د. نادر فرجانى
مدير مركز "المشكاة" للبحث، مصر
يونيو 1998م

أهم دروس التجربة العالمية فى تطوير التعليم

يمكن أن نخلص من مراجعة مسيرة التعليم، فى العالم بوجه عام، وفى البلدان النامية بوجه خاص، إلى أمور أربعة أساسية:
أولها، أن أزمة التعليم أزمة عالمية، وإن اتخذت فى العالم المتقدم أبعاداً تختلف عن أبعادها فى العالم النامى.
وثانيها، أن النظام العالمى الحالى- الذى قوامه العولمة، وحرية السوق الاقتصادية (ولاسيما المالية)، وإهمال الهويات الثقافية وما تشتمل عليه من قيم ومواقف لابد من التعامل معها لاستخراج فضائلها ولتطويرها وتجديدها- نظام يملى على نظم التعليم فى العالم كله مطالب جديدة، ويفرض عليها أن تلجأ إلى جدائد مبتكرة، ما تزال بذورها فى طور التكوين.
وثالثها، حقيقة بديهية، كثيراً ما تنسى، وهى أن النسق التعليمى جزء من نسق اقتصادى واجتماعى وثقافى شامل، وأن التصدى لمشكلاته بالتالى لا تكون إلا من خلال شبكة تعليمية واسعة متفاعلة مع ذلك النظام الشامل. وهذه الحقيقة البديهية تعنى الكثير فى هذا العصر فائق السرعة فى تطوره وفى تجدد ملامحه وسماته، وفى تشابك مشكلاته الاقتصادية والمالية والإعلامية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقانية.
ورابعها، ولعله أهمها، هو أن النظم التعليمية، فى مثل هذا العالم دائب التغير، ينبغى أن تتصف أولاً وقبل كل شئ بالمرونة. فالمرونة فى بنية النظام التعليمى، وفى مساراته والانتقال بين فروعه، وفى مناهجه وتخصصاته، وفى طلابه وأعمار المنتسبين إليه، وفى سنوات الدراسة فيه، وفى وسائل تقويمه، وغيرها، مطلب ضرورى لمواجهة الحاجات المتجددة لسوق العمل ولمشكلات الاقتصاد ومطالب الحياة الاجتماعية والثقافية. والنظام التعليمى الثابت الجامد نظام لابد أن يأخذ طريقه إلى الزوال، إن لم يمت فعلاً فى كثير من بلدان العالم.


أهم منطلقات التجربة العالمية فى تجديد التعليم
يمكن أن نوجز أهم منطلقات التجربة التعليمية العالمية فى مجال التجديد التعليمى فى أربعة أمور أساسية.
أ) التعليم المستمر طوال الحياة. إن التعليم أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية كان يستهدف تربية مستمرة، من المهد إلى اللحد، فضلاً عن أنه كان تعليماً يتم فى أى مكان. وقد سئل أحد علماء السلف: ما حدُّ العلم؟ فأجاب "الحياة".
ويتفرع عن منطلق التعليم المستمر أمران:
 المزاوجة بين التعليم النظامى والتعليم غير النظامى بأشكاله المختلفة عن طريق مراكز التدريب، والتعليم العارض الذى يتم عن طريق مؤسسات الثقافة والإعلام، وفى الأسرة ودور العبادة والجمعيات والروابط وغيرها.
 ضرورة التدريب وتجديد التدريب بل وإعادة التدريب، تلبية لحاجات المجتمع المتغيرة ولحاجات مواقع العمل (الاقتصادية والاجتماعية) بوجه خاص.
ومادام التدريب وتجديده واستبداله وإكماله أموراً ممكنة، ومادامت المعارف والمهارات التى يحصل عليها الذين يرتادون المدارس النظامية بداية للتكوين والإعداد وليست نهاية لهما، فينبغى أن تتغير بنية المدرسة النظامية ومناهجها، بحيث تركز المدرسة، ولاسيما فى مرحلة التعليم الأساسى، على امتلاك المعلومات والقدرات الأساسية.

ب) التعلم الذاتى. ويعنى ذلك أمرين:
 التركيز على المتعلم، والاهتمام بدوره الفعّال وبمشاركته المباشرة فى التعليم، وتغير دوره من مستمع سلبى إلى مشارك وباحث وناقد ومصدر أساسى من مصادر المعرفة، بل حتى إلى مقوّم أساسى لنتاج جهده.
 ذيوع استعمال التقانات التعليمية الحديثة، بأشكالها العديدة والمتطورة، الأمر الذى يسّر، بل أملى، أن يعلّم الطالب نفسه بنفسه، خاصة عن طريق الحاسوب. والتقانات الحديثة تيسّر التعلم، وتمكن من التغلب على معيقات انتشار التعليم، وتولّد لدى الطلاب بواعث إيجابية ورغبة ذاتية فى التعلم. إلا أنه يتعين أن ندرك هذه التقنيات ونستوعبها، وأن نقف منها- خاصة فيما يتصل بمضامينها- موقفاً انتقائياً واعياً.
وفى وسع القدرة على التعلّم الذاتى أن تخفف الأعباء عن المدرسة النظامية، وأن تجعل الاستمرار فى الدراسة والتعلّم ممكناً حتى حين يغادر الشخص المدرسة (قبل أو بعد الانتهاء من مرحلة دراسية معينة).

ج) مرونة النظام التعليمى: شرط لابد منه لمواجهة التغيرات العالمية الضخمة، وبعضها مفاجئ، فالمستقبل صعب التحديد. ولكن بوجه عام، لم يعد التعلم يقتصر على سنوات معينة فى بدايات العمر، ولم يعد محصوراً داخل جدران مدرسة أو جامعة، ولم يعد مقترناً بكمّ من المعلومات والمهارات يتقنها الفرد فى برامج تعليمية مقننة ويستخدمها بقية حياته.

وتمتد المرونة لتشمل كامل بنية نسق التعليم: عدد سنوات الدراسة، ومحتواها، وانفتاح المدرسة دوماً على عالم العمل وحاجاته، وتنويع التعليم وتشعيبه، وتيسير الانتقال بين المراحل والأنواع التعليمية، والقضاء على الحواجز بين التعليم النظامى وغير النظامى، والتكامل والتناوب بين الدراسة والعمل.

د) المجتمع المتعلم-المعلِّم: بمعنى أن يكون كل فرد فى المجتمع متعلماً وساعياً إلى فضل من المعرفة، وأن يكون فى الوقت نفسه مُعلماً لسواه. وهذا يعنى فيما يعنى أن تكون مؤسسات المجتمع كلها، ولاسيما مؤسسات العمل والإنتاج، مؤسسات تدريبية وتعليمية فى الوقت نفسه. كما يعنى أيضاً وبوجه خاص المشاركة الفاعلة من المجتمع كله فى عملية التعليم. إنه يعنى جعل التعليم-التعلّم شأناً مجتمعياً شاملاً.

التوجهات الاستراتيجية

والتوجهات الاستراتيجية هى مجموعة من المبادئ الحاكمة لعملية إنفاذ مشروع معين، تعد- مجتمعة- لازمة لتحقيق غاياته. ويقدم هذا القسم حزمة أساسية من التوجهات الاستراتيجية لتطوير التعليم كأساس لبناء رأس مال بشرى متنام، وراقى النوعية، فى البلدان العربية.

والمهم فى بناء الرؤى المستقبلية هو نظم مجمل عناصرها فى شمول واتساق وتماسك. ويعنى ذلك أن تقوم درجة حرجة من التكامل بين عناصر "الرؤية" تنفى إمكانية تقسيم التصور داخلياً إلى أجزاء منبتة الصلة ببعضها. لذلك ينبغى أن تؤخذ محاور التصور المطروح، كحزمة كلية عبر تقسيمات الموضوع. وعلى وجه الخصوص، لا يتصور إسقاط عناصر جوهرية فى هذه الحزمة دون تقليل، أو إهدار، إمكانية بلوغ الغايات المبتغاة.


التوجه الأول: بناء رأس المال البشرى راقى النوعية
ليس من قبيل المغالاة القول بأنه، فى منظور مستقبل التقدم فى البلدان العربية، لا توجد غاية تعدل تطوير نسق التعليم بحيث يؤدى إلى إكساب-اكتساب البشر للمعارف والقدرات والتوجهات التى تتناسب ومقتضيات القرن الواحد والعشرين، والذى يؤذن بقسمة جديدة بين البشر على هذا الكوكب حسب مدى تملكهم لناصية المعرفة والتقانة الأحدث من ناحية أخرى.

ويتبلور الطموح للنهضة فى الوطن العربى، فى مجال بناء رأس المال البشرى راقى النوعية، فى غايات ثلاث:
 النشر الكامل للتعليم الأساسى، مع إطالة مدته الإلزامية إلى عشر سنوات على الأقل، وتوسعة نطاق التعليم بعد الأساسى باطراد.
 استحداث نسق مؤسسى لتعليم الكبار، مستمر مدى الحياة، فائق المرونة ودائب التطور، من أجل مكافحة فعالة للأمية- بصنوفها- من ناحية، وإعمالاً لمبدأ التعلم المستمر مدى الحياة لخريجى النظام التعليمى من ناحية أخرى.
 إيجاد وسائل داخل جميع مراحل التعليم تكفل ترقية نوعية التعليم، بما يؤدى إلى تبلور مسار للحداثة والتميز والإبداع كمدخل للإمساك بناصية المعرفة والتقانة الأحدث فى المجتمعات العربية.

وتتضمن الوسائل الفعالة لتعميم التعليم الأساسى أن يكون شاملاً بحق، ومجاناً بالكامل. بل تحتم الآثار السلبية لانتشار الفقر فى البلدان العربية العمل على توفير الدعم المالى لتعليم الأطفال فى الأسر الفقيرة، خاصةً البنات، على أن يشمل ذلك التكلفة المباشرة بالإضافة إلى تكلفة الفرصة البديلة للتعليم عند الحاجة (ما يوازى عائد عمل الأطفال فى الأسر المحتاجة)، ولتوفير التغذية المجانية والرعاية الصحية فى مدارس التعليم الأساسى.

ولكن يبقى تحدى ترقية النوعية أعصى. ونتصور أن هناك سمات أربع جوهرية لنوعية التعليم المؤسس للتقدم:
- تأسيس العقلية النقدية.
- تكوين الملكات الابتكارية.
- بناء التوجهات الاجتماعية المواتية، مثل الاجتهاد، والكفاءة، والدقة، والانضباط، والمبادأة، والعمل الجماعى، وخدمة الجماعة، والعدالة، والديمقراطية.
- تأمين التعلم الذاتى، والمستمر، كسبيل لتملك معرفة واسعة، وقدرات وتوجهات بناءة، ومتنامية.

ولا مناص، فى ضوء المقترحات السابقة، من أن توفر البلدان العربية موارد أضخم للتعليم وزيادة كفاءة استغلالها فى البلدان العربية. ويوجد مجال واسع لرفع كفاءة الموارد المخصصة للتعليم حالياً، ولزيادة الموارد المالية المخصصة للتعليم، وحتى لإعادة تخصيص الموارد الكلية المتاحة، لإعطاء تكوين رأس المال البشرى الراقى الأولوية الحاسمة التى يستحق فى تخليق مستقبل زاهر للأمة العربية، على أوجه إنفاق أخرى.

وفيما يتصل بزيادة الموارد المالية للتعليم، تبنى الأردن تجربة مفيدة فى مضمار توفير الموارد المالية للتعليم العالى، تشمل اقتطاع نذر يسير من الرسوم الجمركية، وفرض رسوم ضئيلة على أرباح الشركات، ومعاملات الهاتف، ورخص الأبنية، ورخص المهن، وعقود الإيجار، والمعاملات القانونية، وإيرادات الغرف التجارية والنقابات، ومعاملات الأراضى، والعطاءات الرسمية.
والواقع أنه بسبب ترافق انتشار الفقر بين العامة واستشراء الثراء بين قلة فى البلدان العربية، ربما أصبح من الضرورى استهداف القادرين لزيادة مساهمتهم فى تمويل التعليم، خاصة العالى. سواء من خلال اقتضاء رسوم تعليم عالية من أبناء القادرين (وليس مجرد إعفاء المتفوقين من غير القادرين) أو تشجيع الأفراد الموسرين، ومشروعات الأعمال، على منح الهبات والوقفيات لمؤسسات التعليم (من خلال إعفاءات ضريبية مغرية). والواقع أن لقطاع الأعمال، بوجه خاص، مصلحة ذاتية فى دعم التعليم لضمان توافر المهارات والكفاءات البشرية اللازمة لتحسين إنتاجيته، وفى النهاية، لتعظيم أرباحه (يعى قطاع الأعمال هذه الحقيقة فى المجتمعات الرأسمالية الناضجة ويترجمها فى صورة دعم ضخم لكل أنواع التعليم والبحث، خاصة فى مؤسسات التعليم العالى الأعلى تكلفة).


ويثار أحياناً أن البلدان العربية، خاصة الأفقر منها، لا تطيق تكلفة النمط التعليمى السائد فى البلدان المصنعة والقائم على الإنفاق الكبير. وهذا صحيح، وليس محبذاً على الإطلاق مجرد تقليد النمط الغربى للتعليم.
ولا جدال فى أن مجرد إغراق أزمة التعليم فى البلدان العربية بالموارد المالية لن يكفى لحلها. فالسياسات المناسبة، والسياق العام المواتى، لا يقلا أهمية عن حجم التمويل. والحق أن زيادة التمويل، فى غياب السياسات المناسبة والسياق العام المؤازر، لا تضمن تكوين رأس المال البشرى راق النوعية، كما تشهد خبرة بعض البلدان العربية الأغنى. ويمكن القول بأن التحدى المستقبلى الضخم الذى تواجهه البلدان العربية هو التوصل لحلول ابتكارية عربية تؤدى إلى تطوير نظام تعليمى بديل يمكن أن ينتج تعليماً أكثر كفاءة، وأرقى نوعية، وبتكلفة مادية ملائمة. وهذا مجال رحب لاجتهاد المجتهدين.
على سبيل المثال، يَعِد أسلوب "مدارس المجتمع" فى مصر بحلول فعالة لمشاكل الالتحاق والنوعية. ومدارس المجتمع مشروع تجريبى بين وزارة التعليم واليونيسف فى مصر، ويتم تنفيذه من خلال مشاركة المنظمات غير الحكومية المحلية والمجتمعات المعنية. ويستهدف المشروع توفير تعليم أساسى، راقى النوعية، ومناصر للفتيات، وحساس لمطالب المجتمع، فى أكثر المناطق حرماناً فى ريف مصر. ويقوم المشروع على مشاركة فعالة من المجتمع، فيقدم المجتمع المحلى مكاناً للمدرسة، وينشئ لجنة تساهم فى إدارة المدرسة. ولا تشترط المدرسة زياً ولا يدفع التلاميذ رسوماً. وتعطى البنات أولوية فى الالتحاق بدون استبعاد الصبية. و"ميسّرات" التعلم الذاتى، بدلاً من المدرسين، هن خريجات من المستوى المتوسط من التعليم على الأقل، من أهالى المجتمع الذى تقوم به المدرسة، أو آخر قريب. وتعطى الميسرات تدريباً مكثفاً، قبل بدء العمل وطوال الخدمة. وتستخدم مناهج وزارة التعليم، ولكن تطبق أساليب التعليم المتركز حول التلاميذ بشكل صارم من خلال ترتيب الفصول، وأساليب التعليم، ومشاركة التلاميذ فى التخطيط لنشاطات المدرسة وتقييمها. وتعد نتائج المشروع إيجابية للغاية سواء بدلالة التحسن فى الالتحاق، أو التحصيل المعرفى، أو تطور شخصيات التلاميذ.

لكن يتعين التنبه إلى أن التعليم الجيد، خاصة فى المراحل الأعلى، هو تعليم مكلف. ولا ريب فى أن رفع تحدى تطوير التعليم فى البلدان العربية إلى المستوى القومى، الذى سيناقش فيما يلى، يخفف كثيراً من قيد الموارد، وهو أكثر إحكاماً على المستوى القطرى.


التوجه الثانى: صياغة علاقة تضافر قوية بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية
تكررت الإشارة فيما سبق إلى التشابك الوثيق بين حال التعليم وبين السياق الاجتماعى الاقتصادى العام فى البلدان العربية، ومغزى هذا التشابك بالنسبة للتخطيط لتطوير رأس المال البشرى. وليس من أمل يرجى من استمرار النظرة القطاعية التى تضيّق من مجال الاهتمام بالتعليم وجهود تطويره. فالتعليم، فى نهاية المطاف، هو جهد مجتمعى يقوم على تفاعل مختلف القوى النشطة فى المجتمع، ولا يقتصر على عمل وزارة أو أكثر.
بعبارة أخرى، يتعين أن يصبح التعليم همّاً للمجتمع كله. لمؤسسات الحكومة وأجهزة الدولة كافة، وقطاع الأعمال والمجتمع المدنى- خاصة على مستوى المجتمعات المحلية- متضافرين.

إن التضافر المجتمعى الموصوف يضمن تواؤم نسق التعليم، مدخلات وبنية ومخرجات، مع حاجات تنمية الإنتاج وتقدم المجتمع.
فبالإضافة إلى إيجاد حلول كفء لمشكلات تمويل التعليم مثلاً، يمكن الاعتماد على هذه الشراكة المجتمعية، خاصة إذا قادتها الدولة بفعالية، فى مواجهة التأزم الهيكلى للعلاقة بين نسق التعليم وحاجات عالم العمل والإنتاج، فى البلدان العربية. فالأسواق، وبوجه خاص أسواق العمل، لم تتطور بعد إلى أسواق تنافسية كفء فى البلدان العربية. بل مازالت تشكو الكثير من التشوه. وعليه لا يمكن الاعتماد على الأسواق فى إحداث التواؤم بين نسقى التعليم والعمل بكفاءة وبتكلفة إجمالية مقبولة. والواقع أنه حتى فى الاقتصادات الرأسمالية الناضجة ينطوى الاعتماد لإحداث هذا التواؤم على تكلفة اجتماعية كبيرة لا تطيقها البلدان النامية، الأمر الذى يستلزم زيادة كفاءة التخطيط والجهود التعاونية بين قطاعات المجتمع للمواءمة بين نسقى التعليم والعمل فى البلدان العربية.

ويثار، فى سياق سياسات وبرامج "التكيف الهيكلى"، فى البلدان العربية مسألة تشجيع القطاع الخاص على الدخول فى ميدان التعليم.
ولا ريب فى أن تحسين تراكم رأس المال البشرى يمكن أن يستفيد من وجود نظام تعليمى وطنى وقوى، غير حكومى، ولكن لا يستهدف الربح، كمنافس للتعليم الحكومى، مع وجود ضمانات قوية للنوعية من خلال نسق محكم لضبط الجودة. وإذا أمكن نفخ الروح فى العمل الأهلى الطوعى من خلال المنظمات غير الحكومية، فقد تنفسح فرصة طيبة فى هذا الميدان.
ولكن، فى ظل السياق المؤسسى الحالى، يستحيل أن يوفر حافز الربح أساساً للوفاء بحاجات الفئات الاجتماعية الضعيفة من التعليم، وتضم غالبية العرب، والتى يتوقع أن يزداد حرمانها منه فى سياق التعليم الخاص. فلا يحمل تعليم أبناء الفقراء هامش ربح يغرى على الاستثمار الخاص. والأقرب، وفى الخبرة الفعلية حتى الآن دليل قوى، أن يتوفر رأس المال الخاص على تقديم تعليم مدلل لأبناء الأغنياء. ولن يقوم حلاً لحرمان جموع أبناء الفقراء أن "يُسمح" لنسبة قليلة منهم بالالتحاق بمدارس الأثرياء يعانون فيها عزلة اجتماعية وتعليمية قاسية. تحت هذه الظروف يصبح التعليم وسيلة لتكريس الفوارق الاجتماعية، بدلاً من دوره التنموى المنشود فى مساعدة الفقراء على التغلب على ضعفهم وتمتين اللحمة الوطنية، فى بلدان تعانى من استشراء داء التفرقة. وإذا أقام مستثمرون ذوو سطوة قطاعاً خاصاً، يستهدف الربح، فى ميدان التعليم، فقد يستحيل أيضاً أن تمارس إدارة حكومية غير كفء وحريصة على اجتذاب الاستثمار الخاص، ضبطاً محكماً لمستوى جودة التعليم.


التوجه الثالث: إقامة برنامج لتطوير التعليم على الصعيد العربى
هناك حاجة ماسة لقيام برنامج عمل قصدى لتطوير التعليم فى البلدان العربية، يقوم على أساس برامج قطرية ولكن فى إطار تعاون عربى فعال.

إن بناء رأس المال البشرى راقى النوعية هو تحدى المستقبل فى البلدان العربية مجتمعة. ولم يعد التطور فى السياق القطرى المنفرد، فى هذا الميدان فى عموم الوطن العربى كافياً. لقد حقق التطور القطرى ما يمكن تحقيقه من توسع كبير فى الانتشار الكمى للتعليم الأساسى، خاصة فى البلدان العربية الأغنى، محدودة السكان. بينما يبقى تحدى الكم كبيراً فى البلدان العربية الفقيرة، خاصة فى المراحل الأعلى. ويلاحظ أن القضاء على الجيوب الأخيرة للاستبعاد من التعليم أصعب من الإنجازات الأولى فى نشر التعليم. وتشكل البيئات الرعوية والصحراوية تحدياً خاصاً فى هذا الميدان. كذلك أتى التطور السابق بمشكلات تدنى النوعية التى تعانى منها البلدان العربية الغنية والفقيرة على حد سواء. وتمثل ترقية النوعية تحدياً أكبر من نشر التعليم، ولكنه تحد من نوع مختلف.

ومن المتفق عليه أن التعاون العربى الفعال شرط جوهرى للتنمية الجادة فى الوطن العربى. ويصح هذا بشكل واضح فى مجال تنمية رأس المال البشرى عامة، وفى حقل التعليم خاصة، نتيجة لتفاوت الإمكانات البشرية بين الأقطار العربية بشدة، بحيث يصعب على أى قطر عربى، منفرداً، تحقيق إنجاز ملموس فى نشر التعليم وترقية نوعيته. وقد ترتب على هذه الحقيقة قيام تعاون عربى كبير فى مجال التعليم لعدة عقود- وإن لم يستهدف بالضرورة خدمة أهداف الأمة مجتمعة. كما أن نتيجة هذا التعاون، حتى الآن، أقل بكثير من المرغوب. وكما اتضح عند مناقشة السياق الإقليمى للتربية، تفرض المواجهة الفاعلة لإسرائيل، والقوى الداعمة لها، تضافراً وثيقاً فى الجهود العربية لبناء القدرات البشرية والتقانية. وتجدر الإشارة، نهاية، إلى أن التعاون العربى فى مجال التعليم يمكن أن يكون عامل صهر اجتماعى يساعد على قيام أشكال أكثر رقياً من التعاون العربى فى المستقبل.

لقد بات تطوير التعليم فى مجمل البلدان العربية، بما يسهم فى تفادى كارثة الانعزال عن المشاركة الفاعلة فى عالم القرن الواحد والعشرين، يتطلب قيام سلطة تعليمية فوق-قطرية وفعالة على الصعيد العربى. وبقدر ما تقترب الدول العربية من بناء هذه السلطة بقدر ما سيكتب لها أن تقيل مجتمعاتها من أزمتها التنموية الحالية، وأن تشارك، من موضع قدرة، فى صنع العالم الجديد.
وليس بكثير، على سبيل المثال، أن يصبح تطوير التعليم فى الوطن العربى بنداً جوهرياً، ودائماً، على جدول أعمال مؤتمرات القمة العربية. ومازال المجال بعد فسيحاً لإنشاء مؤسسات قومية، حكومية وأهلية، ولتدعيم المؤسسات القائمة، فى ميدان التعليم؛ ولتوجيه مؤسسات تنموية أخرى قائمة لأن تهتم- جدياً- بتطوير التعليم. فالميدان رحب، والتحدى هائل، والجهد المبذول حتى الآن أقل من جهد المقل.

وتتمثل الغاية من برنامج عربى لتطوير التعليم فى تضييق الفجوة فى المعارف والقدرات والتوجهات بين البلدان العربية وتلك المتقدمة، إلى الحد الذى يمكّن العرب، ابتداء، من المتابعة النشطة، واسعة النطاق والنقدية، لتطور المعرفة والتقانة فى العالم، واستخدامها بكفاءة؛ ثم من المشاركة الفاعلة فى تطور المعرفة والتقانة فى منظور خصوصية المسار التنموى العربى.

وتُنال هذه الغاية من خلال هدفين: العمل على نشر التعليم الأساسى بالكامل بين أطفال العرب جميعاً، فى أفق زمنى محدد وقصير، والتوسع المطرد فى نطاق مراحل التعليم بعد الأساسى، أولاً؛ وعلى تحقيق حد أدنى مقبول لنوعية التعليم، ثم ترقيتها باطراد، فى جميع المراحل وفى عموم الوطن العربى، ثانياً.

ويُقترح أن يتكون البرنامج ذاته من مجموعة من الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف المبتغاة فى آفاق زمنية معينة. وأن تنتظم الوسائل حول محاور ثلاثة، واحد بحثى وتقويمى، والثانى تخطيطى، والثالث ترويجى وتمويلى، تتضافر لضمان تحقق الغاية من البرنامج، من خلال تعظيم التعاون العربى والاستفادة من إمكانات التعاون الدولى.
ويُعنى المحور البحثى والتقويمى بدراسة تطور وواقع التعليم فى البلدان العربية، وعلى وجه الخصوص تقييم الناتج الحقيقى للتعليم من حيث التوجهات والمعارف والقدرات التى يحصل عليها الخريجون. ونرى أن هذا التقييم يجب أن يحتل أولوية متقدمة فى أنشطة البرنامج، خاصة فى مراحله الأولى. فمن ناحية نعتقد أن نتائج مثل هذا التقييم ستعطى دفعة كبيرة لجهود تطوير التعليم فى الوطن العربى عامة. ومن ناحية أخرى، فإن النتائج المتوقعة من التقييم يمكن أن تشكل أساساً متيناً لعقد العزم على أن يلعب البرنامج المقترح دوراً جوهرياً فى مجال تطوير التعليم.
وإضافة إلى ما سبق، يتسع المحور البحثى لتحليل العوامل المؤثرة فى الناتج التعليمى فى المجتمعات العربية، ولدراسة محاولات تطوير التعليم فى الوطن العربى والتجارب الناجحة فى هذا المضمار خارج البلدان العربية، لاستخلاص الدروس المستفادة منها. كذلك يدخل فى نطاق البحث طبيعة الناتج التعليمى فى البلدان المصنعة حالياً، وفى المستقبل. ومن الطبيعى أن ينجم عن العمل على البرنامج مسائل تكون بحاجة إلى بحث معمق ترفد المحور البحثى بمهام غير تلك المذكورة.
ويعمل المحور التخطيطى فى اتجاهين: الأول داخلى، يسعى لتعيين غايات البرنامج والوسائل الكفيلة بالوصول إليها فى الآفاق الزمنية المعتمدة، ومتابعة التقدم تجاهها، بما يعنيه ذلك من تصحيح المسار عند الحاجة. ويراعى هنا أن مبدأى "التمرحل" و "التدرج" يسمحان بأن تكون خطة البرنامج أوفى تفصيلاً فى مراحله الأولى على حين تبقى المراحل التالية فى حدود التصورات العامة الكفيلة بالتضافر لتحقيق الغاية من البرنامج. أما الاتجاه الثانى للمحور التخطيطى فخارجى، ويُعنى بالمساهمة فى التخطيط لقيام برامج ومشروعات تهم دولة عربية أو أكثر فى مجال تطوير التعليم.
ويتبع محور الترويج والتمويل ناتج المحور التخطيطى. ويسعى إلى حث الأقطار العربية، والمؤسسات والمنظمات التجمعية والقومية، على تبنى المخططات الناتجة عن البرنامج. ويتضمن الجانب الترويجى أيضاً نشر نتائج المحورين البحثى والتخطيطى بأشكال مختلفة مما يساعد على تكوين رأى عام مواتٍ لتبنى جوهر مخططات البرنامج.

وبديهى أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم مرشحة للقيام بدور قيادى فى البنية المؤسسية لبرنامج عربى لتطوير التعليم فى الوطن العربى عامة. غير أنه من الضرورى تعبئة طاقات مؤسسات عربية أخرى فى هذا المضمار، مثل الصندوق العربى للإنماء والصناديق العربية الأخرى، وإن كانت بحاجة لبناء إمكاناتها فى هذه الحقول فيما يتصل بموضوع التعليم. والأمل أن يكون للصناديق العربية دور مهم فى تمويل بعض المشروعات والبرامج التى تصمم لتحقيق الغاية من البرنامج، خاصة فى حالة البلدان العربية الأفقر. ويتوقع أن يكون لمساهمة هذه الصناديق فى تمويل المشروعات أثر إيجابى على تبنيها.
ومازال ميدان الدعم المؤسسى لتطوير التعليم فى البلدان العربية يتسع لصنوف متباينة من المنظمات، الحكومية والأهلية، خلاف تلك القائمة، شريطة ألا تنشأ كيانات عاجزة لا توفر أكثر من وظائف مغرية للمحظوظين- دون كفاية.
وفى النهاية، فإن هناك منظمات دولية عديدة تعمل فى مجال التعليم ويمكن أن تتوافر لديها أفكار ودروس وخبرات مهمة يستفاد منها، من منطلق نقدى، فى بلورة تصور متكامل عن إصلاح التعليم فى الوطن العربى، بالإضافة إلى إمكانات العون التمويلى. وهنا، على وجه الخصوص، مشروعاً كبيراً يتبناه المكتب العربى لبرنامج الأمم المتحدة للإنماء ويستهدف تهيئة القوى البشرية فى البلدان العربية لاقتصاد المعلوماتية.

ولعل التعليم العالى من أهم مجالات التعاون العربى فى ميدان التعليم، مما يوجب إيلاءه عناية خاصة. فالحاجة إلى تعاون عربى فعال فى التعليم العالى، والعائد المتوقع عليه، أعلى ما يكن. والمجالات المرشحة بجدارة كأولويات للتعاون العربى فى التعليم العالى هى: الدراسات العليا، والبحث، والنشر.
ويقتضى تفعيل التعاون العربى تغليب البعد القومى على الاتجاه التنافسى-القطرى فى التعليم العالى العربى. ومن المحبذ، نظراً لارتفاع تكلفة البنية الأساسية لمؤسسات التعليم العالى، تعظيم الاستفادة من البنى المؤسسية القائمة فى الأقطار العربية، وبعض منها غير مستغل بالدرجة الكافية، بعد دعمه وتطويره، فى العمل العربى المشترك فى ميدان التعليم العالى. ولاشك فى أن التطور الهائل فى تقانات الاتصال يمكن أن يساهم فى تمتين ذلك التعاون على غرار البرامج القائمة بين البلدان الأوربية مثلاً .
ومشروع "جامعة العرب للدراسات العليا"- الذى اقتُرح، أول مرة، منذ خمسة عشر عاماً- يجب أن يعتبر المحك الأول لقدرة العرب على التعاون فى ميدان التعليم العالى بما يحقق تحركاً جاداً فى هذا المضمار.
وربما يتناسب "معهد عربى للتقانة" يقوم على مستوى راق مع روح العصر، يركز على التقانات الأحدث، خاصة تلك المناسبة لإمكانات المنطقة واحتياجاتها، بما يعوض تخلف العرب فى هذا الميدان.
وقد تفتح "جامعة العرب المفتوحة"، إن قامت بكفاءة لا يشوبها حافز الربح، أفقاً رحباً فى مضمار توفير التعليم العالى لمن لم تواتهم فرصة الانتظام فى مؤسساته، وتيسير فرص التعليم المستمر مدى الحياة للجميع.

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1868 مشاهدة
نشرت فى 15 يناير 2012 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,877,598

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters