إبراهيم غرايبة
يُقدّر عدد الذين يعملون من منازلهم في الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي ثلاثين مليون شخص، من بينهم (24) مليوناً يعملون لأنفسهم، والباقون يعملون لدى مؤسسات أخرى، وتتزايد الظاهرة لتشمل في السنوات القليلة القادمة أغلبية العمل والعاملين، وأما عدد الذين يقومون بأعمال إضافية أو جزئية من منازلهم فهو كبير جداً يصعب تقديره، ولكنه يشكل نسبة قد تمثل أغلبية القوى العاملة في العالم، وقد بدأ العمل من المنزل تتسع آفاقه وفرصه، ليشمل أعمالاً ومِهَناً كان يصعب أداؤها من المنزل، فقد أنشأت الإنترنت وشبكة الاتصالات عالماً من الأعمال والمهن وفرص العمل من المنزل جعلت هذه الظاهرة واحدة من أهم التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والمهنية، والتي تغيّر في طبيعة الأعمال والموارد وإدارتها، بل وفي شبكة العلاقات الاجتماعية وأنماط الحياة والثقافة.
وبالطبع فإن العمل من المنزل كان هو القاعدة الأصلية في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي البشري، فقد كان معظم الناس يعملون من وفي منازلهم أو قريباً منها، مثل أعمال النجارة والحدادة والصيانة والحرف المختلفة من النسيج والخياطة والصناعات الخفيفة، وقد بدأت صناعة الساعات السويسرية الشهيرة في المنازل، وكانت المصانع والمؤسسات اليابانية والصينية ومازالت تعدّ ترتيبات وعقوداً لإعداد وتصنيع كثير من اللوازم والمنتجات مع النساء والأسر والقرى في الريف والضواحي المحيطة بالمصانع والمدن.
ولكن المعلوماتية قدّمت عالماً جديداً من العمل من المنزل لأهداف تجاوز الجغرافيا والمسافات البعيدة، فيمكن إنجاز مجموعة كبيرة ومعقدة من الأعمال، مثل: التصميم والترجمة، والتحرير، والاستشارات، والبرمجة، والمحاسبة، والصيانة، والتسويق، والوساطات التجارية، والتعليم عن بُعد، والاستعانة بالخبرات النادرة أو العادية في جميع أنحاء العالم، ويمكن أيضاً بذلك تقليل تكاليف المكاتب وتشغيلها، ولم يعد ثمة حاجة لإنشاء مكاتب كبيرة في المدن، فيمكن أن تكون في الضواحي والأرياف، ولا يعود ثمة حاجة للسفر أو الإقامة في المدن أو قريباً من العمل، ولنتخيل تداعيات ذلك على اتجاهات العمل والحياة.
فعندما يمكن العمل من أي مكان يمكن أيضاً الإقامة في أي مكان، وسيجعل ذلك من الريف والمناطق البعيدة أماكن تصلح للإقامة والحياة لكثير من أصحاب الأعمال والمهن، ويمكنهم بذلك القيام بأعمال أخرى مثل الزراعة وممارسة وتسويق الهوايات، ويمكنهم أيضاً البقاء لفترة أطول مع عائلاتهم وأقاربهم، وفي بلدانهم الأصلية لتنشأ بذلك شبكات جديدة من العلاقات الاجتماعية والحياة الأسرية، وربما يُنشئ ذلك اتجاهات جديدة في التمدّن والتحضّر، فتزدهر المدن الصغيرة، وتخف الوطأة على المدن والمراكز الكبرى، وتقل الهجرة إليها، ويقل الضغط على النقل والطرق والبنى التحتية، ويمكن السيطرة على البيئة والتلوّث والطاقة وإدارة الموارد على نحو جديد.
وقد كانت الدوافع الأساسية لتطوير العمل من المنزل قبل تطور شبكات الاتصال والمعلوماتية لمواجهة الزحام والتلوث والهجرة ومشكلات النقل والطاقة، ولكنها تجاوزت ذلك منذ منتصف التسعينيات عندما بدأت شبكات الإنترنت والاتصالات تشكل جزءاً شائعاً وقليل التكلفة من حياة الناس وأعمالهم.
وبتحول المنزل إلى مكان عمل فإن تصميمه سيتغير تبعاً لدوره ليكون ملائماً للعمل، فيتجه إلى الانكفاء والاتساع ليحقق الخصوصية والهدوء والقدرة على العمل، وإذا تحوّل التعليم أيضاً إلى الشبكة الإلكترونية فإن المنزل سيكون هو القاعدة الأساسية لتعليم الأولاد، وهناك حوالي ثلاثة ملايين طفل في الولايات المتحدة يتلقون التعليم المدرسي المنتظم من البيوت من خلال الأسرة، وقد يتحول التعليم الأسري في موجة الخصخصة وتراجع مستوى التعليم وانتشار وتقدم التعليم لدى الآباء، وبخاصة في المرحلة الأساسية ليكون هو الأصل والأكثر انتشاراً، وسيغير ذلك بالتأكيد على نحو جذري من دور المدارس والمعلمين الأحياء السكنية والبلديات والأسر والجيران لتنشأ شبكة مجتمعية وأهلية بديلة توفر للأطفال فرص التعليم المنهجي المنتظم والعلاقات والصداقة وممارسة النشاطات.
وبما أن المجتمعات تنشأ حول الأعمال فإن العمل من المنزل سيُنشئ مجتمعات وثقافات جديدة ومختلفة.
التقديرات المستقبلية تشير إلى تزايد ظاهرة العمل من بعد وفي المنازل، وهي تقدر في الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 12%، ويتوقع أن تشكل نسبة العاملين عن بعد في السنوات القليلة الماضية حوالي ثلثي القوى العاملة، وهي تقديرات منطقية تشجع عليها الأزمات المرورية والزحام في وسط المدن، وفرص العمل من خلال شبكة الإنترنت.
وبالطبع فإن قضية العمل من المنزل يصاحبها كثير من المشكلات والأوهام، فهي لا تغير من طبيعة العمل ومهاراته، وهناك قضايا وأفكار يمكن ملاحظتها والتذكير بها، فالتجارة عبر الإنترنت تقتضي أن تكون في الأصل تاجراً أو بائعاً، ولا تجعل منك الإنترنت تاجراً أو بائعاً، وتحيط بهذا النوع من العمل مشكلات اجتماعية وأسرية يجب ملاحظتها، فتحتاج للخصوصية والابتعاد عن الأطفال مع وجودك في البيت، وتحتاج لطريقة جديدة للتوفيق بين متطلبات العمل ومتطلبات الأسرة.
ولن يأتي العمل في المنزل بالثراء، ولكنه سيقلل من التكاليف، وما عدا ذلك فهو يحتاج للجهد نفسه المبذول في المكاتب، من التخطيط والصبر والوقت والجهد، ويحتاج إلى رأس مال واستثمار.
وثمة مشكلة اجتماعية في رؤية العمل المنزلي بأنه ليس عملاً حقيقياً؛ فأنت في البيت في نظر أسرتك وأصدقائك ومن حولك لا تعمل، وتحتاج إلى قدر من الحزم والتضحية للتعامل مع الزيارات المنزلية والمطالب الكثيرة.
ربما يكون العمل من المنزل يشكل جاذبية ومزايا خاصة للنساء، وبخاصة ربات الأسر؛ لأنه يتيح لهن الجمع بين العمل ورعاية الأطفال والقيام بالأعمال المنزلية، ولكن يجب إعادة التذكير بأن العمل في المنزل يحل مشكلات تتعلق بالمكان والتنقل والمسافات، ولكنه لا ينشئ عملاً ولا مهارات جديدة، فإذا أنت لم تكن محاسباً أو مصمماً فلن يحوّلك العمل في المنزل والكمبيوتر وشبكة الإنترنت إلى محاسب ناجح أو مصمم، وقد تساعد الإنترنت في التسويق والترويج، ولكن إذا لم تكن مسوقاً ناجحاً فلن تُفتح لك أبواب البيع والشراء بمجرد العمل عبر الشبكة.
وإذا لم يلتزم من يعمل في المنزل بساعات عمل جدية وحقيقية فلن ينجز، بل إنه بحاجة إلى مزيد من الجدية والحزم تجاه نفسه وعائلته وأصدقائه وزوّاره، وإلاّ فإنه سيضيع من الوقت والإنجازات أكثر بكثير مما يقضيه في المواصلات والذهاب والإياب.
ثمة أفكار ومجالات من العمل المستقلة التي يصلح المنزل مقراً لها، ويمكن التفكير بها وبخاصة للسيدات، مثل الدروس الخصوصية والتدريبية في مختلف المجالات، وحضانة محدودة للأطفال، وتسويق الوجبات والأطعمة المنزلية، والأعمال والمشغولات الفنية، مثل: اللوحات، والنماذج الخشبية، والزجاجية والخزفية، وخدمات وأعمال الطباعة والتصميم، وإدخال البيانات، والبرمجة، وإعداد الدراسات والاستشارات، والكتابة والتأليف.