د. نادر فرجانى
مدير مركز "المشكاة" للبحث، مصر
يونيو 1998م
السياق العالمى والإقليمى للتربية
إن تيارات جارفة فى العالم تضع العرب أمام تغيرات بعيدة المدى، تعيد تشكيل الحياة الإنسانية بمختلف أبعادها. وتضم الجوانب الجوهرية فى البيئة العالمية. أولاً، الثورة التقانية والمعرفية، التى تغير جوهرياً من معالم البنيان الاقتصادى وفنونه الإنتاجية وبنية الإنتاج- حيث تخلى القطاعات التقليدية السبيل أمام المعلوماتية والاتصالات والخدمات، وثانياً، عولمة العملية الإنتاجية. وتنطوى هذه التغيرات على تبعات اجتماعية وثقافية- وربما سياسية- واسعة وعميقة، من ناحية. وهى تحمل بوجه عام مخاطر محتملة على الوطن العربى يتعين التحسب لها، من ناحية أخرى. غير أن الاهتمام ينصب هنا على الانعكاسات المتوقعة على التربية فى البلدان العربية.
الثورة التقانية والمعرفية
يتسارع فى الدول المتقدمة ظهور فنون إنتاجية كثيفة المعرفة. وتدفع الثورة التقانية، بأبعادها المادية والاجتماعية، الدول النامية إلى إحداث تغيرات جذرية ليس فقط فى هياكلها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، بل أيضاً فى هياكل علاقاتها الدولية، ابتداء من مواقع شديدة الضعف تجاه القوى الخارجية. خاصة وقد عمدت الدول المتقدمة، فى قيادتها للتطوير التقانى، إلى توجيهه بما يتفق بدرجة أكبر مع تركيبة الموارد لديها.
وبذلك يتأكد دور المعرفة كعنصر إنتاجى حاكم. إن حقبة صعود المعرفة تمكن من يعلم من أن يتجاهل- بل ويستبعد- من لا يعلم. وبالتالى تصبح المناطق التى تعيش عالة على ما يحدث من تقدم تكنولوجى فى باقى العالم، كما هو الحال فى المنطقة العربية، معرضة للتهميش المستمر الذى يفقدها أهميتها الاقتصادية. ولن يكون هناك عطاء فى مجال المعرفة إلا من خلال النهوض بالتعليم. ولا يقتصر عائد النهوض بالتعليم على الفرد، بل هو يساهم فى الواقع وبالدرجة الأولى فى رفع قدرات المجتمع على النمو، إذا أحسن توجيهه.
إن التقدم أصبح يقوم على، وفى الوقت نفسه يؤدى إلى، امتزاج للمعارف العلمية، وإسقاط الحدود التقليدية بين فروع المعرفة، وإنشاء فروع جديدة، وفتح آفاق رحبة أمام الكثير من العلوم الأساسية والتطبيقية. وتحقق الشبكة المكونة من منظومتى البحث والتعليم مزايا علمية متصاعدة، من خلال تزويد المجالات العلمية المتجددة بخلفية ترفع من كفاءة كل منها.
وتتأكد باستمرار ظاهرة المضاعف التقانى، بمعنى ما يستتبعه التقدم التكنولوجى من مزيد من التقدم. ويرتبط بها أن الدخول فى مجالات تقانية جديدة لا يمكن أن يتم من خلال آليات السوق التلقائية. فالولايات المتحدة مثلاً استغلت برامج التسليح وغزو الفضاء فى توليد طلب- لم يكن ليأتى من قوى السوق العادية- على أنشطة بحثية فى مجالات جديدة، فاتضحت، بالتبعية، ضرورة النهوض بمنظومتها التعليمية.
ومن جانب آخر، فإن الدول النامية (ومن بينها العربية) عندما تستورد سلعاً متطورة تكنولوجياً من دول متقدمة، فإن جانباً مما تدفعه ثمناً لها يذهب إلى تمويل العمليات البحثية فى هذه الأخيرة، محدثاً أثراً مضاعفاً.
وفى المنظور العربى، يعنى كل ذلك ضرورة استكمال الحلقة الداخلية التى تربط الطلب الاقتصادى بالبحث العلمى والتطوير وبالمنظومة التعليمية، بشكل يتعدى آليات السوق التلقائية، وهو ما يحتاج- فى الحقيقة- إلى تكامل عربى، إذ أن القدرات العلمية لكل دولة منفردة تظل محدودة، لاسيما فى مراحل النمو المبكرة.
ويؤدى التقدم العلمى والتقانى إلى تراجع المهارات التقليدية أمام المعرفة والقدرة التقنية، وهو ما يترتب عليه إحداث تحولات رئيسية فى هيكل العمالة. ويمكن القول إننا بصدد نوع جديد وراقٍ من الحرفية، تتوقف فيه وضعية العامل ليس فقط على تحصيله المعرفة التراكمية التى تمكنه من إجادة تطبيق أنماط متعارف عليها للعمل، بل على قدرته على الإبداع. إن هذه التطورات تضيف أبعاداً كثيرة إلى الإعداد التعليمى للفرد، تشمل بالإضافة إلى التكوين المهنى، القدرة على مواصلة التعلم، والإلمام بالجوانب القانونية والأوضاع الاجتماعية، بل وإدارة استخدام الوقت.
ويتسم التطور التقانى والمعرفى، بالإضافة لما سبق، بسمات جوهرية، لها تبعات مباشرة على التعليم، يمكن إيجازها فى النقاط الآتية:
سرعة الإيقاع وضخامة الإنجاز، حيث يقدر أن المعرفة العلمية باتت تتضاعف فى أقل من عقد من الزمان، بينما يتضاعف الإنتاج العلمى فى أقل من عامين.
يترتب على ذلك الإيقاع السريع حاجة الفرد إلى استيعاب كمّ كبير ومتجدد من المعرفة على مدى سنوات العمر، وهو ما يطيل فترة التعلم ويوزعها على مراحل متعاقبة. وبالتالى قصور أى محاولة لتزويد الفرد فى مستهل حياته بمخزون من المعرفة المتراكمة عن تمكينه من ملاحقة المعارف التى تستجد، ليس فقط فى الجوانب التطبيقية، بل وأيضاً فى العلوم الأساسية.
تؤدى سرعة التغير، وتفاوت قدرات الاستيعاب مع تقدم العمر، إلى تغير العلاقات الأسرية والعلاقات بين الأجيال المتتالية، بما فى ذلك أجيال المعلمين، وبينهم وبين الطلاب.
تزايد عدم التأكد تجاه المستقبل، وهو ما ينشئ حاجة إلى تعميق القدرات على التنبؤ وإعادة التنبؤ، وإلى مداومة اتخاذ قرارات ذات أهمية مصيرية إلى جانب القرارات الوظيفية المعتادة.
وعلى جانب آخر، يتيح التقدم التقانى إمكانيات ضخمة لتطوير أساليب التعليم، وإتاحة وسائل التعلم، والوصول بالتعليم إلى مختلف الأماكن أيا كان بعدها عن مراكز التجمع العمرانى، أو مدى انحصارها فى الإطار الأسرى- كما هو الحال بالنسبة للإناث فى بعض المجتمعات العربية، وإلى مختلف الأعمار.
عولمة العملية الإنتاجية
لقد مكنت العولمة، التى تعنى حدوث تغيرات موضوعية فى قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج نتيجة الثورة التقانية والمعرفية بأبعادها سالفة الذكر، من الحديث عن القرية العالمية، نتيجة كثافة تبادل المعلومات بين الأمم، بما فى ذلك القيم والمعتقدات. فقد جعلت الثورة التقانية والإنتاجية التقارب الجغرافى غير ذى شأن، لأن قطع المسافات لا يستغرق زمناً يذكر، سواء من أجل الانتقال الفعلى أو انتقال الأفكار التى تصل الإنسان بالآخرين.
وعلى الرغم من أننا مازلنا بصدد ظاهرة فى طور التشكيل، فقد بتنا إزاء نظام عالمى لا دولى، ترسم خطوطه قوى عدة، منها مجموعة الدول الكبرى (السبع) والشركات عابرة القوميات، وحركة رؤوس الأموال فى العالم، والمؤسسات العالمية التى توجه حركة العلاقات، وتغير طبيعة الأسواق إلى ما بات يعرف بالأسواق العالمية، باختصار هناك تحركات مجتمعية تعيد ترتيب أمور العالم مستندة إلى الإمكانيات التى أطلقتها الثورة التقانية.
ويطرد تزايد الترابط أو الاعتماد المتبادل بين الدول، وفى الوقت نفسه تغيرت أدوات هذا الترابط، إذ لم تعد مركزة على التبادل التجارى، بل بدأت عمليات انتقال المعلومات والخدمات تحتل موقعاً متقدماً. وإذا كان هذا الترابط يساعد على تقريب أدوات المعرفة من الراغبين فى التعلم، إلا أنه يترك الحركة خارجة عن السيطرة اللازمة للاطمئنان إلى سلامة المحتوى العلمى وتلاؤمه مع الأصول التربوية. بعبارة أخرى، يزيد هذا الاعتماد المتبادل من وقع ما يسمى "الغزو الثقافى".
وينطوى التغير فى الهياكل الاقتصادية على تقدم موقع الخدمات، ليس فقط على القطاعات الأخرى بل وأيضاً فى ضبط إيقاع النشاط الاقتصادى على الصعيدين القطرى والعالمى. لذلك تقدمت التجارة فى الخدمات، ومنها الخدمات التعليمية- خاصة فى المراحل الأعلى، لتشغل حيزاً هاماً من التبادل الدولى، مما جعل الدول المتقدمة تدفع المجتمع الدولى إلى تنظيم التعامل فيها على نحو يحافظ على قدراتها الاحتكارية بدعوى حماية "الملكية الذهنية"، التى باتت تحتل موقعاً متقدماً على ملكية الثروات الطبيعية والمادية التى تغلب على تركيبة الثروات العربية (إن وجدت).
وينشئ تبادل الخدمات صلة مباشرة بين منتج الخدمة ومستهلكها، لها عواقبها الثقافية والاجتماعية، ومن ثم السياسية. وساعدت ثورة الاتصالات على تغيير معالم الكثير من الخدمات، من أنشطة ذات طبيعة محلية غالبة، إلى أنشطة تتصف بالعالمية، وهو ما غير من مغزى الأسواق المحلية، كما فرض تقارباً فى فنون الإنتاج ونوعية المنتجات لمسايرة التطور الذى تقوده الدول المتقدمة.
كذلك أصبحت حرية انتقال رأس المال من الأمور التى تعيد تشكيل اقتصادات الدول المختلفة، فضلاً عن تنامى تيار فكرى بات يسيطر على الدول النامية بضرورة القيام بجذب الاستثمارات الأجنبية، ويدفع للاستجابة إلى مطالب أصحاب رأس المال باتخاذ كل ما يلزم لتيسير ما يسمى "النفاذ إلى الأسواق"، بمعنى تهيئة المناخ الاستثمارى الذى يوفر حرية دخول رأس المال وخروجه وفق ما تمليه عليه مصلحته.
ولكن حتى فى منظور جذب رأس المال، فإن القضية الأساسية هى العمل على خلق مزايا قوامها البشر. فرأس المال، وطنياً كان أم أجنبياً، يبحث فى عصر التقدم التقانى، عما يرفع إنتاجيته ويعينه على حسن تطبيق التقانة وعلى تطويرها. وقد أدركت الدول المسماة بالنمور فى جنوب شرق آسيا هذه الحقيقة، فعملت على النهوض بالعنصر البشرى لا ليكون عملاً رخيصاً (فقط) بل ليكون مرتفع الإنتاجية، وبالتالى قادراً على تعظيم ربحية رأس المال، وعلى اجتذابه.
وتعنى العولمة تحول شركات كبيرة إلى شركات دولية النشاط، ثم اتخاذها شكل عابرات للقوميات، تستفيد من ترابط الأسواق المالية العالمية، بل تعمل على السيطرة عليها. أى أن تطور هذه الشركات يرتبط بتوسع حركة رأس المال على النطاق العالمى، وهو ما يعطى قضية النفاذ إلى الأسواق دفعة قوية بمساندة هذه الشركات، وتأثيرها على مراكز اتخاذ القرارات فى الدول المتقدمة.
ويُحدث تغلغل عابرات القوميات نوعاً من "هجرة" الأفراد، حتى داخل مواطنهم، حيث يرتبط ولاؤهم بالمؤسسة الكبرى. وينتهى بعضهم، خاصة الكفاءات، منتمياً إلى "الشركة" أكثر، سواء بقى فى الموطن الأصلى أو تركه معها. الأمر الذى يعنى أن ظاهرة هجرة الكفاءات التى تعانى منها الدول العربية سوف تقوى، وبصيغ مختلفة.
ولهذه التغيرات انعكاسات على قواعد السلوك وأنماط التعليم فى الدول النامية، إذ تؤدى إلى تغيير مواصفات القوى العاملة فيها، وهو تغيير مستمر بسبب التطورات المتلاحقة فى أساليب الأداء، الأمر الذى يتطلب إعادة التدريب بالإضافة إلى التغيير المستمر فى مناهج وطرق التعليم التخصصى. ويمتد الأمر إلى أساليب السلوك اليومى. إذ لهذه التطورات متطلباتها غير المباشرة، منها الإلمام بلغات أجنبية وإنشاء شبكات اتصال أفراد ومؤسسات ينتمون إلى دول متقدمة.
كما أن دخول الدول النامية حلبة المنافسة فى التصنيع، انطلاقاً من قاعدة تقانية محدودة (إن وجدت أصلاً) يلزمها بالانصياع لمواصفات للمنتجات تحددها الدول الصناعية فى إطار الالتفاف الذى تقوم به على حرية التجارة التى تطالب بها. بل هى تفرض شروطاً للإنتاج تتيح لها التدخل فى العملية الإنتاجية بدعوى الاطمئنان إلى سلامتها. إن ما يدعى النفاذ إلى الأسواق، هو فى النهاية "نفاذ إلى المجتمعات" بأدوات جديدة.
وزيادة على ذلك أنشأ ارتفاع الدخل الريعى غير المواجه بإنتاج فعلى محلى فى البلدان العربية، نزعات مرتفعة للاستيراد، نشرت أنماط استهلاك بذخية أضرت بالقيم الذاتية. وعززت هذه الأنماط المشوهة قوة تأثير أدوات الاتصال.
وتنطوى "الهجرة العكسية" على تمكين أفراد اكتسبوا صفة رجال الأعمال فى الخارج من تشكيل الطليعة التى يدفع بها رأس المال العالمى، لتفتح أمامه أبواب الاقتصاد الوطنى، حاملين معهم الثقافة الأجنبية التى اكتسبوها- بما فيها اللغة- سواء فى جانب المعرفة المهنية أو القيم والعادات.
ونتيجة لكل ذلك، يتحدد جانب هام من سلوكيات الأفراد، المهنية والثقافية، فى سياق العولمة، خارج المنظومتين التعليمية والتربوية، مما يفرض عليهما واجباً إضافياً، لمواجهة ما يمكن تسميته ظاهرة المسخ الثقافى. حيث تقدم حزمة ذات أبعاد ثقافية ومعرفية ومادية على أنها حضارة متكاملة إما أن تؤخذ كلها فيكون التقدم، أو تترك كلها فيكون التخلف.
الواضح أن الأمر يتطلب توجيه التعليم العربى إلى حماية المنظومة الثقافية الذاتية وتوظيفها لخدمة التقدم العربى، إلى جانب عنايته بتطوير الجانب المهنى الذى يعالج مباشرة الجوانب المادية.
وتُدخل العولمة تغييرات جوهرية على النظم الاقتصادية لجميع الدول، بغض النظر عن اختياراتها الذاتية ومستويات نموها حتى تتوافر للمستثمرين ولمراكز اتخاذ القرار فى عابرات القوميات القدرة على إجراء مقارنات وفق أسس معيارية، وتنفيذ هذه القرارات بأقل قدر من القيود التى يترتب عليها تكلفة إضافية أو تعذر الحركة فى الوقت المناسب. وبينما تضع الدولة قيوداً على الحياة الاقتصادية ترى أنها ضرورية لتحقيق صالح المجتمع، فقد تعيّن أن يتراجع دورها هذا، وأن يسلم أمر التسيير إلى قوى السوق، بدعوى أنها تعمل بموضوعية وحيادية، تعكس تقابل مصالح جميع الأطراف.
فيجرى العمل على إزالة العوائق أمام العلاقات بين الاقتصادات بما يجعلها أقرب إلى العمل كما لو كانت اقتصاداً عالمياً واحداً، فى بعض الجوانب على الأقل (ليس من بينها حركة البشر بوجه خاص).
ويترتب على ذلك تقلص الإيرادات العامة نتيجة التخلى عن فوائض القطاع العام إلى الأفراد الذين يستولون على المنشآت العامة من خلال عمليات الخصخصة، والإعفاءات الضريبية التى يتمتع بها المستثمرون الذين يطالبون فى الوقت نفسه بتحسين البنية الأساسية بما يساعد على دفع النشاط الاقتصادى وربط الاقتصاد الوطنى بالعالم الخارجى، ويستتبع هذا تقليصاً أكبر فى الإنفاق العام.
وعلى عكس ما يقال من أن الدولة يجب أن تتخلى عن النشاطات الاقتصادية التى تنتج للسوق إلى القطاع الخاص، حتى يتسنى لها أن تركز على المنتجات ذات النفع العام، كالمرافق والخدمات الأساسية، فإننا نجدها تتخلى عن الاستثمار فى الثانية أسرع، الأمر الذى يقلل من الإنفاق على التعليم بما يفضى إلى تزايد حرمان الفئات الاجتماعية الضعيفة من فرص التعليم- حتى الأساسى. ويروج فى سياق هذا المنهج أن التعليم، فيما يتجاوز التعليم الأساسى، هو خدمة تفيد الفرد عليه أن يتحمل تكلفتها، مما يضع فرصة الالتحاق بالتعليم فى المراحل بعد الأساسية فى مواجهة خطر أكبر.
الأبعاد الإقليمية
يشهد العالم تغيراً فى ظاهرة الإقليمية عامة، وفى موقعها بين الوطنية والعالمية، وهو الموقع الذى أدى إلى الاهتمام بعمليات التكامل الإقليمى، واتخاذها كوسيلة لتأمين المجتمعات الوطنية من الضغوط العالمية. غير أن التحديات التى تواجه الوطن العربى فى الإقليم الذى يقع فيه، والذى تُدفع فيه عناصر غريبة عنه، لها خصوصية مهمة.
وهناك ثلاثة مشروعات تفت فى عضد المنظور القومى العربى، ليست بالضرورة متنافية- وإن تنافست أحياناً. الأول، هو سعى البلدان العربية منفردة إلى الاندماج فى العولمة، من موقع ضعيف، والذى تتبين بعض خصائصه، ومضاره، أعلاه. والثانى، هو إقامة بعض الدول العربية، منفردة أيضاً، علاقات "شراكة" مع الاتحاد الأوربى. والثالث، بالطبع، هو "الشرق أوسطية".
ومن حيث المبدأ، يتعين أن يقوم التعايش الصحى مع أية كيانات غير عربية، على التفهم الصحيح للأسس والغايات التى تحدد مناهجها ومواقفها إزاء الوطن العربى وأقطاره. وعلى التعليم العربى أن يؤدى هذه الوظيفة، بما فى ذلك تصوير القوى المهيمنة على العالم، وعلى المنطقة، على حقيقتها.
يقوم نهج "الشراكة" (المطروح بشكل قوى من الاتحاد الأوربى) مثلاً على أنه لا مانع من أن تتلقى الدول النامية عوناً، ليس فى شكل معونات بدون مقابل تعوض محدودية قدراتها الادخارية، بل استثمارات رأسمالية، يصحبها بطبيعة الحال فرض التقانات السائدة لدى الدول المانحة، على أن تستبقى الدول النامية عمالها، باستثناء الكفاءات العالية منهم، حتى تتوقف الهجرة التى باتت تقض مضاجع أهل الشمال.
ولما كانت الدول النامية غير متمرسة فى تلك التقانات، فإن الحلقة تستكمل بأن تهيئ لها الدول المانحة برامج تؤهل بها صناعاتها من ناحية، وتعيد تدريب الأفراد فيها على أساليب الإنتاج التى يراد تطبيقها، بغض النظر عن مدى صلاحية هذه الأساليب لظروف الدول النامية، وعما قد يعنيه ذلك من ابتعادها عن متطلبات التعاون والتكامل مع دول مماثلة لها فى مرحلة النمو. الأمر الذى يجعل العلاقات بين طرفى الشراكة، كما هو الحال فى انتقال الأموال، تمر عبر الطرف الأكثر تقدماً وتتضمن نوعاً من فرض الوصاية على الدول الأقل تقدماً.
كذا تتضمن الاتفاقيات المطروحة جوانب سياسية واجتماعية وثقافية على جانب كبير من الخطورة. فعلى عكس ما تهدف إليه الدول الساعية إلى الاتحاد وفق الإقليمية التقليدية، فإن هذه الإقليمية الجديدة، بانطلاقها من تفاوت القوى الاقتصادية، تعطى الشركاء الأغنى حقوقاً فى فرض رؤيتهم بشأن مدى الالتزام بحقوق الإنسان- فى المنظور الغربى، والالتزام بنظام السوق، وتوفير متطلبات استقرار رؤوس الأموال وأصحابها، دون أن يكون هناك ما يؤكد أن هذه الأثمان الباهظة سياسياً واجتماعياً وثقافياً سوف تقابلها منافع اقتصادية ذات شأن. هذه صورة خاصة، "أوربية" الطابع، من ظاهرة العولمة التى وصفنا أعلاه.
ويطرح فى سياق الإقليمية الجديدة مفهوم "الشرق الأوسط" الذى يحقق أخيراً حلم إسرائيل فى اختراق الأمة العربية، على خلفية من إهدار الحقوق العربية، والهيمنة الإسرائيلية فى المنطقة. إن مرور خمسون عاماً على النكبة، وحصيلة نصف قرن من انتهاك الحق العربى، وتزايد الصلف الإسرائيلى مؤخراً، يفرض أن تقوم التربية العربية بدور محورى فى تعبئة قوى الأمة العربية لمجابهة التحدى الصهيونى بفعالية.
إذ علاوة على إيضاح الأبعاد الحقيقية للصراع العربى الصهيونى، بأبعاده الإقليمية والدولية، فى سياق بناء الشخصية العربية المقتدرة التى وصفنا فى القسم السابق، تمثل مساهمة التربية فى بناء القدرات البشرية والتقانية العربية ركناً أساسياً فى المجابهة الفعالة للتحدى الصهيونى. فلا مراء فى أن تأخر للعرب فى مواجهة إسرائيل، فى مضمار القدرات البشرية والتقانية، وما يترتب عليهما من سمات مجتمعية، ومن إمكانات حسم مجريات الأحداث فى المنطقة، قد أمسى صارخاً، ويتسارع.
إن كثرة العرب، مقابل قلة عدد البشر فى إسرائيل، تنقلب قلة فى منظور النوعية. وتهبط كفة العرب أبعد بسبب البنية المؤسسية لتوظيف القدرات البشرية وتوليد التقانة. ولا عجب، والحال كذلك، أن يتمايز الإنجاز التقانى والإنتاجى لإسرائيل على العرب بشدة. ومن ثم يصبح التفوق العسكرى، والسياسى، النسبى لإسرائيل فى المنطقة مجرد تحصيل حاصل. هذه هى الحدود الخارجية لمعادلة القدرات البشرية والتقانية بين العرب وإسرائيل كما تبلورت فى القرن العشرين، وتتجسد الآن فى وهن مفرط للقضية العربية، بوجه عام، وفى مواجهة إسرائيل بوجه خاص.
فى منظور المواجهة الفعالة للمشروع الصهيونى، لم يعد هناك مناص من أن يتوفر العرب على تحد تاريخى لبناء رأس المال البشرى راقى النوعية وإقامة قدرة ذاتية فى التقانة- وهذان مجالان مؤهلان بامتياز لتعاون عربى فعال- تؤسسان لنهضة تنموية، تغير من ميزان القوى فى المنطقة. فالمؤكد أن البديل الموضوعى الوحيد، للدعم الخارجى لإسرائيل، المتاح للعرب هو ترقية التعاون العربى، وصولاً لأشكال أرقى من التوحد، تزيد من قوتهم فى المعترك الدولى عامة، وفى مواجهة إسرائيل خاصة. بقى أن يختار العرب هذا السبيل، وأن يترجم لفعل حاسم فى مضمار التربية.