هندسة الانتباه

العلوم والفنون والآداب

 

دخول وتفتيش المساكن بين الحرية الشخصية وحالات الضرورة

كتب: أيمن محمد عبداللطيف:

 

ماهية التفتيش:

تعددت التعريفات الفقهية التى قيل بها بشأن التفتيش وهى لا تخرج عن أن التفتيش "إجراء من إجراءات التحقيق يقوم به موظف مختص طبقاً للإجراءات المقررة قانوناً فى محل يتمتع بالحرمة بهدف الوصول إلى أدلة مادية لجناية أو جنحة تحقق وقوعها لإثبات ارتكابها أو نسبتها إلى المتهم".

 

 

والهدف من مباشرة هذا الإجراء هو الحصول على دليل مادى يتعلق بالجريمة الجارى جمع الاستدلالات عنها أو التحقيق بشأنها لذلك قيل بحق أن التفتيش لا يمكن اعتباره دليلاً فى حد ذاته. وإنما الدليل هو ما نتج عنه من أدلة مادية سواء أتعلقت بالجريمة التى اتخذ هذا الإجراء من أجلها أم بجريمة أخرى كشف عنها هذا الإجراء فى إطار ضوابط محددة تهدف إلى أن يكون ضبط هذه الأدلة بطريقة عرضية.

 

وينطوى إجراء التفتيش على مساس بحق الإنسان فى السر الذى يمثل أحد مظاهر الحق فى الخصوصية. والذى يعنى حق الفرد فى ممارسة شئونه الخاصة بمنأى عن تدخل الآخرين. لذلك كان له الحق فى أن يخلو إلى نفسه وله الحق فى حرمة حياته الخاصة وسريتها. ومجال هذه السرية هى شخص الإنسان أو مسكنه. وإذا كان الأصل أنه لا يجوز لدولة فى سبيل إثبات الجريمة لعقاب مرتكبيها خرق حجاب السرية إلا أن المشرع لم يجعل من حق الإنسان فى السر قاعدة ذات حصانة مطلقة وإنما وازن بين احترام هذا المبدأ وحق الدولة فى العقاب. فأجاز المشرع خرق هذا الحق من خلال عدة إجراءات منها التفتيش وفق ضوابط موضوعية بينتها التشريعات ودعمتها أحكام المحاكم واجتهادات الفقهاء.

 

وتهدف قواعد تفتيش المساكن إلى حماية الحق فى السر لذلك فإن هذه القواعد لم تتقرر لحماية المسكن ذاته وإنما باعتباره مستودعاً لأسرار الإنسان.

 

وقد راعى المشرع المصرى حرمة المسكن على أساس أنها المكان الذى يطمئن فيه الشخص فنص فى المادة (44) من دستور جمهورية مصر على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائى مسبب وفقاً لأحكام القانون".

 

مدلول المسكن:

 

وقد اتجهت أغلب التشريعات إلى عدم تحديد أو إيراد تعريف لمدلول كلمة المسكن تاركة هذه المهمة للفقه والقضاء. ولذلك فإن الفقه والقضاء عنيا بتحديد المقصود بكلمة المسكن ويريان أنها تشمل معنيين الأول المكان الذى يستخدم بالفعل فى الإقامة والسكنى فيه والثانى هو المكان الذى وإن لم يستخدم بالفعل فى السكنى إلا أنه مخصص لهذا الغرض فالمعنى الأول ينصرف إلى المكان المسكون والمعنى الثانى ينصرف إلى المكان المعد للسكنى.

 

والمكان المسكون هو المكان المستعمل بالفعل للسكنى سواء أكان معداً لذلك بطبيعته كالمنزل والفندق أم لم يكن معداً من الأصل للسكنى ولكنه مسكون فعلاً أى يقيم فيه شخص أو أكثر فينام أو يقضى وقت راحته فيه مثل المدارس أو المسارح التى يبيت فيها حارس لحراستها.

 

أما المكان المعد للسكنى فهو المكان المعد للسكنى إلا أن ساكنيه لا يقيمون فيه بصفة مؤقتة مثل منزل فى مصيف لا يقيم به صاحبه وقت الشتاء فالمكان يعتبر مسكناً متى كان الشخص يملك الإقامة فيه ولو كان لا يقيم فيه أى يكفى أن توجد بعض المظاهر التى تدل على أن شخصاً يشغل هذا المسكن.

 

وتتمتع ملحقات المكان المسكون أو المعد للسكنى بالحماية ذاتها المقررة لهما فهذه الملحقات تأخذ حكمها وذلك لأنها تعتبر امتداداً لها لاتصالها بها وتخصيصها لمنافعها ومن أمثلتها حظائر الماشية والطيور والحديقة الملحقة بالمنزل وكذلك الأبنية الأخرى الملحقة بالمنزل والمخصصة لأفراد الحراسة.

 

أما بالنسبة للمساكن الخالية كالمنزل الذى تم بناؤه حديثاً والمساكن المعدة للإيجار فإنها لا تعتبر من قبيل الأماكن المعدة للسكنى لذلك فإن تفتيشها لا يخضع للقواعد المتعلقة بتفتيش المساكن وإنما يخضع للقواعد المتعلقة بتفتيش الأشخاص.

 

فمدلول كلمة المساكن بالنسبة للقبض والتفتيش لا يختلف عن مدلول المسكن بالنسبة لانتهاك حرمته ومتى انطبق على المكان وصف المسكن فلا أهمية للشكل الذى يتخذه لذلك قضى باعتبار كوخ مقام فى نهاية حديقة مسكناً متى كان معداً للإقامة فيه كذلك لا أهمية للمادة التى صنع منها فيستوى أن يكون مبنياً من الطوب أو الخشب بل إن الخيمة تصلح لأن تكون مسكناً متى أعدت بغرض السكنى فيها.

 

وقد قررت محكمة النقض المصرية أن المنزل فى معنى قانون الإجراءات الجنائية أخذاً من مجموع نصوصه كل مكان يتخذه الشخص سكناً لنفسه على وجه التوقيت أو الدوام بحيث يكون حرماً آمناً لا يباح لغيره دخوله إلا بإذن منه ويكفى حتى تتوفر للمسكن الحماية القانونية أن يكون فى حيازة شخص سواء أكان مسكوناً فعلاً أم خال من السكان لأن الدخول إليه على أى الحالين لا يكون إلا بإذن ممن له حق حيازته فالشقة الخالية فى منزل لا يجوز تفتيشها إلا برضاء من صاحبها. ويستوى أن يكون مصدر حيازة المسكن هو الملكية أو الإيجار أو العارية.

 

أما إذا فقد المكان الاختصاص به ففتحه صاحبه للجمهور فإن ذلك يعنى أنه لم يعد مستودعاً للسر ولذلك لا يعد منزلاً وإنما محلاً عاماً لا تحميه قواعد التفتيش.

 

وتطبيقاً لذلك قضى "بأنه ما دام الحكم قد أثبت أن المتهم أعد غرفتين فى منزله للعب القمار وضع فيهما الموائد وصف حولها الكراسى ويغشى الناس هذا المنزل للعب القمار دون تمييز بينهم بحيث أن من تردد تارة قد لا يتردد الأخرى فإن ذلك يبيح لرجال البوليس الدخول فيه دون إذن من سلطة التحقيق.

 

<!--الفصل الأول

دخول وتفتيش المساكن بدون إذن قضائى

 

<!--المبحث الأول : دخول المسكن للقبض على المتهم

يمكن القول بأن إجماع الفقهاء يكاد ينعقد على جواز دخول منزل المتهم للقبض عليه لأن حصانة المسكن ليس من شأنها أن تجعل من منزل المتهم ملجأ يحتمى به من البحث الذى تقوم به العدالة أو يجعله بمنأى عن العقوبة. فالنظام العام يقتضى وجود استثناءات على مبدأ حرمة المسكن على النحو الذى يتيح لرجل الضبط القضائى دخوله وهذه الاستثناءات تتقرر عن طريق القانون وليس من خلال نصوص لائحية إلا أن آراء الفقهاء اختلفت فى تبرير هذا الدخول على النحو التالى:

 

<!--الاتجاه الأول:

يرى أن هذا الدخول هو عمل مادى اقتضته حالة الضرورة وهو يقتصر على البحث عن المتهم دون أن يتعداه إلى غير ذلك ومن ثم لا يمكن اعتباره تفتيشاً لأنه لا يهدف إلى البحث عن الحقيقة فى مستودع السر.

 

وعلى ذلك يكون دخول مأمور الضبط القضائى منزل المتهم بقصد تعقبه لضبطه أمراً مشروعاً فإذا ما شاهد بصورة عرضية جريمة أثناء وجوده فى المنزل تحققت حالة تلبس صحيحة.

 

وقد استندت محكمة النقض المصرية إلى نص المادة (45) من قانون الإجراءات الجنائية للقول بأنه يجوز دخول المساكن بقصد تعقب المتهم والقبض عليه باعتبار أن حالة الضرورة هى التى اقتضت تعقب مأمور الضبط القضائى للمتهم فى المكان الذى وجد به.

 

غير أن الاستناد إلى حالة الضرورة لتبرير دخول المسكن لاقى انتقاداً من جانب البعض لأن الأخذ به من شأنه أن يهدد الشكل الإجرائى الذى قرره المشرع بالنسبة لبعض الإجراءات وهذا يخالف وجهة نظر المشرع الذى يوازن دائماً بين تحقيق مصلحة الدولة فى العقاب والحرية الفردية. فالمشرع لا يعنيه تحقق الغاية من الإجراء بقدر ما يعنيه توفير الضمانات التى شرعها من أجل إقامة خصومة عادلة باعتبار أنها المصلحة الأجدر بالحماية فى نظر القانون.

 

يضاف إلى ذلك أن تطبيق نظرية الضرورة يقتضى توافر شروطها جميعاً ومنها شرط التناسب وهذا الشرط يعنى ليس فقط الموازنة بين الأضرار "الضرر المترتب على هروب المتهم والضرر المترتب على اقتحام مسكن" بل أيضاً يقتضى الموازنة بين المصالح المشروعة المتعارضةوهى مصلحة الدولة فى القبض ومصلحة الفرد فى الحرية وذلك نتيجة طبيعية ولازمة عن حالة الضرورة التى هى مشروعية ضد مشروعية ولا شك أن مصلحة الفرد فى الحرية تعلو على مصلحة الدولة فى العقاب.

 

<!--الاتجاه الثانى:

يبرر هذا الاتجاه دخول رجل السلطة مسكن الشخص المراد القبض عليه لضبطه على أساس أن هذه المهمة تتعلق بتنفيذ أمر قانونى صادر عن سلطة مختصة وهو الأمر الصادر عن مأمور الضبط القضائى بالقبض على المتهم الحاضر بناء على توافر شروط المادة (34) إجراءات ومن ثم يجرى التنفيذ فى كل مكان وبالوسيلة التى تحقق الغرض منه.

 

<!--الاتجاه الثالث:

يرى أنصار هذا الاتجاه أن دخول رجل السلطة العامة منزل أحد الأشخاص بقصد تعقبه والقبض عليه يعتبر تفتيشاً للمسكن ذلك أنه ما دام الهدف من الإجراء هو البحث عن الحقيقة فإن ذلك يعد تفتيشاً ولا يغير من طبيعته أن يكون محله شخصاً لا شيئاً لذلك يرى أنصار هذا الاتجاه وجوب التفرقة بين ممارسة القبض فى منزل المتهم وممارسته فى غيره إذ فى هذه الحالة الأخيرة يتعين استئذان القاضى الجزئى لأنه هو الذى يملك إصدار الإذن بتفتيش مسكن غير المتهم.

 

ويختلف مع هذا الاتجاه أستاذنا الدكتور محمود مصطفى وذلك لأن دخول المنزل لا يمكن اعتباره تفتيشاً لأن أحكام دخول المنازل الغرض منها المحافظة على حرمة المسكن أما أحكام التفتيش فالغرض منها حماية مستودع السر.

 

<!--الاتجاه الرابع:

يرى أصحاب هذا الاتجاه أن دخول مسكن لتعقب متهم فار للقبض عليه هو إجراء تتوقف طبيعته على تبعية المنزل الذى دخله رجل السلطة العامة فإذا كان المنزل للمتهم الذى يراد القبض عليه فإن الدخول يعتبر عملاً مادياً اقتضته حالة الضرورة. أما إذا كان المنزل لغير المتهم فإن الدخول يعتبر إجراء تفتيش يشترط لصحته الحصول على إذن القاضى الجزئى قبل إجرائه.

 

<!--الاتجاه الخامس:

يرى أنصار هذا الاتجاه أن دخول المنزل لا يعتبر تفتيشاً وإن كان يتساوى مع التفتيش من حيث مساسه حرمة الحياة الخاصة لصاحب المنزل. فهو محض دخول منزل بقصد تنفيذ أمر القبض وإن كان ذلك يقتضى كون الدخول مشروعاً فإذا التجأ المتهم إلى منزل غيره وأنكر صاحب المنزل وجوده امتنع الدخول إلا إذا توافرت شروط التفتيش لأن صاحب المنزل يعتبر متهماً بارتكاب الجريمة المنصوص عليها فى المادة (144) عقوبات.

 

فإذا ترتب على الدخول غير المشروع ضبط جريمة فى حالة تلبس بطل القبض والتفتيش بناء على هذه الحالة أما القبض على المتهم وتفتيشه فلا يتأثران بهذا الدخول غير المشروع.

 

المستخلص:

حرص الدستور المصرى الصادر فى عام 1971 على حرية الفرد وقرر مبدأ احترام حق الإنسان فى الخصوصية التى هى واحدة من أهم مقومات الحرية الفردية وقد أكد المشرع الدستورى ذلك فى المادة (44) من الدستور المصرى الصادر عام 1971 فنصت هذه المادة على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائى مسبب وفقاً لأحكام القانون".

 

وبذلك فقد قرر الدستور المصرى مبدأ عام لا يجوز مخالفته وهو عدم جواز دخول المنازل وتفتيشها بدون إذن قضائى مسبب وهذا المبدأ لم يضع عليه الدستور أية استثناءات وحتى الاستثناء الوحيد فى قانون الإجراءات الجنائية المصرى وهو المادة (47) إجراءات قد حكم بعدم دستوريتها ولذلك فلا يجوز إعمال استثناءات على مبدأ قرره الدستور بدعوى حالة الضرورة والتى لم يقررها الدستور وحتى وإن قررتها أحكام محكمة النقض باعتبار أن دخول المنازل بقصد تعقب متهم فار هى حالة من حالات الضرورة شبيهة بالحالات المنصوص عليها فى المادة (45) إجراءات جنائية وذلك لأن الحالات المنصوص عليها فى المادة (45) إجراءات وهى حالات طلب المساعدة من الداخل أو حالة الحريق أو الغرق وإن كانت هذه الحالات تبيح دخول المنازل إلا أنها حالات قررتها قاعدة قانونية وهى نص المادة (45) إجراءات فإن كانت هذه القاعدة القانونية تتعارض مع قاعدة دستورية فإن القاعدة الدستورية تسمو عليها لأنه لا يجوز أن يعارض نص قانونى نص دستورى.

 

ولكن هذا النص فى المادة (45) إجراءات لا يتعارض مع الدستور وذلك لأنه قرر حالات محددة وهذه الحالات هى من الحالات التى يأذن حائز المنزل فيها لرجال السلطة بدخول المنزل والدليل على ذلك أن فى الحالة الأولى من الحالات المنصوص عليها فى المادة (45) إجراءات وهى حالة طلب المساعدة من الداخل فإن حائز المنزل الموجود داخله هو الذى طلب الدخول إليه وذلك بطلبه للمساعدة وهنا يكون الدخول بناءً على إذن الحائز للمنزل وكذلك فى الحالتين الأخريين من الحالات المنصوص عليها فى المادة (45) إجراءات وهما حالتى الحريق والغرق فإن كان حائز المنزل يستطيع الاستغاثة فلن يتردد فى ذلك لأن منزله يحترق ولكن وإن لم يسمح حائز المنزل بالدخول فقطعاً إن كان بمكنته السماح فلن يتردد فى ذلك أما إذا لم يستطع وذلك لغيابه أو لحدوث مكروه له بداخل المنزل فإن الأولى الدخول لإنقاذ الممتلكات والأرواح والتى ستصاب بضرر بالغ لن يستطاع تداركه مما يبيح التعدى على القيد الدستورى الذى قصد من وراء عدم دخول المنازل الحفاظ على حرمة المنزل فمن باب أولى الحفاظ على هذا المنزل نفسه من خطر الهلاك الذى هو أشد من خطر انتهاك حرمة المنزل.

 

ولكن النص القانونى فى المادة (45) إجراءات استطرد وقال "أو ما شابه ذلك" وفى رأينا أن هذه العبارة تعود على الحالات المشابهة بطلب المساعدة أو الحريق أو الغرق والتى تمثل تهديداً مباشراً لهذا المنزل الذى صانه وكرمه المشرع الدستورى ولا يجوز التوسع فى القياس على تلك الحالات الواردة حصراً فى المادة (45) إجراءات ليشمل هذا التوسع حالة المتهم الفار من العدالة لأن هناك من الطرق التى يمكن بها القبض على هذا المتهم مع مراعاة الضمانات الدستورية التى كفلها المشرع. لأن إهدار هذه القاعدة الدستورية بحجة الضرورة ستجعل من هذه الضرورة متكئاً لكل شخص يريد العبث بحرمة المساكن وإهدار الأسس الدستورية العريقة التى جاهدت الأمة لإرسائها.

 

ولذلك فإننا نرى مع ما يذهب إليه البعض أنه لا يجوز لمأمور الضبط القضائى الدخول إلى مسكن بقصد تعقب متهم فار للقبض عليه وإنما يكون له تعيين حراسة حول المكان ثم يستصدر إذناً مسبباً من الجهة القضائية المختصة لدخول هذا المسكن فإذا ما صدر هذا الإذن كان له الدخول ولو بالقوة لتنفيذ القبض.

 

<!--المبحث الثاني: دخول المساكن لحالة من حالات الضرورة

نصت المادة (45) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه "لا يجوز لرجال السلطة الدخول فى أى محل مسكون إلا فى الأحوال المبينة فى القانون أو فى حالة طلب المساعدة من الداخل أو فى حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك".

 

 

وقد اختلف الفقهاء فى تفسير هذا النص وما استتبعه من تأويله على أنه يفيد حالات الضرورة المبيحة لدخول المنزل بدون إذن مسبق وبالتالى إباحة الدخول للقبض على المتهم الهارب وتعليل ذلك بالعبارة الأخيرة من النص "ما شابه ذلك" والقول بأن الدخول للقبض هو حالة من حالات الضرورة.

 

فقد فسر الأستاذ الفقيه الدكتور محمود نجيب حسنى هذا النص بأن الشارع قد حدد فى هذا النص حالات ثلاث يجوز فيها دخول المساكن هى: الأحوال المبينة فى القانون وطلب المساعدة من الداخل وحصول كارثة فى الداخل كالحريق أو الغرق. ويوحى ظاهر النص بحصر الشارع لهذه الحالات ولكن العبارات الواسعة التى استعملها تجعلها فى الحقيقة غير محصورة: فالأحوال المبينة فى القانون عديدة وهى موزعة على عدد كبير من النصوص وأهم هذه الأحوال تعقب المتهم فى داخل مسكن بقصد تنفيذ أمر القبض عليه وسنده "نظرية الضرورة الإجرائية" التى أقرها الشارع.

 

وذكر الشارع للحريق والغرق قد ورد كأمثلة لكوارث تقع فى المسكن وتقاس عليها أية كارثة. وطلب المساعدة من الداخل تستوى أسبابه: فقد تطلب المساعدة لأن مريضاً يشرف على الموت أو لقيام تهديد بارتكاب جريمة أو لاكتشاف حيوان خطر كأفعى فى داخل البيت.

 

وهذا الدخول ليس تفتيشاً وقد وصفته محكمة النقض بأنه "مجرد عمل مادى اقتضته حالة الضرورة" وهو إجراء مشروع باعتبار أن القانون قد صرح به.

 

وقد ذكر الأستاذ الفقيه الدكتور محمد زكى أبو عامر أن القانون قد حظر "دخول الأماكن المسكونة" على جميع رجال السلطة العامة إلا إذا طلب من رجال السلطة المساعدة من الداخل إذ لا شبهة فى مثل هذا الفرض فى العدوان أو المساس بحرمة المسكن وطلب دخول رجال السلطة للمساعدة جاء من الداخل فيه. والواقع أن الدخول برضاء صاحب المنزل لا يمكن أن يكون فيه مساس بحرمته.

 

كما أجاز القانون دخول رجال السلطة العامة الأماكن المسكونة فى "حالات الضرورة" التى عبر عنها المشرع بقوله "فى حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه" وهو ما استقر عليه الفهم القضائى للنص.

 

ويدخل ضمن حالات الضرورة التى تبيح دخول المنزل دون إجازة صريحة من القانون أو دون إذن أصحابه الدخول بقصد ضبط متهم أو تعقب المتهم بقصد تنفيذ أمر القبض عليه فالأصل أن دخول المنازل وغيرها من الأماكن لا بقصد تفتيشها ولكن تعقباً لشخص صدر أمر بالقبض عليه وتفتيشه من الجهة صاحبة الاختصاص لا يترتب عليه بطلان القبض والتفتيش الذى يقع على ذلك الشخص لأن حالة الضرورة هى التى اقتضت تعقب رجل الضبط القضائى له فى نطاق المكان الذى وجد به وإن كنا نعتقد أن مشروعية هذا الإجراء تتوقف على توافر شروط الضرورة فعلاً وهو الأمر الذى لا يبدو أن محكمة النقض تلاحظه.

 

كما أجمع اتجاه فى الفقه على أن دخول المنازل للقبض على المتهم بدون إذن قضائى هو عمل مادى اقتضته حالة الضرورة وهو يقتصر على البحث عن المتهم دون أن يتعداه إلى غير ذلك ومن ثم لا يمكن اعتباره تفتيشاً لأنه لا يهدف إلى البحث عن الحقيقة فى مستودع السر.

 

<!--اتجاه محكمة النقض المصرية:

أرست محكمة النقض المصرية فى أغلب أحكامها قاعدة جواز دخول المنازل بقصد تعقب المتهم والقبض عليه باعتبارها حالة من حالات الضرورة التى تستند إلى نص المادة (45) إجراءات جنائية حيث أن المادة (45) من قانون الإجراءات نصت على جواز دخول المنازل فى الحالات التى تشابه حالات الضرورة المذكورة فى المادة وهى حالات الاستغاثة والحريق والغرق.

 

وقضت محكمة النقض فى أغلب أحكامها بأن: "يجوز دخول المنازل بقصد تعقب المتهم والقبض عليه باعتبار أن حالة الضرورة هى التى اقتضت تعقب مأمور الضبط القضائى للمتهم فى المكان الذى وجد به".

 

بل وقد توسعت محكمة النقض وقضت بأن "الأصل أن التفتيش الذى يجرمه القانون على مأمورى الضبط القضائى إنما هو التفتيش الذى يكون فى إجرائه اعتداء على الحرية الشخصية أو انتهاك لحرمة المسكن أما دخول المنازل وغيرها من الأماكن لا بقصد تفتيشها ولكن تعقباً لشخص صدر أمر بالقبض عليه وتفتيشه من الجهة صاحبة الاختصاص فإنه لا يترتب عليه بطلان القبض والتفتيش الذى يقع على ذلك الشخص لأن حالة الضرورة هى التى اقتضت تعقب رجل الضبط القضائى له فى نطاق المكان الذى وجد به".

 

المستخلص:

نصت المادة (45) إجراءات جنائية على "لا يجوز لرجال السلطة الدخول فى أى محل مسكون إلا فى الأحوال المبينة فى القانون أو فى حالة طلب المساعدة من الداخل أو فى حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك" وبذلك تكون المادة سالفة الذكر قد منعت الدخول فى الأماكن المسكونة إلا فى ثلاث حالات محددة وهى:

 

الحالة الأولى:

وهى حالة "الأحوال المبينة فى القانون" وهذه الحالة قد اقتصرت على دخول المنازل بإذن قضائى مسبب بعد الحكم بعدم دستورية المادة (47) إجراءات والتى كانت تبيح دخول المساكن وتفتيشها فى حالة التلبس.

 

 

الحالة الثانية:

وهى حالة "طلب المساعدة من الداخل" وهنا فى هذه الحالة نرى أنها ليست من حالات الضرورة وذلك لأن طلب المساعدة من الداخل يعنى حالة من حالات الرضا بالدخول للمسكن وذلك لأن من فى المنزل عندما يستغيث فإنه يطلب من رجال السلطة الدخول وليس رجال السلطة فقط بل إنه يطلب دخول أى شخص ولو كان من العامة لمساعدته وهذا الدخول هو دخول مشروع لأن من بداخل المسكن قد سمح بالدخول بل وقد حث كل من يسمعه بالدخول لنجدته.

 

الحالة الثالثة:

وهى "حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك" وهنا أيضاً لا يكون الدخول لرجال السلطة العامة فقط وإنما لكل شخص من العامة وذلك لإنقاذ المنزل أو من فى المنزل وحكم هذه الحالة فيما يبدو لنا أنه عندما يكون المسكن الذى هو مستودع السر والذى أحاطه المشرع الدستورى بحرمة كاملة فى خطر فهناك أولوية لحماية هذا المسكن فإن المشرع الدستورى قد حظر دخول وتفتيش المساكن حماية لحرمة المسكن ولمستودع السر فإذا كانت هذه الحماية التى قررها المشرع الدستورى مهددة بحالة من حالات الحريق أو الغرق فإن من باب أولى الدخول لإنقاذ هذا المسكن أو لإنقاذ من بداخله وهذه الحالة تقع ضمن حالة محددة من حالات الضرورة وليست حالة ضرورة عامة وإنما لها حكم خاص فلا نستطيع قياس أى حالة أخرى من حالات الضرورة إلا بهذا المعيار الذى قصده المشرع الدستورى.

 

وعبارة "ما شابه ذلك" التى تستخدمها أحكام النقض للقياس على ما قبلها من حالات تبيح دخول المساكن هى تعود فقط على حالات الحريق والغرق أى على الحالة الثالثة فقط ولا تعود على الحالتين الأولى والثانية وذلك لأن النص بلفظه قد فصل بين الحالات فقال "فى حالة طلب المساعدة من الداخل" وهى حالة منفصلة عن ما يأتى بعدها وهى قول النص "أو فى حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك" وهى أيضاً جميعها حالة أخرى منفصلة فجملة "ما شابه ذلك" تعود فقط على حالتى الحريق والغرق لأن سبقهم كلمة أو فى حالة.

 

وبما أننا قد بينا حكم الحالات الواردة بنص المادة (45) إجراءات جنائية حسب ما يتراءى لنا فإن أحكام محكمة النقض التى نجلها بهذا الخصوص والتى تقيس حالة دخول مأمور الضبط القضائى للقبض على المتهم على الحالات الواردة بنص المادة (45) تكون من وجهة نظرنا محل نظر وذلك لأن المادة آنفة البيان لم يذكر فيها أبداً لفظ "حالة الضرورة" وإنما هذا اللفظ مأخوذ من نص المادة (61) من قانون العقوبات المؤسسة على نظرية الضرورة وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات والتى هى مانع من موانع العقاب ولابد لنا هنا أن نعرج على نظرية الضرورة طبقاً لنص المادة (61) عقوبات وذلك لبيان أساس النظرية وشروطها ومجال إعمالها وذلك لإيضاح ما هى حالات الضرورة وهل نستطيع إهدار نص دستورى لوجود حالة من حالات الضرورة.

 

امتناع مسئولية الجانى فى حالة الضرورة نظرية قديمة فمنذ قرون طويلة كان يقال بأن الإنسان لا يعد سارقاً إذا سرق فى مجاعة رغيفاً من الخبز يدفع به عن نفسه خطر الموت جوعاً وكان البعض يعلل امتناع المسئولية هنا بنظرية العقد الاجتماعى فيقول أن من شروط هذا العقد العودة عند الحاجة الشديدة إلى نظام الملك الشائع فيصبح الجميع شركاء فى الخبز الذى يملكه أحدهم وحده وكان الفقيه جروسيوس يشترط لذلك عدم حاجة صاحب الخبز إلى ما أخذ منه وأن يرد السارق ما أخذه عند المقدرة ولم يكن الفقيه بافندروف يشترط ذلك.

 

وتتميز حالة الضرورة عن حالة الإكراه المعنوى من ناحيتين أولاهما أن حالة الضرورة بالمعنى الدقيق تنجم عن فعل الطبيعة أو عن فعل السلطة العامة وثانيتهما أن حالة الضرورة لا تسلب الشخص حريته فى الاختيار سلباً كلياً أو جزئياً بل قد تقتضى فحسب موازنة عاقلة – لها ما يبررها – بين طريقين فيقبل الإنسان على أقلهما ضرراً بدافع من إحساس طبيعى لا يصح أن يعد آثماً من الناحية الجنائية. فالإنسان الذى يعطى حقنة لمريض بحاجة إلى إسعاف عاجل – وهو غير مرخص له بإعطاء الحقن – بدلاً من انتظار حضور الطبيب الذى قد يجئ بعد فوات الأوان يختار فى الواقع بين طريقين هما: إما إنقاذ المريض ولو بمخالفة القانون الذى يمنعه من حقنه وإما الامتناع عن إنقاذه احتراماً للقانون فيختار الطريق الأول غير مسلوب الإرادة فى حقيقة الأمر بل مدفوعاً فحسب بشعور إنسانى قوى بباعث من تصرف حكيم.

 

 

ولابد لكى تتوافر حالة الضرورة المتمثلة فى المادة (61) عقوبات من توافر اجتماع أركان ثلاثة:

أولاً : حلول خطر جسيم وشيك الوقوع يتهدد نفس مرتكب الجريمة أو نفس غيره:

وهذا الخطر شبيه فى بعض شروطه الخطر الذى يبيح للمدافع استعمال القوة المادية فى دفعه بمقتضى حق الدفاع الشرعى وهذا الخطر فى حالة الضرورة لابد أن يكون جسيماً ولابد أن يكون الخطر يتهدد نفس الجانى أو نفس غيره وكذلك لا يلزم أن يكون الخطر ناشئاً عن جريمة فقط بل قد يكون ناشئاً عن فعل الطبيعة أو عن فعل الغير ومن أمثلة هذه الأخطار أن يتدافع رواد ملهى تلتهمه النيران فيحدث أثناء التدافع وبسببه اعتداء من قوى على ضعيف.

 

ثانياً : ألا يكون لإرادة مرتكبها دخل فى حلول هذا الخطر:

فإذا كان الخطر الجسيم الذى هدد نفس مرتكب الجريمة أو نفس غيره قد نجم عن فعل عمدى صادر منه فلا محل أن يتذرع بعد ذلك بحالة الضرورة. لذا قضى بأنه ليس للإنسان أن يرتكب أمراً مجرماً ثم يقارف جريمة فى سبيل النجاة مما أحدثه بيده([46]).

 

ثالثاً : أن تكون الجريمة التى ارتكبت هى الطريقة الوحيدة لدفع هذا الخطر:

 استلزمت المادة (61) عقوبات لتوافر حالة الضرورة ألا يكون فى قدرة الجانى منع الخطر الجسيم بطريقة أخرى غير الجريمة التى ارتكبها وهذه مسألة موضوعية تتوقف على ظروف الخطر الجسيم والجريمة التى ارتكبت لدفعه فإذا تبين للقاضى أنه كان أمام الجانى سبيل آخر لدفع الخطر لا يعد جريمة كالاحتماء فى الوقت المناسب برجال السلطة العامة ولكنه آثر عليه تصرفه الإجرامى فلا محل لتطبيق المادة (61) عقوبات وبعبارة أخرى أنه كلما أمكن دفع الخطر بوسيلة مشروعة أو أقل ضرراً من تلك التى استعملها من قام بدفعه كلما انتفى الإكراه الذى يسلب الجانى اختياره.

 

فإذا أوشك قارب على الغرق لثقل حمولته وأريد تضحية بعض هذه الحمولة ينبغى أن تضحى البضائع لإنقاذ الأشخاص لا أن يضحى شخص من الأشخاص لإنقاذ البضائع.

 

وبتطبيق نظرية الضرورة بشروطها الثلاث على حالة دخول المنازل للقبض نجد أن الموازنة هنا تأتى بين حلين هما أن يتم انتهاك القاعدة الدستورية ويتم دخول المنزل للقبض على المتهم أو عدم الدخول بما يستتبعه من هرب المتهم المطلوب القبض عليه أو بمعنى آخر الموازنة بين حق الدولة فى العقاب وحق الأشخاص فى حرمة مساكنهم.

 

وحالة دخول المنازل للقبض كحالة من حالات الضرورة تفقد شرطاً هاماً من شروط حالة الضرورة طبقاً لنص المادة (61) عقوبات وهو شرط "أن تكون الجريمة المرتكبة هى الطريقة الوحيدة لدفع هذا الخطر" وذلك لأن بإمكان مأمور الضبط القضائى وضع حراسة على المكان حتى يأخذ إذن بالدخول والتفتيش من النيابة العامة أو من قاضى التحقيق خصوصاً وأن فى هذه الأيام أصبحت الاتصالات تتم بسرعة رهيبة ويمكن لمأمور الضبط القضائى أخذ الإذن بالدخول والتفتيش فى غضون دقائق معدودة فنحن نرى أنه ليس هناك عذر لمأمور الضبط القضائى فى أن يتحجج بحالة الضرورة لدخول المنزل الغير مأذون له بدخوله للقبض على المتهم فى حين أنه يمكنه أخذ الإذن بسهولة وفى غضون دقائق معدودة أثناء حراسته للمكان الذى يختبئ فيه المجرم المراد القبض عليه وبالطبع تنشأ حالة الضرورة إذا كان هذا المجرم يهدد داخل المسكن أشخاصاً فبالطبع يمكن فى هذه الحالة الدخول للقبض على المتهم للحفاظ على أرواح الأشخاص الذين يهددهم ولكنه فى هذه الحالة يكون دخوله مصرحاً به بناءً على إذن الحائز له بالدخول لأنه يمكن قياس هذه الحالة على حالة الاستغاثة من الداخل طبقاً لنص المادة (45) إجراءات.

 

ودرجت أحكام محكمة النقض السالف الإشارة إليها أيضاً أن تضع فى معظم أحكامها الخاصة بدخول المنازل للقبض على المتهم عبارة "باعتبار أن حالة الضرورة هى التى اقتضت تعقب مأمور الضبط القضائى للمتهم فى المكان الذى وجد به" وهذا التعقب الذى تشير إليه تلك النصوص ليس معناه الذهاب للقبض على المتهم فليس كل دخول للمنزل بغرض القبض على المتهم يعتبر تعقباً ولكن هناك شروط حتى يصدق على الإجراء وصف التعقب فالتعقب هو حالة مستمرة متلاحقة يقوم بها مأمور الضبط القضائى والشخص الهارب فإذا تراخى مأمور الضبط القضائى عن هذه الحالة ولو إلى زمن يسير لفقد أثر المتهم الهارب مما يبيح له التعلل بالضرورة عند تعديه مثلاً اختصاصه المكانى أثناء هذا التعقب.

 

نص الدستور المصرى فى المادة (44) على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائى مسبب وفقاً لأحكام القانون" وبذلك وضع المشرع الدستورى قيداً مطلقاً على دخول المنازل وتفتيشها ليس له إلا استثناء وحيد هو الأمر القضائى المسبب وهذا هو الاستثناء الوحيد.

 

وإذا كان الدستور المصرى قد صدر عام 1971 فقد نسخت نصوصه النصوص الواردة فى قانون الإجراءات الجنائية والمتعارضة مع الدستور. ولا يطهر نصوص هذا القانون من عيب عدم الدستورية ما نصت عليه المادة (191) من الدستور من أن كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى صحيحاً ونافذاً. ذلك أنه كما قضت المحكمة الدستورية العليا: "أن نصوص الدستور تمثل القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة من قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. ومن ثم فإن ذلك النص لا يعنى سوى مجرد استمرار نفاذ هذه القوانين واللوائح دون تطهيرها مما قد يشوبها من عيوب ودون تحصينها ضد الطعن بعدم الدستورية شأنها فى ذلك شأن التشريعات التى تصدر فى ظل الدستور القائم. فليس معقولاً بأن تكون تلك التشريعات بمنأى عن الرقابة التى تخضع لها التشريعات التى تصدر فى ظل الدستور ونظمه وأصوله المستخدمة مع أن رقابة دستوريتها أولى وأوجب".

 

ويترتب على ذلك أن يكون أى تشريع أدنى من الدستور يتعارض معه لا يعول عليه وينفذ حكم الدستور وسواء كان هذا التشريع الأدنى هو نص قانونى مثل نص المادة (45) إجراءات جنائية أو نظرية مثل نظرية الضرورة الإجرائية أو حكم من أحكام محكمة النقض وذلك لأن الدستور أولى بالإعمال من كل تلك النصوص وفى قضاء رائع لمحكمة النقض المصرية قضت أنه "إذا ما أورد الدستور نصاً صالحاً بذاته للإعمال بغير حاجة إلى سن تشريع أدنى لزم إعمال هذا النص من يوم العمل به. ويعتبر الحكم المخالف له فى هذه الحالة قد نسخ ضمنياً بقوة الدستور نفسه. وكان ما قضى به الدستور فى المادة (44) من صون حرمة المسكن وحظر دخوله أو تفتيشه "إلا بأمر قضائى مسبب" وفقاً لأحكام القانون إنما هو حكم قابل للإعمال بذاته فيما أوجب فى هذا الشأن من أمر قضائى مسبب".

 

ونأسف أشد الأسف لأنه بالرغم من ذلك فقد خالفت التعليمات العامة للنيابات نصوص الدستور والقانون حين استحدثت نصاً تحت رقم المادة (359) والتى تنص على: "يجوز لمأمور الضبط القضائى دخول المنازل بقصد تعقب شخص صدر أمر بالقبض عليه وتفتيشه من الجهة المختصة لأن الضرورة هى التى اقتضت تعقبه فى المكان الذى وجد به".

 

وبذلك فقد قننت التعليمات العامة للنيابات نصاً مخالفاً للدستور والقانون وأباحت ما حرمته النصوص الدستورية بالرغم من أن النيابة العامة المفروض أنها الملجأ من تعسف مأمور الضبط القضائى ولكنها قد قننت له ما حظره الدستور عليه.

 

ونرى تأسيساً على ما تقدم أنه لا مجال للاستشهاد بنص المادة (45) إجراءات جنائية فى إباحة دخول مأمور الضبط القضائى المسكن للقبض على المتهم حيث أن هذا الدخول ليس من حالات الواردة فى نص المادة آنفة البيان وكذلك أنه عند التعلل بدخول المسكن للقبض بحالة الضرورة قد بينا أن حالة الضرورة لا تنطبق على هذه الحالة أيضاً حيث أن هناك حل آخر يمكن تنفيذه بدلاً من الدخول غير المشروع وكذلك أوضحنا أنه حتى فى حالة وجود نص قانونى صريح أو حتى إذا كانت نظرية الضرورة تنطبق على هذه الحالة فإنهما لا يصح أن تتعارضا مع نص المادة (44) من الدستور الذى جاء عاماً لا قيد عليه سوى الإذن القضائى المسبب الذى هو أساس مشروعية دخول المساكن وتفتيشها لأن المشرع الدستورى أراد ألا يطلق يد مأمور الضبط القضائى وذلك لأن همه الأكبر هو كشف الجرائم والقبض على المجرمين بغض النظر عن مدى شرعية الإجراء واتفاقه مع الحريات العامة للمواطنين مما يكون له أكبر الأثر على حرية الأفراد فى الدولة والتى أراد المشرع الدستورى أن تكون هى القوة الغالبة بنصه فى الدستور على ذلك وإلزامه رجال السلطات بأن يحصلوا على الأمر القضائى وليس فقط ذلك ولكن يجب أن يكون الأمر القضائى مسبباً ليتم مراقبته من قبل محكمة الموضوع وبعد ذلك تراقبه محكمة النقض ليكون ذلك ضماناً لحرية الأفراد التى هى مبتغى المشرع الدستورى.

 

<!--المبحث الثالث: عدم دستورية نص المادة (47) إجراءات جنائية

أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها بعدم دستورية نص المادة (47) من قانون الإجراءات الجنائية فى 2/6/1984 وذلك بمناسبة إيقاف محكمة جنايات القاهرة للجناية رقم 28 لسنة 1980 مخدرات الأزبكية وإحالتها للمحكمة الدستورية العليا للفصل فى مدى دستورية المادة (47) إجراءات جنائية والتى كانت تنص على: "لمأمور الضبط القضائى فى حالة التلبس بجناية أو جنحة أن يفتش منزل المتهم ويضبط فيه الأشياء والأوراق التى تفيد فى كشف الحقيقة إذا اتضح له من إمارات قوية أنها موجودة فيه".

 

وعندما طرحت الدعوى أمام المحكمة الدستورية العليا طلب الحاضر عن الحكومة رفض الدعوى استناداً إلى:

 

1- أن المادة (44) من الدستور وإن نصت على عدم جواز دخول المنازل وتفتيشها إلا أنها تركت بيان ذلك إلى أحكام التشريع العادى.

 

2- إن الحرية الشخصية أسمى من حرية المساكن فإذا كانت المادة (41) من الدستور قد أجازت تفتيش الشخص دون أمر قضائى متى كانت الجريمة فى حالة تلبس فإنه من باب أولى يجوز تفتيش مسكنه.

 

وقد استندت المحكمة الدستورية فى قضائها بعدم دستورية المادة (47) إجراءات جنائية إلى الأسباب الآتية:

<!--أولاً:

إن الدستور المصرى قد حرص فى معرض حمايته للحريات العامة على كفالة الحرية الشخصية لاتصالها بكيان الفرد منذ وجوده فأكدت المادة (41) من الدستور على أن "الحرية الشخصية حق طبيعى" وعلى أنها "مصونة لا تمس" كما نصت المادة (44) من الدستور على أن "للمساكن حرمة" وأكدت المادة (45) من الدستور على أن "لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون" غير أن الدستور المصرى الصادر فى عام 1971 لم يكتف فى تقرير هذه الحماية الدستورية بإيراد ذلك فى عبارات عامة كما كانت تفعل الدساتير السابقة عليه والتى كانت تترك للمشرع العادى سلطة لا قيود عليه فى تنظيم هذه الحريات ولكنه أتى بقواعد أساسية تقرر عدة ضمانات لحماية هذه الحرية الشخصية وما يتفرع عنها من حريات وحرمات وارتفع بها إلى مصاف القواعد الدستورية وضمنها المواد من (41) إلى (45) بحيث لم يعد جائزاً للمشرع العادى أن يخالفها أو يخالف ما تضمنته من كفالة لصون تلك الحريات وإلا كان عمله مخالفاً للشرعية الدستورية.

 

<!--ثانياً:

إن الدستور المصرى – توفيقاً منه بين حق الفرد فى الحرية الشخصية وفى حرمة مسكنه وحياته الخاصة من ناحية وبين حق المجتمع فى الاقتصاص من الجانى وجمع أدلة ثبوت الجريمة ونسبتها إليه من ناحية أخرى - قد أجاز تفتيش الشخص أو المسكن كإجراء من إجراءات التحقيق بعد أن أخضعه لضمانات معينة لا يجوز إهدارها أو تجاوزها. وترك للمشرع العادى أن يحدد الجرائم التى يجوز فيها التفتيش والإجراءات التى يتعين الالتزام بها عند الإذن أو القيام به. لذلك نصت الفقرة الأولى من المادة (41) من الدستور على أن "الحرية الشخصية حق طبيعى وهى مصونة لا تمس وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأى قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ويصدر هذا الأمر من القاضى المختص أو النيابة العامة وذلك وفقاً لأحكام القانون" ثم جاءت المادة (44) من الدستور تنص على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا بأمر قضائى مسبب وفقاً لأحكام القانون" وهذا النص الأخير وإن كان قد ميز بين دخول المساكن وبين تفتيشها إلا أنه قد جمعهما فى ضمانات واحدة متى كانا يمثلان انتهاكاً لحرمة المساكن تلك الحرمة التى قدسها الدستور.

 

<!--ثالثاً:

يتبين من المقابلة بين المادتين (41) و(45) من الدستور سالفتى الذكر أن المشرع الدستورى قد فرق فى الحكم بين تفتيش الأشخاص وتفتيش المساكن فيما يتعلق بضرورة أن يتم التفتيش فى الحالتين بأمر قضائى ممن له سلطة التحقيق أو من القاضى المختص كضمانة أساسية لحصول التفتيش تحت إشراف مسبق من جانب القضاء. فقد استثنت المادة (41) من الدستور من هذه الضمانة حالة التلبس بالجريمة بالنسبة للقبض على الشخص وتفتيشه فضلاً عن عدم اشتراطها تسبيب أمر القاضى المختص أو النيابة العامة بالتفتيش فى حين أن المادة (44) من الدستور لم تستثن حالة التلبس من ضرورة صدور أمر قضائى مسبب ممن له سلطة التحقيق أو من القاضى المختص بتفتيش المسكن سواء أقام به الآمر نفسه أم أذن لمأمور الضبط القضائى بإجرائه فجاء نص المادة (44) من الدستور عاماً مطلقاً لم يرد عليه ما يخصصه أو يقيده الأمر الذى مؤداه أن هذا النص الدستورى يستلزم فى جميع أحوال تفتيش المساكن صدور أمراً قضائياً مسبباً وذلك صوناً لحرمة المسكن النابعة من الحرية الشخصية التى تتعلق بكيان الفرد وحياته الخاصة ومسكنه الذى يأوى إليه وهو موضع سره وسكينته.

 

ولذلك حرص الدستور فى الظروف التى صدر فيها على التأكيد على عدم انتهاك حرمة المسكن سواء بدخوله أو بتفتيشه ما لم يصدر أمر قضائى مسبب دون أن يستثنى من ذلك حالة التلبس بالجريمة التى لا تجيز وفقاً للمادة (41) من الدستور سوى القبض على الشخص وتفتيشه أينما وجد يؤكد ذلك أن مشروع لجنة الحريات التى شكلها مجلس الشعب عند إعداد الدستور كان يضمن نص المادة (44) استثناء حالة التلبس من حكمها غير أن هذا الاستثناء قد أسقط فى المشروع النهائى لهذه المادة وصدر الدستور متضمناً نص المادة (44) الحالى حرصاً منه على صيانة حرمة المسكن.

 

<!--رابعاً:

إن نص المادة (44) من الدستور واضح الدلالة على عدم استثناء حالة التلبس من الضمانتين اللتين أوردهما – أى صدور أمر قضائى وأن يكون مسبباً – فلا يحق القول باستثناء حالة التلبس من حكم هاتين الضمانتين قياساً على إخراجهما من ضمانة صدور الأمر القضائى فى حالة تفتيش الشخص أو القبض عليه ذلك لأن الاستثناء لا يقاس عليه كما أنه لا محل للقياس مع وجود نص دستورى واضح الدلالة لا لبس فيه ولا يغير من ذلك ما جاء بعجز المادة (44) من الدستور بعد إيرادها هاتين الضمانتين أن ذلك يكون "وفقاً لأحكام القانون" لأن هذه العبارة لا تعنى تفويض المشرع العادى فى أن يخرج حالة التلبس بالجريمة من الخضوع للضمانتين اللتين اشترطهما الدستور فى المادة (44) منه والقول بغير ذلك فيه إهدار لهاتين الضمانتين وتعليق أعمالهما على إرادة المشرع العادى وهو ما لا يفيده نص المادة (44) من الدستور وإنما تشير عبارة "وفقاً لأحكام القانون" إلى الإحالة إلى القانون العادى فى تحديد الجرائم التى يجوز فيها صدور الأمر بالتفتيش وبيان كيفية صدوره وتسبيبه وما إلى ذلك من إجراءات.

 

موقف الفقه:

اختلف رأى الفقه حول هذا الحكم فالبعض يرى أن نص المادة (47) إجراءات جنائية لا يتعارض مع نص المادة (44) من الدستور باعتبار أن الدستور يعرض الحالة العادية أى فيما عدا حالة التلبس التى تدعو بطبيعتها إلى إجراءات خاصة ابتغاء الوصول إلى أدلة الجريمة والمحافظة عليها وهى إجراءات تتسم بالسرعة إذ قد يؤدى التأخير فيها إلى إتلاف أو إخفاء أو العبث بأدلة الجريمة. وفضلاً عما تقدم فإن الدستور فى المادة (41) فقرة أولى أجاز القبض على الشخص وتفتيشه فى حالة التلبس دون احتياج إلى أمر من القاضى أو النيابة العامة. وهو ما يؤيد أن حالة التلبس لا تخضع للأحكام العامة. وإذا كان الدستور قد أجاز إهدار حماية الحرية الشخصية بالقبض والتفتيش فى حالة التلبس فقد أجاز ذلك ضمناً بالنسبة للمسكن لأن الحماية التى يضفيها القانون على المسكن مستمدة من كونه مستودع سر صاحبه فإذا كانت حرية الفرد قد أهدرت بالقبض أو التفتيش لاستتبع هذا انتفاء الحماية التى للمسكن.

 

وكذلك ذهب رأى آخر مؤيد للرأى السابق إلى أنه على الرغم من تقديرنا للاعتبارات التى صدر عنها قضاء المحكمة الدستورية العليا وهى اعتبارات مردها إلى الحرص على كفالة حرمة المسكن وإحاطة تفتيشه بضمانات التدخل القضائى فإننا نشك فى صواب ما خلصت إليه المحكمة ذلك أن هذا القضاء لم يصدر عن تكييف صحيح لطبيعة عمل مأمور الضبط القضائى فى حالة التلبس بالجريمة إن مأمور الضبط القضائى قد خوله القانون بعض أعمال التحقيق فى حالة التلبس بالجريمة أظهرها القبض والتفتيش.

 

ولما كان من المسلم به أن التحقيق الابتدائى عمل قضائى وكان الأصل أن يختص به قاض فإن مؤدى ذلك أنه إذا كان الشارع قد خول مأمور الضبط القضائى فى حالة التلبس بالجريمة بعض إجراءات التحقيق على سبيل الاستثناء فإن مفهوم ذلك بالضرورة أنه قد خوله اختصاصاً قضائياً إذ العمل الإجرائى لا تتغير طبيعته باختلاف الشخص أو السلطة التى تباشره. وبناء على ذلك فإن مأمور الضبط القضائى إذ يتخذ إجراء القبض على المتهم أو تفتيش مسكنه إنما يباشر فى الحقيق

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 182 مشاهدة
نشرت فى 19 نوفمبر 2020 بواسطة elhaisha

ساحة النقاش

محمود سلامة محمود الهايشة

elhaisha
محمود سلامة الهايشة - باحث، مصور، مدون، قاص، كاتب، ناقد أدبي، منتج ومخرج أفلام تسجيلية ووثائقية، وخبير تنمية بشرية، مهندس زراعي، أخصائي إنتاج حيواني أول. - حاصل على البكالوريوس في العلوم الزراعية (شعبة الإنتاج الحيواني) - كلية الزراعة - جامعة المنصورة - مصر- العام 1999. أول شعبة الإنتاج الحيواني دفعة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,739,152