مشروع شق ترعة لاستصلاح هذه الأرض الخصبة؛ ليغدق على شعبه والشعوب المجاورة من خيراتها فيؤمن غاراتهم. لكن الكهنة، وهى مفارقة متوقعة أسست لها الروائية بالحدث الرئيسى فى الرواية، يحاربون كل من يريد أن يعمل لصالح الأحياء. إنهم صورة من صور الموت فى الرواية.. حراسه الأزليون، ومالكوا أسراره، قاهروا الأحياء بتوعدهم باستدرار غضب الآلهة ففى الفصل 32: "على طول الذكرى الضاربة فى عمق الزمن.. لم يسمح الكهنة لأحد بالتفوق عليهم.. أجبروا الجميع على التراجع.. بدءًا بالفلاحين والأجراء.. وانتهاء بالفراعنة والآلهة.. اعتادوا الغلبة والبطش".
هذا هو الامتداد الثانى لـ"رنزى" وصراع الروح والجسد. صراع الحياة يرعاها ضمير يقظ يبحث عن أفضل وسيلة لتحقيق غاياتها ونمائها، من ناحية أخرى تكريس حياة الآخرين لرعاية المقابر والموتى الذين هم فى ظلال نفوذ الكهنة. ففى الفصل الرابع:" لن يسمح لك بأن تقف أمام الإله.. لن يسمح لك.. وأبداً لن تقدم إليه قربانك بنفسك.. سيبقى الكهنة بينك وبينه.. سيبقى خدام القرابين وحدهم العارفين بالطقوس.. وحدهم من يريق الدم على المذبح.. وحدهم من يفهمون لغة الإله فدع المعبد لكهنته.. وعش كما يجب على البناء أن يعيش".
نعرف أن الحضارة الفرعونية قدست الأسرة، وجعلتها أداة القوة والانتماء، هكذا يكون "رنزى" مشتتاً بين رغبة أمه فى اللجوء للكهنة للدعاء لها بالشفاء وبين معرفته بحقيقتهم، فى نفس الوقت تشده "نفرت" الجارة الحبيبة للاستسلام كالباقين؛ ليتزوجا ويؤسسا أسرة جديدة، بينما تدفعه روحه لاتجاهات أخرى. ففى محاورة له مع آسرى جاره وأبو "نفرت" الحبيبة نرى ذلك الغضب:
"- لا أحد غير الآلهة سيشفيها.
– وأين الآلهة يا آسرى؟!
– أين الآلهة؟! أتهزل فى موطن الجد يا رنزى؟ هم هناك قابعون داخل المعبد.. يديرون شئون الدنيا وينتظرون ضراعاتنا ليلبوا بعض ما نتضرع من أجله.
– يتركوننا هنا ويقبعون داخل المعبد؟"
إن رنزى مشتت ، صدمه عدم دفاع "حتحور" عن نفسه ضد الكهنة وهو الإله فى تلك المنطقة، وصدمه وقوف نفس الكهنة أوصياء على الإله أمام الناس دون أن ينالهم أى سوء.
إننا أمام مجموعة من الدوائر المتداخلة يربطها ذلك الخيط العميق الذى حافظ على الحضارة المصرية لمئات من الأعوام. ذلك الخيط القوى هو الضمير أو الدين: برجاله، وكهنته، وفرعونه الراعى، وآلهته التى تبغى الرضا.
نحن فى "منف" تلك المدينة التى أسسها "نارمر" حوالى عام 3200 قبل الميلاد لتكون عاصمة موحدة لمصر، وقد كانت كذلك فى العصر الفرعونى القديم "عصر بناة الأهرام" وفى زمن "نفر إر كارع" ابن كاهن "رع"، حفيد "منكاورع" ذلك الذى مهدت نبوءة "ديدى" الساحر لوجوده.
الفرعون الإله يجلس على عرشه؛ ليهبط الخير وتستتب الأمور. الكهنة فى معابدهم يرعون الديانة والآلهة حتى يعم الرخاء دون طمع فى السلطة. الكتبة والزراع وسائر المهنيين يمارسون حياة العمل دون تطلع إلى الاستيلاء على سلطة أخرى.. هذا هو جوهر النظام المصرى، لكن هل حافظ كل منهم بالفعل على دوره؟
خطط الكهنة لقتل "وينى" ولى عهد الفرعون لأنه تبنى مشروع شق ترعة لاستصلاح البر الغربى. فشلت خطتهم، بل وبدلاً من ذلك قُتل "نارو"ـ يد الجريمة. كما فشلت نفس الخطة التى انتهجها "تحوت نخت"ـ قاضى العدل؛ لقتل "رنزى" حتى لا تشيع أفكاره بين الناس، وكرد فعل على كل اضطهاد لا مبرر له شاعت أفكار "رنزى" لكل دعوة اجتماعية أو دينية تبوح بحقوق يعجز الناس عن طلبها نتيجة الخوف.
تستلهم الرواية أيضاً ما حدث للأنبياء فى العهد القديم من الاستخفاء فى مظهر خداع، والعمل لدى أى راع، والتسلل إلى الأسواق؛ لتمرير أقوالهم ولقراءة ما يدور من حولهم قبل أن يواجهوا الحاكم مرة واحدة.
سعت الرواية إلى نقل فكرة عميقة عن طريق حكاية محكمة تبدلت فيها ضمائر السرد تبعاً للراوى فى كل فصل، وتبعاً للحالة النفسية لـ"رانزى". فى الفصول التى كان يرويها بضمير المخاطب، وكانت الروح هنا هى ضمير المخاطب، مما حقق اتزاناً فى عرض الفكرة، وفى الدلالة التى يمكن أن نستنبطها من طريقة السرد هكذا: إنه مثلما تحاور الروح الجسد ويحاورها الجسد فى شد وجذب فهكذا هى العلاقة بالإله فى كل زمن، أو هكذا يجب أن تكون دون الاحتياج لوسيط كالكهنة.
ظهر الفرعون لأول مرة ليس كما عرفناه من كتب التاريخ وآى الدين. لا أقول إنه ابتداع خاص بقدر ما هو أمنية لدى الروائية أن يكون كل حاكم على هذا المثال ففى الفصل 35 يقول الفرعون: " الفرعون راع للجميع وليس راعياً للكهنة.. وإذا كانت الآلهة قد أجلستنى نيابة عنها لرعاية أبنائها فلأكن أميناً عادلاً مقدماً للمصلحة العامة.. فاهماً وواعياً لرغبة الآلهة فى إسعاد أبنائها وقضاء مصالحهم.. ومصالح الكهنة ما هى إلا جزء ضئيل من مصلحة الرعية.. وإذا ما تعارضت مع مصلحة الناس تُغَلّب مصلحة الناس".
العمل الروائى نجح فى إيصال رسائل عدة مضمرة، ومعلنه؛ فقد غزلت الكاتبة سردها المتزن فى وحدات ومشاهد متساوية فى الحجم، كما صنعت قطعاً متوازياً (كولاج) لتزيد من التشويق والإثارة؛ لتتبع الحدث الرئيسى وقراءته أيضاً فى ثنايا الأحداث الفرعية.
ملحوظات على الرواية:
الملاحظ أن هناك فرقاً بين الجزء الأول من المجموعة والجزء الثانى فى حس التشويق فى مقابل البطء فى نقل الأحداث لكثرة الجمل التوضيحية والوصف غير المطلوب حيث كان يوقف تدفق الأحداث وحسن المتابعة، كما أن الكاتبة لا تستخدم علامات الترقيم فى الرواية فى الوقت الذى تحرص فيه على لغة عربية فصحى فى السرد والحوار، وهو (وجود علامات ترقيم) وهى مفارقة غير محبوبة فى هذا النوع من الأعمال من وجهة نظرى.
الرواية تستلهم فترة معينة من التاريخ الفرعونى، وهى تصنع شخصياتها الخيالية بحرفية عاالية تجعلها مناط الصدق، لكن النهاية رغم ذلك لم تشف شوقنا نحو الوصول إلى نقطة ارتكاز تكون مطلوبة فى مثل الأعمال التاريخية.
حس التأمل العميق يحتاج إلى مبرر فنى أو وحدات سردية موازية. وفى النهاية هى رواية مختلفة فى وسائلها السردية والفنية وفى رسائلها التى تحتاج لقراءات متعددة.

 

 

  • Currently 1/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 279 مشاهدة
نشرت فى 11 نوفمبر 2012 بواسطة elhaisha

ساحة النقاش

محمود سلامة محمود الهايشة

elhaisha
محمود سلامة الهايشة - باحث، مصور، مدون، قاص، كاتب، ناقد أدبي، منتج ومخرج أفلام تسجيلية ووثائقية، وخبير تنمية بشرية، مهندس زراعي، أخصائي إنتاج حيواني أول. - حاصل على البكالوريوس في العلوم الزراعية (شعبة الإنتاج الحيواني) - كلية الزراعة - جامعة المنصورة - مصر- العام 1999. أول شعبة الإنتاج الحيواني دفعة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,738,921