إن الإدارة الصحيحة والقويمة لأي عمل مهما كان صغيرًا أو كبيرًا تحتاج إلى حكمة؛ لأن الإدارة تتعامل مع بشر وليس مع مجموعة من التروس والآلات، فرب كلمة صغيرة فعلت فعل السحر في نفس سامعها فدفعته إلى الأمام، وأيضًا رب كلمة فعلت في نفس سامعها فعل السحر فألقت به إلى الهاوية. والإدارة "فن قيادة الرجال" والرجال لهم مشارب شتى، ولا يستطيع أحد مهما أوتي من قوة أن يقودهم إلا بالحكمة، والحكمة أن تضع كل شيء في مكانه، الغضب والحزم والشدة في المواضع التي تحتاج إلى ذلك، واللين والتسامح والرحمة أيضًا في المواقف التي تتطلب ذلك<a >[1].
وقد كان عمر حكيمًا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، مما جعله مؤهلاً لحمل هذه الأمانة العظيمة؛ وهي إدارة الدولة الإسلامية في هذا الوقت من التاريخ الإسلامي العظيم.
"وفي عصر الفاروق شهد النظام الإداري نقلة حضارية كبرى تمثلت في مدى اهتمام الخليفة وعنايته الفائقة بالنظم الإدارية، ففي عهده رسخت التقاليد الإدارية الإسلامية. يقول الطبري: في هذه السنة (15هـ 636م) فرض عمر للمسلمين الفروض ودَوَّن الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة.
وهذا يؤكد مرونة العقلية الإسلامية وقبولها لتطوير نفسها، وتمثل هذا في اهتمام الفاروق بتنظيم الدولة الإسلامية إداريًّا، وخاصة أن الفتوحات الإسلامية قد أدت إلى امتداد رقعة الدولة الإسلامية في عهده، ففصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، وأكد استقلال القضاء، كما اهتم بأمر الأمصار والأقاليم، ووطد العلاقة بين العاصمة المركزية والولاة والعمال في أجزاء الدولة الإسلامية.
وكان عمر شديدًا مع عمال الدولة الإسلامية، كان يوصيهم بأهالي الأقاليم خيرًا، فيروي الطبري أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة فقال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، إني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، وأن يقسموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي. وقد حفظ لنا يحيى بن آدم (ثقة حافظ فاضل من كبار التاسعة مات سنة ثلاث ومائتين<a >[2]) وصية الفاروق للخليفة من بعده، تلك الوصية التي تلخص حرص إمام المسلمين على صالح الرعية، يقول:
"أوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار خيرًا فإنهم حياة المال، وغيظ العدو، وردء المسلمين، وأن يقسم بينهم فيئهم بالعدل، وألا يحمل من عندهم فضل إلا بطيب أنفسهم".
وكان إذا استعمل العمال على الأقاليم خرج معهم يشيعهم ويوصيهم فيقول: إني لم أستعملكم على أشعارهم ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بالعدل، وإني لم أسلطكم على أبشارهم ولا أشعارهم، ولا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جردوا القرآن، وأقلوا من رواية محمد وأنا شريككم.
وكان يقتص من عماله، فإذا شكا إليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه فإن صح عليه أمر يجب أَخْذه به أَخَذه به.
وروى الطبري أن الفاروق خطب الناس فقال: أيها الناس، إني والله ما أرسل عمالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقتصن منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته، إنك لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذًا لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه.
وكان إذا استعمل عاملاً كتب له عهدًا وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين والأنصار، واشترط عليه ألا يركب برذوانًا، ولا يأكل نقيًا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يتخذ بابًا دون حاجات الناس.
وعمر بن الخطاب هو أول من وضع التأريخ وكتبه وذلك في العام السادس عشر للهجرة، كما أنه أول من وضع تقليدًا بتأريخ الكتب والرسائل وختم بالطين. وهو أول من جمع الناس على إمام لصلاة التراويح في شهر رمضان وكتب بذلك إلى البلدان، وكان في العام الرابع عشر، وكان أول من حمل الدرة وضرب بها تأديبًا، ومن ذلك ما فعله مع سعد بن أبي وقاص ، وكان الفاروق يوزع مالاً آتاه بين المسلمين، فرأى سعد يزاحم الناس حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدرة وقال: إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك.
وشهد عصره بالإضافة إلى ذلك تنظيمات إدارية متنوعة فوضع أساس بيت المال ونظم أموره، وكان يعس ليلاً، ويرتاد منازل المسلمين، ويتفقد أحوالهم بيديه، وكان يراقب المدينة ويحرسها من اللصوص والسراق، كما كان يراقب أسواق المدينة ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم، وهو في هذا كله يتأسى بسنة رسول الله .
فقد كان يقول: القوة في العمل ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد، والأمانة ألا تخالف سريرة علانية، واتقوا الله فإنما التقوى بالتوقي ومن يتق الله يقه<a >[3].
وهكذا نرى هذه العقلية الإدارية الفذة والتي تعلمت الإدارة عمليًّا من رسول الله ، وليس سيدنا عمر ممن يحبون الكلام وكثرته، بل إن شغلهم الشاغل إنما هو العمل النافع والتطبيق العملي واستثمار كل الطاقات البشرية الموجودة لديه في خدمة الإسلام وفي خدمة البشرية أيضًا.
أقاليم الدولة الإسلامية في عهد عمر :
يعتبر تقسيم الولايات في عهد الفاروق امتدادًا في بعض نواحيه لما كانت عليه في عهد أبي بكر الصديق إقليميًّا مع وجود بعض التغيرات في المناصب القيادية لهذه الولايات في كثير من الأحيان.
1- مكة المكرمة.
2- المدينة المنورة.
3- الطائف.
4- اليمن.
5- البحرين.
6- ولايات الشام.
7- ولايات العراق وفارس (البصرة- الكوفة- المدائن – أذربيجان)<a >[4].
الدواوين في عهد عمر :
نشأت الدواوين في عهد الفاروق ، وكان ذلك نتيجة لاتساع الدولة الإسلامية، واتصال المسلمين الفاتحين عن قرب بالأنظمة الفارسية والبيزنطية في الأقاليم والتعرف على حضارتها، فانتقوا من بين ذالك ما وجدوه ملائما للاقتباس، كما أبقوا على الكثير من الأنظمة الإدارية التي ثبت لهم صلاحيتها لتلك البلاد.
وقد اخْتُلف في تحديد نشأة الديوان؛ فيحدده الطبري بالعام الخامس عشر للهجرة، بينما يذكره الماوردي في الأحكام السلطانية في العام العشرين<a >[5].
ومن الدواوين التي أوجدها عمر:
1- ديوان العطاء :
لما أراد الفاروق وضع الديوان فقد وضع أسسًا للمفاضلة بين المسلمين في العطاء انطلاقًا من أن من قاتل وهاجر مع رسول الله ، ليس كمن لم يقاتل أو تأخر، وفرض لأهل السوابق والقدم في الإسلام<a >[6].
ويذكر ابن سلام أن عمر حين أراد تدوين الدواوين قال: بمن نبدأ؟ قالوا: ابدأ بنفسك. قال: لا، إن رسول الله إمامنا، فبرهطه نبدأ ثم الأقرب فالأقرب، وكان هذا بعد أن فتح الله على المسلمين العراق والشام وجنى خراجها فقال: إني رأيت أن أفرض العطاء لأهله الذين افتتحوه. (كتاب الأموال)
أما الأسس التي وضعها الفاروق لترتيب أسماء الناس في الديوان فهي:
1- درجة النسب المتصل برسول الله .
2- السبق في الإسلام.
3- جهاده الأعداء، ومن كان من أهل بدر يتصدرون قائمة العطاء، ويليهم في المكانة من شهد المواقع إلى الحديبية، ثم من الحديبية إلى القضاء على المرتدين.
4- جعل أهل الفترة الواحدة طبقة واحدة في العطاء، بمعنى أن من شهد المواقع إلى الحديبية مثلاً طبقة واحدة.
5- فضل أهل الحرب على قدر براعتهم في القتال.
6- البعد والقرب عن أرض العدو وفضل من قربت داره عن من بعدت داره عن العدو.
2- ديوان الجيش :
ارتبطت نشأة ديوان الجيش بتدوين الدواوين، أو تسجيل أسماء الجنود وذلك لمواجهة الزيادة التي طرأت على عدد الجنود، وضرورة إحصائهم، وترتيب أمورهم، وتوفير أعطياتهم، ومن أجل ذلك كان لا بد من تخصيص ديوان للجيش.
وهناك شروط لهذا الديوان:
أ- الوصف:
1- البلوغ. 2- الحرية. 3- الإسلام.
4- السلامة من الآفات. 5- الإقدام على الحروب ومعرفة القتال.
ب- النسب والسبق في الإسلام:
يقوم بترتيب الأسماء في هذا الديوان على حسب القرب من رسول الله ثم ترتيبهم الواحد بعد الواحد وفقًا لسبقهم في الإسلام، وإن تكافئوا فبالدين، فإن تكافئوا فبالسن فإن تقاربوا فبالشجاعة في الحروب.
جـ- الكفاية:
وهو تقدير العطاء بالكفاية، والكفاية كما يقول الماوردي لها أسس:
1- عدد من يعول من الذراري.
2- عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر.
3- الموضع الذي يحله من الغلاء والرخص.
3- ديوان الاستيفاء :
الأصل في نشأة هذا الديوان هو حاجة الدولة إلى إحصاء خراج البلاد المفتوحة، وتنظيم الإنفاق في الوجوه التي يجب الإنفاق فيها، وقد وضحت أهمية هذا الديوان في الدولة الإسلامية، حين تعددت مصادر الدخل وزادت ثروة الدولة وتشعبت وجوه الإنفاق[7].
كاتب الديوان :
وكاتب الديوان هو صاحب زمامه، يجب أن تتوفر فيه العدالة والكفاية وأما اختصاصاته فهي:
1- حفظ القوانين
2- استيفاء الحقوق.
3- إثبات الرفوع.
4- إخراج الأحوال؛ ويعني استشهاد صاحب الديوان على ما يثبت فيه من قوانين وحقوق.
5- تصفح الظلامات<a >[8].
فقه عمر الإداري :
من دلائل فقهه الإداري أنه كان يستفيد من كل الطاقات ويؤهلها لخدمة الإسلام:
فعن أسق قال: كنت عبدًا نصرانيًّا لعمر، فقال: أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأعتقني لما حضرته الوفاة, وقال: اذهب حيث شئت.
من فقهه الإداري تطبيق مبدأ الشورى :
كان عمر يستشير الرجال، وكان أيضًا يستشير النساء، فقد كان يقدم الشفاء بنت عبد الله العدوية في الرأي، فماذا بقي بعد ذلك للمرأة حتى تبحث عنه في غير الإسلام، إذا كان أمير المؤمنين يستشيرها في أمور الدولة، ويرضى عن رأيها، وكان يعتبر نفسه أبا العيال فيمشي إلى المغيبات اللواتي غاب أزواجهن، فيقف على أبوابهن ويقول: ألكن حاجة؟ وأيتكن تريد أن تشتري شيئًا؟ فإني أكره أن تخدعن في البيع والشراء، فيرسلن معه بجواريهن، فيدخل السوق، ووراءه من جواري النساء وغلمانهن ما لا يحصى، فيشتري لهن حوائجهن ومن ليس عندها شيء اشترى لها من عنده، وإذا قدم يقول: أزواجكن في سبيل الله، وأنتن في بلاد رسول الله ، إن كان عندكن من يقرأ، وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لَكُنَّ.. ويقول لهن: هذه دواة وقرطاس فادنين من الأبواب، حتى أكتب لَكُنّ، ويمر إلى المغيبات، فيأخذ كتبهن فيبعث بها إلى أزواجهن.
من سمات وخصائص الجانب الإداري عند سيدنا عمر بن الخطاب أنه كان دقيق المتابعة للولاة، والمتابعة هي عنصر هام جدًّا في نجاح أي خطة، وهكذا كان عمر .
نماذج للمتابعة الجيدة :
"عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب رسول الله قال ما زلت أسمع حديث عمر بن الخطاب أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرًا إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة عليها بابها وهي تقول:
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ تَسْرِي كَوَاكِبُهُ *** وَأَرَّقَنِي أَنْ لا ضَجِيعٌ أُلاعِبُهُ
أُلاعِبُهُ طَوْرًا وَطَوْرًا كَأَنَّمَا *** بَدَا قَمَرًا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حَاجِبُهُ
يُسَرُّ بِهِ مَنْ كَانَ يَلْهُو بِقُرْبِهِ *** لَطِيفُ الْحَشَا لا تَحْتَوِيهِ أَقَارِبُهُ
فَواللَّهِ لَوْلا اللَّهُ لا شَيْءَ غَيْرَهَ *** لَنُفِضَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ
وَلَكِنَّنِي أَخْشَى رَقِيبًا مُوَكَّلاً *** بَأَنْفُسِنَا لا يُفَتِرُّ الدَّهْـرُ كَاتِبُهُ
ثم تنفست الصعداء وقالت: لهان على عمر بن الخطاب وحشتي وغيبة زوجي عني. وعمر واقف يستمع قولها، فقال لها: يرحمك الله، يرحمك الله، ثم وجه إليها بكسوة، ونفقة، وكتب في أن يقدم عليها زوجها<a >[9].
إذن فهو يسن القوانين بعد التعايش الحقيقي مع المجتمع، ومعرفة مشاكله وهمومه من خلال التعامل مع الواقع مباشرة، وليس عن طريق التقارير التي ترد إليه فحسب، ولو كان فعل ذلك ما لامه أحد لحسن اختياره للولاة، ومع ذلك فهو لم يعتمد على ما يرد إليه من تقارير فحسب، بل كان كما نرى يتابع الأمور بنفسه.
عمر يتابع الأمور بنفسه :
لم يكن عمر يكتفي بأن يحسن اختيار عماله، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم ليطمئن على حسن سيرتهم ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خير لي أن أعزل كل يوم واليًا من أن أبقي ظالمًا ساعة نهار.
وقال: أيما عامل لي ظلم أحدًا فبلغني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته. وقال يومًا لمن حوله: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ؟ فقالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟ وقد سار بحزم في رقابته الإدارية لعماله وتابعهم بدقة، وكانت طريقة عمر في الإدارة إطلاق الحرية للعامل في الشئون المحلية، وتقييده في المسائل العامة، ومراقبته في سلوكه وتصرفاته، وكان له جهاز سرى مربوط به لمراقبة أحوال الولاة والرعية، وقد بينت لنا المصادر التاريخية أنه يشبه اليوم (المخابرات) ويمكن هنا أن نقول: إن المخابرات في عهد عمر بن الخطاب كان هدفها الأول والأخير توفير الأمن والحماية للدولة الإسلامية، وليس التجسس على عورات الناس وبث الرعب في نفوسهم كما هو الحاصل في كثير من الأنظمة التي تحكم الناس اليوم، ومن أهدافها أيضًا المتابعة الدقيقة للولاة, فقد كان علمه بمن نأى عنه من عماله كمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد، فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممس ومصبح، وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الناس إليه وأخصهم، وكانت وسائل عمر في متابعته لعماله متعددة ومنها:
طلبه من الولاة دخول المدينة نهارًا :
كان يطلب من ولاته دخول المدينة نهارًا، ولا يدخلوها بالليل حتى يظهر ما يكون قد جاءوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب.
طلب الوفود من الولاة :
كان عمر يطلب من الولاة أن يرسلوا وفدًا من أهل البلاد ليسألهم عن بلادهم، عن الخراج المفروض عليهم ليـتأكد بذلك من عدم ظلمهم، ويطلب شهادتهم فكان يخرج إليه مع خراج الكوفة عشرة من أهلها، ومع خراج البصرة مثلهم، فإذا حضروا أمامه شهدوا بالله أنه مال طيب ما فيه ظلم مسلم ولا معاهد وكان هذا الإجراء كفيلاً بمنع الولاة من ظلم الناس إذ لو حدث هذا لرفعه هؤلاء الموفدون إلى أمير المؤمنين وأخبروه به، كما أن عمر في الغالب كان يقوم بمناقشة هؤلاء الموفدين وسؤالهم عن بلادهم، وعن ولاتهم وسلوكهم معهم.
رسائل البريد :
كان عمر يرسل البريد إلى الولاة في الأمصار فقد كان يأمر عامل البريد العودة إلى المدينة أن ينادى في الناس من الذي يريد إرسال رسالة إلى أمير المؤمنين؟ حتى يحملها إليه دون تدخل من والى البلد، وكان صاحب البريد نفسه لا يعلم شيئًا من هذه الرسائل، وبالتالي يكون المجال مفتوحًا أمام الناس لرفع أي شكوى أو مظلمة إلى عمر نفسه دون أن يعلم الوالي أو رجاله بذلك، وحينما يصل حامل الرسائل إلى عمر ينثر ما معه من صحف، ويقرأها عمر ويرى ما فيها.
المفتش محمد بن مسلمة :
وكان الفاروق يستعين بمحمد بن مسلمة الأنصاري في متابعة الولاة، ومحاسبتهم، والتأكد من الشكاوي التي تأتي ضدهم، فكان موقع محمد بن مسلمة كالمفتش العام في دولة الخلافة.
موسم الحج :
كان موسم الحج فرصة لعمر ليستقي أخبار رعيته وولاته، فجعله موسمًا للمراجعة والمحاسبة، واستطلاع آراء الرعية في ولاتهم، فيجتمع فيه أصحاب الشكايات والمظالم، والرقباء الذي كان عمر يبثهم في أرجاء دولته لمراقبة العمال والولاة، ويأتي العمال أنفسهم لتقديم كشف الحساب عن أعمالهم، فكان موسم الحج (جمعية عمومية) كأرقى ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور.
جولة تفتيشية حول الأقاليم :
كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصيًّا لمراقبة العمال، لتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أحوال الدولة المترامية الأطراف، وقال: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا.
ولم يكتف الفاروق بالمراقبة عن طريق هذه الزيارات، بل عمد إلى طريقة أخرى، وهي إرسال كميات من الأموال إلى الولاة، وإرسال من يراقبهم حتى يعرف كيف تصرفوا فيها.
سياسة عمر مع الولاة :
سياسة عمر في عزل الولاة :
سعد بن أبي وقاص :
اجتمع نفر من أهل الكوفة بزعامة الجراح بن سنان الأسدي فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين عمر، وذلك في حال اجتماع المجوس في نهاوند لغزو المسلمين، فلم يشغلهم ما داهم المسلمين في ذلك، ولقد كان سعد عادلاً رحيمًا بالرعية، قويًّا حازمًا على أهل الباطل والشقاق، عطوفًا على أهل الحق والطاعة، ومع ذلك شكاه هؤلاء القوم ممن لا يطيقون حكم الحق، ويريدون أن يحققوا شيئًا من أهوائهم، وقد وقتوا لشكواهم وقتًا رأوا أنه أدعى لسماع أمير المؤمنين منهم حيث إن المسلمين مُقْبلون على معركة مصيرية تستدعي اتفاق الكلمة.
وقد استجاب أمير المؤمنين لطلبهم في التحقيق في أمر شكواهم مع علمه بأنهم أهل هوى وشر، فبعث عمر محمد بن مسلمة ليتأكد من دعاوى الشاكين، وفي هذا بيان لمنهج الصحابة في التحقيق في قضايا الخلاف التي تجري بين المسئولين ومن تحت ولايتهم.
وعزل عمر سعد بن أبي وقاص درءًا للفتن وإماتتها وهي في مهدها قبل أن تستفحل، فتسبب الشقاق والفرقة وربما القتال.
هذا وقد استبقى عمر سعدًا في المدينة وأقر من استخلفه سعد على الكوفة بعده، وصار سعدًا من مستشاري عمر في المدينة، ثم جعله من الستة المرشحين للخلافة حين طعن، ثم أوصى الخليفة من بعده بأن يستعمل سعدًا وقال: فإني لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك.
عزل خالد بن الوليد :
وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم مجالاً واسعًا لتصيد الروايات التي تظهر صحابة رسول الله في مظهر مشين، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم، اختلقوا ما ظنوه يجوز على عقول القارئين، لكي يصبح أساسًا ثابتًا لما يتناقله الرواة، وتسطره كتب المؤلفين، وقد تعرض عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام، الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخنا المجيد، ووقفوا كثيرًا عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد رضي الله عنهما وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين، وأتوا بروايات لا تقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على برهان أمام التحقيق العلمي النزيه.
عزل عمر خالدًا في المرة الأولى عن القيادة العامة، وإمارة الأمراء في الشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة غداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق .
وفي "قنسرين" من قرى بلاد شمال الشام جاء العزل الثاني لخالد وذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة، ومجمل أسباب العزل فيما يلي:
أ- حماية التوحيد:
ففي قول عمر : ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به. يظهر خشية عمر من فتنة الناس بخالد، وظنهم أن النصر يسير في ركاب خالد، فيضعف اليقين أن النصر من عند الله، سواء أكان خالدًا على رأس الجيش أم لا.
وعن ذلك يقول حافظ إبراهيم في تخوف عمر:
وَقِيلَ: خَالَفْتَ يَا فَارُوقُ صَاحِبَنَا *** فِيهِ وَقَدْ كَانَ أَعْطَى الْقَوْسَ بَارِيهَا
فَقَال: خِفْتُ افْتِتَانَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ *** وَفِتْنَةُ النَّفْسِ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيـهَا
ب- اختلاف النظر في صرف المال:
كان عمر يرى أن فترة تأليف القلوب، وإغراء ضعاف العقيدة بالمال والعطاء قد انتهت، وصار الإسلام في غير حاجة إلى هؤلاء، وأنه يجب أن يوكل الناس إلى إيمانهم.
بينما يرى خالد بن الوليد أن من معه من ذوي البأس والمجاهدين في ميدانه، ممن لم تخلص نياتهم لمحض ثواب الله، أمثال هؤلاء في حاجة إلى من يقوي عزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال.
ولا شك أن عمر وخالدًا اجتهدا فيما ذهبا إليه ولكن عمر أدرك أمورًا لم يدركها خالد رضي الله عنهما.
ج- اختلاف منهج عمر عن منهج خالد في السياسة العامة:
فقد كان عمر يصر على أن يستأذن الولاة منه في كل صغيرة وكبيرة، بينما يرى خالد أن من حقه أن يعطي الحرية كاملة من غير الرجوع لأحد في الميدان الجهادي، وتطلق يده في كل التصرفات إيمانًا منه بأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
ولعل من الأسباب التي دعت عمر إلى عزل خالد أيضًا، إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات.
حتى تتوافر في المسلمين نماذج كثيرة أمثال خالد، والمثنى وعمرو بن العاص، ثم ليدرك الناس أن النصر ليس رهنًا برجل واحد مهما كان هذا الرجل.
شروط عمر في الولاة :
لم يكن ينظر إلى صلاح الرجل في ذاته، ولكن إلى صلاحه للولاية، لذلك كان يولي أناسًا وأمامه من هو أتقى منهم وأكثر علمًا, وأشد عبادة، وكان يقول: إني لأتحرج أن استعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه. وكان يستعمل رجلاً من أصحاب رسول الله مثل عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، ويدع من هو أفضل منهم مثل عثمان بن عفان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، ونظرائهم لقوة أولئك على العمل والبصر به، ولإشراف عمر عليهم وهيبتهم له.
قال عمر يومًا لأصحابه: دلوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمني. قالوا: فلان. قال: لا حاجة لنا فيه، قالوا: من تريد؟ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإن كان أميرهم كان كأنه رجل منهم. قالوا: ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم, فولاه.
من لا يرحم لا يرحم :
أمر عمر بكتابة عهد لرجل قد ولاه، فبينما الكاتب يكتب جاء صبي فجلس في حجر عمر فلاطفه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين لي عشرة من الأبناء ما دنا أحد منهم مني قال عمر: فما ذنبي إن كان الله نزع الرحمة من قلبك، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، ثم قال: مزق الكتاب، فإنه إذا لم يرحم أولاده فكيف يرحم الرعية.
قواعد عمر في تعيين الولاة وشروطه عليهم :
1- القوة والأمانة :
وقد طبق الفاروق هذه القاعدة، ورجح الأقوى من الرجال على القوي، فقد عزل عمرُ شرحبيلَ بن حسنة وعيّن بدله معاوية، فقال له شرحبيل: أمن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل.
ومن أجمل ما أُثر عن عمر في هذا المعنى قوله: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة.
2- مقام العلم في التولية :
وقد جرى عمر الفاروق على سنة رسول الله في تولية أمراء الجيوش خاصة. قال الطبري: إن أمير المؤمنين كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان أمّر عليهم رجلاً من أهل الفقه والعلم.
وكان عمر يستعمل قومًا ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل، وكان التفضيل هنا إنما يعني أن أولئك الذين تركهم عمر كانوا أفضل دينًا، وأكثر ورعًا، وأكرم أخلاقًا ولكن خبرتهم في تصريف الأمور أقل من غيرهم، فليس من الضروري أن يجتمع الأمران كلاهما معًا، وهذه القاعدة التي وضعها عمر، ما زالت متبعة حتى اليوم في أرقى الدول، ذلك بأن المتدين الورع الخلوق إذا لم تكن له بصيرة في شئون الحكم، قد يكون عرضة لخديعة أصحاب الأهواء المضللين، أما المحنك المجرب، فإنه يعرف من النظرة السريعة، معاني الألفاظ وما وراء الألفاظ من معان..
وهذا هو السبب الذي دعا عمر بن الخطاب لاستبعاد رجل لا يعرف الشر، فقد سأل عن رجل أراد أن يوليه عملاً فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه لا يعرف الشر. فقال عمر لمخاطبه: ويحك ذلك أدنى أن يقع فيه. وهذا لا يعني أن يكون العامل غير متصف بالقوة والأمانة والعلم والكفاية وغيرها من الصفات التي يستلزمها منطق الحكم والإدارة، وإنما يقع التفاضل بين هذه الصفات، ويكون الرجحان لما سماه عمر بن الخطاب: البصر بالعمل.
3- أهل الوبر وأهل المدر :
جعل الوالي من القوم :
من الملاحظ أن عمر بن الخطاب كان في كثير من الأحيان يولى بعض الناس على قومهم، إذا رأى في ذلك مصلحة، ورأى الرجل جديرًا بالولاية، ومن ذلك توليته جابر بن عبد الله البجلي على قومه بجيلة، حينما وجههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسي على المدائن، وتولية نافع بن الحارث على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف، ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى أهداف معينة يستطيع تحقيقها ذلك الشخص أكثر من غيره.
فكان عمر ينظر حين يعيّن أحد عماله، إلى بعض الخصائص والطباع والعادات، والأعراف، فلقد عُرف أنه كان ينهي عن استعمال رجل من أهل الوبر على أهل المدر، وأهل الوبر هم ساكنو الخيام، وأهل المدر هم ساكنو المدن، وهذه نظرة دقيقة في اختيار الموظفين، فلكل من أهل الوبر والمدر خصائص وأخلاق وعادات وأعراف مختلفة، ومن الطبيعي أن يكون الوالي عارفًا بنفسية الرعية، وليس من العدل أن يتولى أمرها رجل جاهل بها، فقد يرى العرف نكرًا، وقد يرى الطبيعي غريبًا، فيؤدي ذلك إلى غير ما يتوخاه المجتمع من أهداف يسعى إلى تحقيقها.
4- الرحمة والشفقة على الرعية :
كان عمر يتوخى في ولاته الرحمة والشفقة على الرعية، وكم من مرة أمر قادته في الجهاد ألا يغزو بالمسلمين، ولا ينزلوهم منزل هلكة.
وخطب عمر ولاته فقال: اعلموا أنه لا حلم أحب إلى الله تعالى، ولا أعم من حلم إمام ورفيقه، وأنه ليس أبغض إلى الله ولا أعم من جهل إمام وخرقه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهرانيه يرزق العافية فيمن هو دونه.
5- لا يولي أحدًا من أقاربه :
كان عمر حريصًا على أن لا يولي أحدًا من أقاربه رغم كفاية بعضهم، وسبقه إلى الإسلام مثل: سعيد بن زيد ابن عمه، وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم، ويقول عمر: لوددت أني وجدت رجلاً قويًّا، أمينًا مسلمًا استعمله عليهم، فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا. ويقول: من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله.
6- لا يعطي من طلبها :
كان لا يولي عملاً لرجل يطلبه، وأراد أن يستعمل رجلاً فبدر الرجل بطلب العمل، فقال له: قد كنا أردناك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وقد سار على هذا النهج اقتداء بسنة الرسول .
7- منع العمال من مزاولة التجارة، وإحصاء ثرواتهم عند تعيينهم:
كان عمر يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواء أكانوا بائعين أو مشترين، وكان عمر يحصي أموال العمال والولاة ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا.
وروي أن عاملاً لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها، فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتّجروا، وأخذ منه ما حصل عليه من ربح.
8- شروط عمر على عماله :
كان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملاً كتب عليه كتابًا، وأشهد عليه رهطًا من الأنصار: أن لا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًا، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول: اللهم فاشهد.
وهذه الشروط تعني الالتزام بحياة الزهد، والتواضع للناس، هي خطوة أولى في إصلاح الأمة بحملها على التوسط في المعيشة، واللباس والمركب فهذه الحياة التي تقوم على الاعتدال حتى تستقيم أمورها، وهي خطة حكيمة، فإن عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمة بأمر لا يعتبر واجبًا في الإسلام، ولكنه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإذا التزموا فإنهم القدوة الأولى في المجتمع وهي خطة ناجحة في إصلاح المجتمع وحمايته من أسباب الانهيار.
المشورة في اختيار الولاة :
كان اختيار الولاة يتم بعد مشاورة الخليفة لكبار الصحابة، استشار عمر الصحابة فيمن يولي على الكوفة فقال لهم: من يعذرني من أهل الكوفة من تجنيهم على أمرائهم إن استعملت عليهم لينًا استضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدًا شكوه، ثم قال: يا أيها الناس ما تقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي، وآخر قوي مشدد أيهما الأصلح للإمارة؟ فتكلم المغيرة بن شعبة فقال: يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، والقوى المشدد فشداده على نفسه وقوته لك وللمسلمين فأعمل في ذلك رأيك، فقال عمر: صدقت يا مغيرة، ثم ولاه الكوفة وقال له: انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار ويخافه الفجار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين.
اختبار العمال قبل التولية :
كان عمر يختبر عماله قبل أن يوليهم، وقد يطول هذا الاختبار كما يوضحه الأحنف بن قيس حين قال: قدمت على عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فاحتبسني عنده حولاً فقال: يا أحنف قد بلوتك وخبرتك، فرأيت أن علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، وإنا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم. ثم قال له عمر: أتدرى لم احتبستك؟ وبين له أنه أراد اختباره ثم ولاّه، ومن نصائح عمر للأحنف: يا أحنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
المرسوم الخلافي :
وقد اشتهر عن عمر أنه حينما كان ينتهي من اختيار الوالي واستشارة المستشارين يكتب للوالي كتابًا يسمى عهد التعيين أو الاستعمال عند كثير من المؤرخين ويمكننا أن نسميه مجازًا (المرسوم الخلافي) في تعيين العامل أو الأمير، وقد وردت العديد من نصوص التعيين لعمال عمر، ولكن المؤرخين يكادون يتفقون على أن عمر بن الخطاب كان إذا استعمل عاملاً كتب له كتابًا وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين والأنصار، واشترط عليه شروطًا في الكتاب، وقد يكون الشخص المرشح للولاية غائبًا، فيكتب له عمر عهدًا يأمره فيه بالتوجه إلى ولايته، ومثال ذلك كتابه إلى العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين أمره بالتوجه إلى البصرة لولايتها بعد عتبة بن غزوان، وفي حال عزل أمير وتعيين آخر مكانه، فإن الوالي الجديد كان يحمل خطابًا يتضمن عزل الأول وتعيينه مكانه، وذلك مثل كتاب عمر مع أبي موسى الأشعري حين عزل المغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة وعيّن أبا موسى مكانه.
الاجتهاد والإدارة :
يقول الدكتور أحمد شلبي: "وكان الاجتهاد من أبرز الجوانب في حياة عمر خلال حقبة خلافته الحافلة بالأحداث، فحفظ الدين، ورفع راية الجهاد، وفتح البلاد، ونشر العدل بين العباد، وأنشأ أول وزارة مالية في الإسلام، وكون جيشًا نظاميًّا للدفاع وحماية الحدود، ونظم المرتبات والأرزاق، ودوّن الدواوين، وعيّن الولاة والعمال والقضاة، وأقر النقود للتداول الحياتي، ورتب البريد، وأنشأ نظام الحسبة، وثبت التأريخ الهجري، وأبقى الأرض المفتوحة دون قسمة، وخطط المدن الإسلامية وبناها، فهو بحق أمير المؤمنين، وباني الدولة الإسلامية".
ويقول المستشار علي علي منصور: إن رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن دستور للقضاء والمتقاضين، وهي أكمل ما وصلت إليه قوانين المرافعات الوضعية، وقوانين استقلال القضاة.
اجتهاد عمر في التشريع :
جاء عمر بن الخطاب بعد أبي بكر الصديق، وواصلت جيوش المسلمين زحفها، ففتحت بلاد فارس والشام ومصر من بلاد الروم، وكثرت الغنائم وواجه عمر مشكلات جديدة في إرسال الجيوش، وإمدادها وتنظيم الجند وحكم البلاد التي تفتح بحكم الله، وكلما أمعن المسلمون في الغزو وأبعدوا في الأرض كثرت المشكلات التي تواجههم، وقد وُفّق الفاروق لحل هذه المشكلات وتدبير أمور الدولة في حكم الأقطار البعيدة عنه، والقريبة منه توفيقًا كبيرًا، وظلت حياة المسلمين مستقيمة في حياة عمر استقامتها في حياة أبي بكر الصديق، فكلاهما ساس الناس كما كان يسوسهم الرسول ، والتزم الفاروق بالقرآن الكريم وسيرة النبي وسيرة أبي بكر ومشورة الصحابة في حل ما عرض له من مشكلات التي نشأت عن طريق الفتوح، فكلما طرأت له مشكلة وجد حلها في كتاب الله ، فإن لم يجد ففي سنة رسوله ، فإن لم يجد ففي سيرة أبي بكر الصديق، فإن لم يجد دعا أولي الأمر والرأي من المهاجرين والأنصار فشاورهم حتى يجد الحل للمشكلة، أو المشكلات التي عرضت له.
من يستشعر المسئولية لا ينام :
"عمر بن الخطاب لم يكن له وقت ينام فيه فكان ينعس وهو قاعد فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا تنام؟ فقال: كيف أنام إن نمت بالنهار ضيعت أمور المسلمين, وإن نمت بالليل ضيعت حظي من الله عز وجل