جبريل محمد
مما لا شك فيه أن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي يشهدها العالم فيما أُطلق عليه اختصاراً "العولمة" لم تنجح في الحد من التفاوت بين البلدان الغنية والفقيرة، فالفجوة بين دخل البلدان الغنية ودخل البلدان الفقيرة ليست كبيرة فحسب، بل آخذة في الاتساع ويخالف هذا التفاوت الأفكار المسبقة أو المزعومة لمروجي العولمة الذين كانوا يتحدثون عن إمكانية تحسن دخل الدول النامية في إطار الاقتصاد المفتوح؛ إذ يذكر تقرير حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العالم عام 2006 أن التفاوت بين الدول ازداد بشكل كبير منذ عام 1980 ، ففي خلال هذه الفترة حققت البلدان ذات أغنى نسبة 20 % من سكان العالم نمواً فاق في سرعته نمو البلدان ذات أدنى نسبة 20 % بمقدار (7 و 2) مرة .
ويدعو التقرير الدول النامية إلى اعتماد سياسات تتلاءم مع وضعها وعدم قبول الوصفات الجاهزة على مستوى السياسات حتى تتجنب تكرار عملية الانهيار الذي شهدته عدة بلدان نامية ما بين عامي 1996/1998 وعامي 2000/2002.
وقد حققت كل من دول شرق وجنوب شرق آسيا والصين تقدماً سريعاً في معدل النمو، ولكن التقدم كان أقل من ذلك في أماكن أخرى. ففي الفترة ما بين عامي 1980 و 1989 كان متوسط معدل النمو في أمريكا اللاتينية. ومنطقة البحر الكاريبي "ناقص" 4 و0 % في السنة. وكان متوسط معدل النمو السنوي في إفريقية "ناقص" 7و 1 % خلال الفترة نفسها، مما جعلها تزداد تخلفاً.
وكان الوضع سيئاً أيضاً فيما يتعلق بأقل البلدان نمواً. وهذه البلدان هي أشد بلدان العالم فقراً، وتضم 8 % من سكان العالم النامي. وقد انكمش نصيبها من الناتج القومي الإجمالي العالمي في الفترة ما بين عامي 1960 و 1989 من نسبة صغيرة لا تجاوز 1 % إلى نسبة أكثر بؤسا قدرها 5 و0 %.
وكثيرا ما وُصفت الثمانينيات بأنها "العقد المفقود" فيما يتعلق بالتنمية. وقد يبدو ذلك غريباً نظراً لأن متوسط النمو العالمي كان أعلى بالفعل خلال الفترة 1980 ـ 1989 مما كان خلال الفترة 1965 ـ 1980 (2 و 3 % مقارنة بـ 4و 2 %) .
ولكن المشكلة الحقيقية في الثمانينيات هي أن النمو العالمي كان موزعا توزيعاً سيئاً.
ففي الفترة 1965 ـ 1980 ربما كان النمو الإجمالي أدنىن ولكن مزيداً من الناس رأوا وضعهم يتحسن . فباعتبار نمو فردي سنوي يتراوح بين 1 % و 5 % "معقولاً"، كانت نسبة سكان العالم التي تعيش في بلدان يقل فيها النمو عن ذلك تبلغ 13 % في الفترة 1965 ـ 1980 ولكن تلك النسبة زادت إلى 30 % في الفترة 1980 ـ 1989. بيد أن الثمانينيات شهدت أيضاً استقطاباً أكبر بين الأغنياء والفقراء. فمقارنة بالفترة 1965 ـ 1980، أصبح في الثمانينيات عدد الناس الذين كانوا يعيشون في بلدان ذات نمو فردي مرتفع (أكثر من 5 % ) ثلاثة أمثال ما كان عليه. وهذا الاستقطاب يبدو أوضح إذا أخذ في الحسبان أيضاً التدهور في توزيع الدخل القومي ـ فقد اتسعت كثيراً الفجوات بين الأغنياء والفقراء في بعض الاقتصاديات السريعة النمو.
التفاوت في فرص السوق
وكما يوجد فجوات في فرص الدخل والعمالة بين الدول الغنية والدول الفقيرة توجد أيضا تفاوتات على الصعيد العالمي في الوصول إلى الأسواق ـ أسواق السلع والخدمات وأسواق رأس المال .
*التجارة .. حيث رأت مناطق نامية كثيرة نصيبها من التجارة العالمية ينخفض من عام 1970 . وتضم هذه المناطق إفريقية جنوب الصحراء (من 8و 3 إلى 1 %) وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (من 6و 5 % إلى 3و 3%) وأقل البلدان نمواً (من 8 و0 % إلى 4و 0%). وبالنسبة لأدنى نسبة 20 % من سكان العالم فإن نصيبها الآن لا يتجاوز 1 % . ولكن هناك مناطق أخرى كان أداؤها أفضل كثيراً خلال تلك الفترة: فشرق وجنوب شرق آسيا (بما فيها الصين) زاد نصيبها بأكثر من الضعف، من 9و 4 إلى 10 %.
*الإقراض المصرفي التجاري ـ تحصل أدنى نسبة 20 % من سكان العالم على 2و 0 % فقط من الإقراض المصرفي التجاري العالمي . فالدول، ليست، ببساطة، جديرة بالحصول على ائتمانات في المجتمع الدولي.
*الاستثمار المباشر الأجنبي ـ على الرغم مما يفترض من وجود وفرة في اليد العاملة وفي فرص الاستثمار، لا يوجه أكثر من 2 و0 % من الاستثمار عبر الوطن إلى أدنى نسبة 20 % من سكان العالم .
والتفاوتات واسعة بالنسبة للناس في معظم العالم النامي، ولكن بعض المناطق وبعض البلدان أكثر تخلفاً من الأغلبية.
فإفريقية جنوب الصحراء وجنوب آسيا زاد نصيبها من سكان العالم خلال الفترة ما بين عامي 1960 و 1989 من 27 % إلى 32 %. ولكن نصيبهما من الناتج القومي الإجمالي العالمي انخفض بنسبة 20 % ، وانخفض نصيبهما من التجارة العالمية بأكثر من النصف ـ مما يبرز حدوث عملية تهميش سريعة لـ (7و 1) بليون نسمة.
وأقل البلدان نمواً، كمجموعة، ازدادت تخلفاً عن ذي قبل. فقد كان نصيبها من الناتج القومي الإجمالي العالمي هزيلاً (1 % في عام 1960) ونصيبها من التجارة العالمية هزيلاً ( 8و0 % في عام 1970 )ونصيبها من الإقراض المصرفي التجاري العالمي هزيلا (2و 0 % في عام 1970 ) ـ وكانت أنصبتها هذه أقل كثيراً من نصيبها من سكان العالم؛ إذ كان 8 % . ولكن هذه المستويات انخفضت حتى إلى النصف خلال العقدين الأخيرين إلى الثلاثة عقود الأخيرة.
وأياً كان المؤشر، تشير القرائن إلى وجود تفاوتات كبيرة وآخذة في الاتساع، والسؤال الأساسي المطروح الآن على كل من الصعيدين القومي والدولي، هو: كيف يمكن أن نعكس مسار هذا الاتجاه؟!
التفاوتات في رأس المال البشري
يزيد الناتج الاقتصادي عادة بزيادة استثمارات رأس المال وبانضمام المزيد من العمال إلى القوى العاملة. ولكن زيادة الإنتاجية تؤدي أيضا دوراً هاماً. ففي البلدان الصناعية يعتقد أن الإنتاجية هي السبب في حوالي 50 % من نمو الناتج الاقتصادي. بيد أن الوضع مختلف تماماً في العالم النامي حيث كانت الزيادات في الإنتاجية أقل كثير ـ بحيث لم تكن مسؤولة عن أكثر من 9 % من الناتج .
وقد عزيت الزيادات في الإنتاجية إلى عدة عوامل: الابتكار التقني، مثلاً، أو وجود قوى عاملة أكثر صحة ومهارة وتعليماً، أو وجود درجة أقوى من روح تنظيم المشاريع. وكل هذه العوامل تكون عادة المكافأة على الاستثمار في التعليم وفي الصحة، أي في بناء "رأس المال البشري" للبلد.
ولقد أحرزت البلدان النامية شيئاً من التقدم في تحسين رصيدها من رأس المال البشري؛ فلديها الآن أفراد أكثر صحة وتعليماً بكثير:
ـ زادت إمدادات الفرد اليومية من السعرات الحرارية ما بين الفترة 1964 ـ 1966 والفترة 1984 ـ 1986 من 72 % إلى 80 % من المستوى الموجود في الشمال.
ـ انخفضت معدلات وفيات الرضع والأطفال إلى أكثر من النصف في الفترة ما بين عامي 1960 و 1990 (وهو إنجاز استغرق تحقيقه أكثر من قرن في البلدان الصناعية).
ـ زاد معدل معرفة القراءة والكتابة بين الكبار من 46 % إلى 64 % في الفترة ما بين عامي 1960 و 1990، مما ضيق الفجوة في معرفة القراءة والكتابة بين الشمال والجنوب من 52 % إلى 34 % .
ـ زاد معدل القيد في المدارس الابتدائية والثانوية من 55 % إلى 72%.
وكما أورد تقرير التنمية البشرية لعام 1990 ، حيث ضاقت كثيراً الفجوات بين الشمال والجنوب من حيث القدرة الأساسية على البقاء على قيد الحياة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فالناس في الجنوب أصبحوا يعيشون مدة أطول، واكتسب أكثر من نصف السكان تعليماً أولياً على الأقل. ولكن التحدي الحقيقي ما زال في المستقبل. فآلة التقدم الاقتصادي هي الابتكار التكنولوجي والزيادات في الإنتاجية البشرية ـ وهذا هو المجال الذي تتخلف فيه البلدان النامية عن الخطا السريعة التي يحققها العالم الصناعي. وبعض الفجوات الراهنة بين الشمال والجنوب من حيث التعليم التقني والمعلوماتية والبحوث التكنولوجية تدعو إلى الانزعاج بوجه خاص:
ـ لا تبلغ نسبة القيد في التعليم ما بعد الثانوي في الجنوب سوى 8 % مقابل نسبة قدرها 37 % في الشمال. ولا تتجاوز النسبة في أقل البلدان نمواً 2 % .
ـ لا يتجاوز عدد العلميين والفنيين في الجنوب (9 لكل 1000) شخص مقابل (81 لكل 1000) شخص في الشمال .
ـأما بالنسبة للاتصالات فيبدو أن ثورة الاتصالات تجاوزت معظم البلدان النامية. إذ لا يوجد لدى تلك البلدان، على أساس نصيب الفرد، سوى (18/ 1) مما يوجد لدى البلدان الصناعية من وصلات هاتفية، و (8/1) مما يوجد لدى البلدان الصناعية من صحف ، و (6/ 1) مما يوجد لديها من أجهزة راديو.
ـكما لا يوجد في الجنوب سوى (20 /1) مما يوجد في العالم من حاسبات إلكترونية.
ـ وبالنسبة للبحث والتطوير لا تنفق البلدان النامية سوى 4 % من إجمالي الإنفاق العالمي على البحث والتطوير، مع أن لديها 80 % من سكان العالم .
وقد اتسعت الفجوات التكنولوجية بين الشمال والجنوب في العقود الثلاثة الماضية. وهذا يعطيها ميزة من حيث الإنتاجية وبالتالي عائداً أعلى كثيراً لرأس مالها وللقوى العاملة فيها. ومعدلات الربح الأعلى في البلدان الصناعية تمكنها من اجتذاب مزيد من رأس المال (حتى البلدان النامية)، وهذا ييسر القيام بمزيد من الاستثمارات في التكنولوجيا.
وهذه الفجوات تتسع مع احتكار المعلومات العلمية والتكنولوجية الأساسية بدرجة متزايدة. فنوع المعلومات الذي كان يرى عادة في المجال العام يرجح الآن أنه أصبح يخضع لبراءات الاختراع ولحفظ حقوق الملكية ولم يعد متاحاً إلا لأولئك الذين يستطيعون دفع الثمن . وحتى مواصلة الاطلاع على المعلومات المتاحة في حرية يتطلب الآن مستويات أعلى من التكنولوجيا للاستفادة من شبكات الحسابات الإلكترونية، ودائرة التركيز هذه تنعكس في التجارة العالمية؛ فبلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي تجد أنها تستطيع الآن أن تلبي حصة متزايدة من طلب المستهلكين من خلال إنتاج كثيف المهارة داخلها هي، وأن ما تحتاج إلى استيراده من البلدان النامية أقل مما كانت تستورده من قبل .
ومن ثم فإن التحدي الذي يواجه البلدان النامية في العقد القادم هو تحدٍ مزدوج . فالتقدم يجب تعجيله حيثما لم تتم بعد تلبية الحاجات البشرية الأساسية ـ أي الحاجة إلى التعليم الأساسي أو الحاجة إلى الرعاية الصحية الأولية أو الحاجة إلى الغذاء. ولكن الطريق إلى تحقيق مستويات أعلى من التنمية البشرية ليس معناه تجاهل الأساسيات. فهرم التنمية البشرية المطلوب لا يمثل أساساً لتقدم قابل للاستمرار.
ويتعين على بلدان أخرى أن تعمل على استمرار تقدمها، ولكن يتوجب عليها أيضاً أن تستثمر في مستويات أعلى من التنمية البشرية. فالتحدي الذي تواجهه هو تحقق التوازن السليم والأكفأ والأفعل بين العمل على تضييق التفاوتات الداخلية وملاحقة التقدم والتنمية العالمية.