إبراهيم غرايبة

ثمة وضوح في الأبعاد والتحولات الاقتصادية والسياسية (إلى حد ما)، والمتشكلة حول الموارد الجديدة أو اقتصاد المعرفة القائم على الحوسبة والاتصالات والشبكية والعولمة، ولكن النظام الاجتماعي والثقافي المفترض تشكله مازال يخضع للجدل والشك والفوضى، وإن كان ثمة سؤال: ما الحالة الاجتماعية المطلوبة والممكنة لاستيعاب هذه التحولات؟ وما أهمية هذا النظام الاجتماعي والثقافي؟ أهو حتمي أم يمكن تشكيله وفق المطلوب والمرغوب فيه؟ وما المختلف فيه عن المراحل السابقة؟

خريطة التقدم الاجتماعي والثقافي

تتشكل الأنظمة الاجتماعية والثقافية في متوالية معقدة من التفاعلات بين الناس والمكان يمكن اختزالها بالمسار التالي:
تقنية وموارد ـ نظام اقتصادي وسياسي ـ نظام اجتماعي وثقافي ـ تقنية
فالإنسان ينشئ ويبدع وفق حاجاته وتحديات البيئة المحيطة أدوات الإنتاج والحماية، وتتشكل حول هذه التقنيات والأدوات أنظمة اقتصادية وسياسية، فتنشأ المجتمعات والدول والعلاقات والطبقات والحروب والصراعات والتنافس والتعاون، وتتشكل حول هذه الأنظمة الاقتصادية والسياسية منظومات اجتماعية وثقافية تقوم على صيانة وتنظيم الإنجازات البشرية وتحقيق العدل والمصالح والقيم والأعراف والتقاليد والتشريعات المنظمة لحياة الناس وتطلعاتهم، وهذه المنظومة الاجتماعية والثقافية تعيد تطوير وإنتاج تقنيات وأدوات الإنتاج وفق الأفكار والقيم الجديدة، فيكون التقدم.
عندما بدأ الإنسان حياته معتمداً على الصيد وجمع الثمار تكونت مجتمعات وأنظمة الصيد، وهي غالبا مجتمعات عائلية صغيرة تتمركز حول حماية نفسها وتأمين البقاء والاحتياجات الأساسية، فكانت العلاقات الاجتماعية والثقافية قائمة على تطوير أدوات الصيد وتنظيم الإقامة وفق هذا المورد، فكان التقدم باتجاه تدجين الحيوانات وتربيتها.
ونشأت المجتمعات الرعوية، وتشكل حولها نظام اقتصادي قائم على الممتلكات، وتحولت اتجاهات العلاقات والإقامة والتحرك بما يلائم تنظيم وتنمية هذه الممتلكات والموارد وحمايتها، فتشكلت المجتمعات الرعوية التي يقودها الأكثر قوة وشجاعة وامتلاكاً للإبل والبقر والغنم، ولأجل ذلك تجمع الناس في قبائل لحماية وتنظيم أنفسهم وزيادة مواردهم، وتشكل نظام سياسي يقوده الفرسان والملاكون، ويستتبع آخرين من الرعاة والحرفيين والخدم والمهزومين، وكانت الشجاعة والكرم هي رمز الأرستقراطية في هذه المجتمعات؛ فهي الثقافة الأكثر ملاءمة لقيادة القبائل وتفوقها وترسيخ تقاليد وأعراف تحمي هذه المجتمعات في حراكها الدائم في البوادي والمراعي؛ لأنه بدون قيم الشجاعة والكرم لا مجال للتنافس الاجتماعي والتقدم وتبادل المنافع والخدمات لهذه الجماعات المتنقلة في بيئة قاسية متقلبة.
وكانت التجارة والقوافل التجارية نظاماً تقنياً واقتصادياً يطور التبادل وتنظيم الفوائض والموارد، فنشأت المدن والمراكز الحضرية واللوجستية، والفعل الحضاري القائم على تنظيم هذه الموارد، المدن والإيلاف، والحماية والطرق والممرات والنجوم والأفلاك والرحيل والتبادل الثقافي والتجاري والاكتشاف.
ربما تكون الزراعة هي أهم محصلة لتفاعل الإنسان وإبداعه الحضاري، فهي تلخص استيعاب مسار الجوع والخوف أو الإنتاج والحماية في تقنية أكثر ثباتاً ورسوخاً ومواجهة للمجاعة والسلب والفوضى، فبدأت بها المدن والمراكز الحضرية، والمجتمعات وضرورات الكتابة والتعليم، وتشكل الأنظمة السياسية والتشريعية والثقافية، والتجارة والتقنيات، وبدأت بها المسيرة التي نعرفها اليوم أو نحيط بها للبشرية والتي تعود تقريباً إلى حوالي (10 – 12) ألف عام، وظلت الزراعة هي المورد الأساسي للبشرية، والذي تشكلت حوله الدول والحضارات حتى القرن السابع عشر الميلادي عندما أنشأت الآلة البخارية نظاماً اقتصادياً جديداً حول مسار البشرية ومواردها، وحول الثورة الصناعية قامت الثورات السياسية والأنظمة الجمهورية، مثل الثورة الفرنسية (1789) والثورة الأمريكية (1776) والديموقراطيات والدول والمؤسسات الحديثة والمدن العملاقة.
وهكذا فإن التقدم يمثل مساراً دائرياً جدلياً ومتواصلاً من استيعاب المنجزات المتراكمة وإبداع موارد وتقنيات ومنجزات جديدة تتحول مرة أخرى إلى تراكم يُعاد استيعابه:
تراكم ــ استيعاب ــ إبداع ــ تراكم.
ويكون التقدم الاجتماعي والثقافي الممكن تعريفه ببساطة الاستجابة الملائمة والصحيحة مع التقنية والموارد هو الوعاء الحقيقي للتقدم وتنظيمه وتوجيهه وحمايته؛ فهو الذي ينظم مواصلة التقدم، وهو الذي يضمن توجيهه نحو الخير والفضيلة والسلام؛ لأن التقنية والموارد بذاتها منفصلة عن استخدامها، فالطاقة النووية مثلا يمكن أن تدمر البشرية والبيئة، أو تكون أداة للاحتلال والتهديد والردع والهيمنة، ويمكن أن تكون -وهذا ما لم يحصل بسبب غياب التقدم الاجتماعي والثقافي- قاعدة لتحلية مياه البحار وزراعة الصحارى والسهول والجبال وتوفير مصادر هائلة للطاقة تكفي لكل متطلبات الرفاه والتقدم.

مجتمعات وثقافة المعرفة

تعود الأدوات والنظريات والمؤسسات التي تنظم الحياة المعاصرة إلى الثورة الصناعية؛ الدول الحديثة والدساتير والتشريعات، والمدارس والجامعات، والنظريات الاجتماعية، فعلم الاجتماع القائم يعود إلى المفكرين (اوغست كونت، إميل دوركهايم، كارل ماركس، ماكس فيبر، .. ) الذين شغلوا بالتحولات الكبرى التي صاحبت الثورة الصناعية والثورات السياسية، ولكنها نظريات ومعارف لم تعد كافية وربما غير ملائمة لفهم وتنظيم الثقافة، والمجتمعات الجديدة التي تتشكل حول اقتصاد المعرفة، وبدأت بالفعل تظهر تحديات ومآزق كبرى تجعل هذه المعرفة الهائلة والمتراكمة على مدى قرنين من الزمان شيئاً تاريخياً ربما يمضى إلى المتاحف مع الاحترام والتقدير، مثلها مثل السيوف والرماح، أو كتاب القانون في الطب لابن سيناء، أو نظريات وقوانين إسحق نيوتن في الفيزياء، ولذلك فإنه يتشكل اليوم نظريات "ما بعد الحداثة" في إعادة استيعاب لنظريات ومعارف "الحداثة" التي تشكلت في القرون الأخيرة حول الثورة الصناعية ومتواليتها السياسية والاجتماعية.
ونلاحظ اليوم سيادة وانتشار مفاهيم تعبر عن هذه التحولات وضرورات استيعابها من قبيل "ما بعد" و"نهاية" نهاية المكان، نهاية الجغرافيا، نهاية التاريخ، نهاية الدولة، نهاية الايدولوجيا، نهاية الكتاب، نهاية المؤلف، نهاية المدرسة، نهاية القومية، نهاية المدينة، نهاية العمل والوظيفة، نهاية الطبقة الوسطى، نهاية الوسطاء، نهاية الذاكرة. أو ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة، ما بعد السياسة، ما بعد النفط، ما بعد المعلوماتية، ما بعد الإنترنت. ومنها مصطلحات النفي، مثل: مصانع بلا عمال، ومدارس بلا مدرسين، مكتبات بلا كتب، وموظفون بلا مكاتب، أفلام بلا ممثلين، تعليم بلا معلمين، وهي مصطلحات يصفها الدكتور نبيل علي (كتاب الثقافة العربية وعصر المعلومات) بأنها ليست عشوائية ولكنها ذات دلالة وتداعيات كثيرة وعميقة.
ويعتبر عالم الاجتماع الفرنسي (جون بودريار) -والذي يعتبر من أهم المنظرين في مدرسة ما بعد الحداثة- أن وسائل الاتصال الإلكترونية قد دمرت العلاقة التي تربطنا بماضينا، وأنشأت حولنا عالما من الخواء والفوضى، ويرى (بودريار) أن القوى الاقتصادية التي شغل بها كارل ماركس لم تعد مؤثرة في تشكيل المجتمع، ولكن ما يؤثر في المجتمعات اليوم هو الإشارات والصور، والمعاني والدلالات تُستمد من تدفق الصور على نحو ما نشاهده في برامج التلفاز، حتى إن الجانب الأكبر من عالمنا قد غدا يمثل كوناً موهوماً ومصطنعاً نستجيب فيه، ونتفاعل مع صور إعلامية لا مع أشخاص وأحداث وأمكنة واقعية حقيقية، وقد غدونا نتأثر بـ"المشاهد" التي "تُعرض" علينا عن الأحداث والكوارث والمشكلات أكثير بكثير من تأثرنا بالمضمون الحقيقي لهذه الوقائع، وهكذا فإن الحياة بمنظور (بودريار) تحل وتذوب في إطار شاشات التلفاز.
ويقول (أولريخ) صاحب نظرية "مجتمع المخاطرة" إن المجتمع الصناعي بدأ بالاندثار مفسحاً المجال لمجتمع جديد تسوده الفوضى، وتغيب فيه أنماط الحياة المستقرة ومعايير السلوك الإرشادية، ويرى عالم الاجتماع الإسباني (مانويل كاستلز) أن مجتمع المعلومات المعاصر يتميز بظهور "الشبكات" و"اقتصاد الشبكات" والنظام الاقتصادي الرأسمالي السائد اليوم إنما يقوم على ثورة الاتصالات العالمية، ولم يعد قائماً كما كان يفكر كارل ماركس على الطبقة العاملة أو على إنتاج السلع المادية، بل إنه يقوم على التقدم في شبكات الاتصال والحوسبة التي أصبحت هي الأساس لتنظيم عملية الإنتاج.

إعادة فهم التقدم

لنعد النظر مرة أخرى في مسار التقدم ونشوئه لنفكر بطريقة صحيحة في استنتاج الاستجابة الثقافية والاجتماعية الملائمة للتحولات أو للتقدم التقني والاقتصادي، وهو بالطبع ما لن تكفي المساحة المتبقية للتعبير لتغطيته واستيعابه، ولكنا قد نجد مفاتيح للفهم وأسئلة قد نواصل بها البحث عن الإجابة.
كان المجتمع الزراعي قائماً على القوة الجسدية والإبداع الفكري والعقلي حول قوة العمل الجسدية، فتشكلت تقنيات الزراعة والإنتاج حول المجهود البشري أو بالاستعانة بالحيوانات، وهكذا فإن المدن والقرى والطرق والصراعات والتشريعات والعلاقات تشكلت حول المكان والموارد المتاحة، فكانت المدن والمراكز الحضرية تنشأ حول الماء بصفته مصدراً للإنتاج والزراعة، وكانت الأهمية الثانية للمكان بحسب قدرتها على الدفاع والسيطرة، فكانت المدن والممرات والطرق والمواقع الإستراتيجية وكان ذلك سبب الصراع حولها.
كان البحث العقلي المتواصل عن تطوير الإنتاج والحماية في الدائرة المشار إليها من قبل يكشف عن موارد جديدة غير الطبيعة وما توفره للإنسان (الإبداع السلبي)، فوجد الإنسان موارد أخرى في التجارة وتبادل السلع والخدمات، والكتابة لتنظيم الموارد والإنتاج والعلاقات والمنجزات الاقتصادية والحضارية.
وكان التحول من الأرض إلى الإنسان ومن الموارد الطبيعية إلى العقل والموارد الإنسانية بداية لتقدم جديد (المهارات والمهن وأدوات النقل كالسفن، والتجارة، وتوظيف الطاقة المتاحة في الطبيعة والكون، كالرياح والماء والنار،...) مساراً جديداً من الموارد والمجتمعات، وهكذا نشأت المدن والموانئ والشعر والفلسفة والموسيقى والفنون والمنجزات الحضارية العقلية والروحية.
كان التقدم قائماً على التمدن والزمن، فالمجتمعات والناس كانت في أشواقها الروحية والدينية تستخدم الموارد لتحصل على الوقت اللازم للتفكير والفلسفة والشعر والتعليم؛ لأنها دول وحضارات قامت أساساً على "الكلمة" فوجدت في اللغة مواردها وقوتها، وهذه الحكم والمعاني التي تحل في اللغة أنشأت هذه الحضارات والمنجزات.
المعاني والحكم تحل في اللغة، فيعود الإنسان إلى عقله بحثاً عن التقدم والموارد، فكان البحر بدلاً من اليابسة مصدراً للقوة والرفاه، والسفن وسيلة للنقل بدلاً من الإنسان والمواشي، وهذه الطاقة في الكون من الرياح والماء والنار تشكل موارد إيجابية جديدة تحتاج إلى العقل، وهكذا فإنها حضارات قامت على العقل واللغة.
وفي جانب آخر من المتوسط كانت الصورة وليست الكلمة هي وعاء الحكمة والمعاني، فكان الإنسان وفقاً للصورة يريد أن يكون إلهاً أو يؤنسن الإله ليشاركه الحكمة والقوة؛ لأن الصورة تجسد المعنى والفكرة، والكلمة تجعله رمزاً مجرداً، فكانت الفنون والحكم في الحضارة اليونانية والقوة والموارد قائمة على استحضار الإله وقهر الطبيعة مثل الإله، وعندما حلّت هذه الحضارة في المسيحية في القرن الرابع الميلادي أنشأت صيغة جديدة من القوة والمشاركة مع الإله والسماء والمسوّغة أخلاقياً بالدين، صحيح أن الصورة أنشأت الديموقراطية، فتجسيد الإله ومشاركته وتعددية الآلهة تؤدي بالضرورة إلى التعددية السياسية والثقافية والعقد الاجتماعي القائم على الجمهور والأغلبية، والتعددية في فهم الصورة جعلت من الشك والفوضى مصدراً للتقدم والبحث العلمي؛ لأن العلم يبدأ بالشك، ولأنه يبحث عن اليقين فبُنيت علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات على أساس من الحقائق المكتشفة والتي كانت لدى أصحابها تحدياً للآلهة وانتصاراً عليها.
هذه القوة المتأتية من الصورة والمؤدية إلى مشاركة الإله بأنسنته وتأليه الإنسان أنشأت ثقافة الاحتلال والتحدي والهيمنة والقتل بالجملة والاغتصاب والاستعباد، وفي لحظة من الاكتشاف وُظّف التقدم لأجل هذه الغايات.
كانت الآلة البخارية لحظة تشبه لحظة السامري عندما حصل معه كما يصف القرآن الكريم (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) كأن هذه الآلة هي أثر الرسول الذي جعل من البارود والطاقة المسيطر عليها مصدراً للقوة والموارد، فكان احتلال العالم بأسره، واستعباد مائة مليون إفريقي، واحتلال قارات جديدة لم تكن معروفة " للسامري الجديد"، ولكن الفينيقيين ثم العرب كانوا يعرفونها من قبل الميلاد بخمسمائة عام، ولم يتوقف تواصلهم معها، وأُبيد سكانها تقريباً، وكانوا لا يقلون عدداً عن سكان أوروبا في ذلك الوقت في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، واليوم فإن الملايين الخمسين من سكان تلك القارة وبعد خمسمائة عام يقلون عن الخمسين مليوناً، وصار الخمسون مليون أوروبي ألف مليون!
هذه المحاكاة الآلية للجسد والكائن الحي في العمل والجهد، والتي أنشأت الشاحنات والقطارات والجرارات والرافعات والحفّارات العملاقة أنشأت تقدماً اقتصادياً وتقنياً هائلاً، ولكن الثقافة المنظمة لهذا التقدم حوّلته إلى مصدر هائل وغالب للهيمنة والاحتكار والقتل والإبادة والإفقار، فالمدن التي أُبيدت بالقنابل النووية لم تكن خطراً عسكرياً أملت ضرورات الحرب إبادتها، ولكنها ثقافة ما تنظم هذه التقنية، وتدير هذا التقدم العلمي والاقتصادي، وهذا الاحتلال لدول وشعوب ليس مواجهة لخطر أو تهديد قائم أو محتمل.
وهكذا فإننا والبشرية جميعاً بحاجة إلى تقدم ثقافي واجتماعي ربما تعبر عنه كلمة واحدة، هي الجمال.

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,885,160

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters