المسؤولية الاجتماعية بين الرؤية الإسلامية و الرؤية الوضعية المعاصرة
المسؤولية الاجتماعية في الفكر الغربي المعاصر هي محاولة للالتفاف حول صورة الشركة و تحسينها و جعلها خيرة و إنسانية، و هذا من باب السعي إلى الربح من دون أي عراقيل، ف هي نظرة نسبية و متغيرة، و هي متجذرة في الملاحظة التجريبية و النظريات البنائية المرتبطة بها، فهي إذن نظرة مادية أكثر منها أخلاقية[1].
يمكن تمييز الاختلافات التالية بين مفهوم المسؤولية الاجتماعية في المفهوم الوضعي المعاصر و تلك المنصوص عليها في المنظور الإسلامي:
1. أصالة المسؤولية الاجتماعية في النظام الإسلامي:
المسؤولية الاجتماعية ليست دخيلة على النظام الإسلامي كما في النظام الرأسمالي، وليست بديلا وحيدا كما في النظام الشيوعي وإهمالا للمصلحة الذاتية لمالك المال، وتستند هذه الأصالة إلى أن ملكية المال في المنظور الإسلامي لله عز وجل، استخلف الإنسان فيه، وبالتالي فإن لله سبحانه حقاً في المال، وحق الله في التصور الإسلامي هو حق المجتمع، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَآتُوهُم من مالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، ودليل أن الأداء الاجتماعي هو أداء لحق الله تعالى قوله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، هذا في الوجوب، أما في الاستحباب والتطوع، فإن الأداء الاجتماعي يستند إلى قيم الأخوة الإنسانية والرحمة والتعاون، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2][2].
2.اختلاف باعث القيام بالمسؤولية الاجتماعية:
باعث القيام بالمسؤولية الاجتماعية في ظل الفلسفة المادية، هو معالجة فشل الرأسمالية في تحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان استمرار الشركات في مجال عملها، كما أنها تساعد في تعزيز مصداقية المنشأة والثقة في أعمالها، أي أنه باعث مادي بحت.
أما في المنظور الشرعي، فباعث هذا الدور هو روحي يتمثل في التكليف الشرعي الرباني الذي يقوم به الإنسان طلبا لثواب الله، و مناطه الأخلاقيات الإسلامية التي تأخذ بزمام كل فضيلة، فتجعلها مطلوبة، فبعضها على سبيل الاستحباب، وبعضها على سبيل الوجوب،بحسب المصالح المترتبة عليها في الدنيا والآخرة، فالزكاة والحقوق الواجبة للأقارب والجيران و الكفارات ملزمة شرعاً، والوقف والصدقات التطوعية الأخرى تدخل في مجال الالتزام الذاتي من المسلم يقوم بها لنيل الثواب الذي هو جزاء محقق.
3.شمولية المسؤولية الاجتماعية في الإسلام للجوانب الروحية إضافة إلى الجوانب المادية:
إن المسؤولية الاجتماعية التي حث عليها الإسلام كتنظيم اجتماعي يؤسس لبناء مجتمع مستقر ومتماسك تكتمل فيه جميع العناصر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، و هي لا تتوقف عند حد المساهمات المادية أو العينية كما هو حاصل في المنظور الوضعي، إنما تتعداه إلى غرس روح المحبة و الألفة و الرحمة كلبنة لخلق المجتمع المسلم المستقر والمستمر عبر العصور من خلال الحقوق والواجبات والأوامر والنواهي في شتى مجالات الحياة الاجتماعية.
4. تنظيم التشريع الإسلامي لقواعد تطبيق الالتزامات الاجتماعية:
لم يتوقف التشريع الإسلامي عند حد الأمر والحث على أداء المسؤولية الاجتماعية وإنما نظم كيفية هذا الأداء في آليات محددة بدقة، يتضح هذا في فقه الزكاة وفقه الوقف والحقوق الواجبة للعمال والإحسان والسماحة مع العملاء والموردين ونحو ذلك من الأحكام الرشيدة للمعاملات المالية، ففي النظام الإسلامي فإن نطاق المسؤولية الاجتماعية في الجانب الملزم شرعا، محدد بدقة في معدلات زكاة كل مال، وتتراوح هذه المعدلات بين 2.5 % إلى 20 %، بالإضافة إلى مراعاة العدل في الحقوق المالية والمحافظة على الموارد المشتركة، مثل: الطرق والجسور والغابات والمياه والهواء وكف الأذى عنها وعن الناس كافة، وتمثل الصدقات أحد أساليب الأداء الاجتماعي، و لا تقتصر على الإعانة بالمال وإنما تمتد لاستخدام كل الإمكانيات لإفادة المجتمع.
5. سمو الدوافع الإسلامية لأداء المسؤولية الاجتماعية:
كان ظهور المسؤولية الاجتماعية في النظم الوضعية كرد فعل على بعض الممارسات[3]:إما لمعالجة سلبيات، مثل ما قامت عليه الشيوعية، وإما لرد انتقادات مثل ما قامت عليه الرأسمالية، أما في النظام الإسلامي فإن أداء المسؤولية الاجتماعية جزء عضوي من الدين لصحة العقيدة والشريعة.
6.المسؤولية الاجتماعية في الإسلام تستمد إلزاميتها من قوة الاعتقاد الديني :
إن قوة اعتقاد المسلم من وجوب أدائه لالتزاماته تجاه المجتمع الذي يعيش فيه نابعة من قوة إيمانه و اعتقاده بوجوب تسخير و توجيه نشاطه الاقتصادي في مرضاة الله، و لا شك أن الدافع الديني أقوى من أي دافع مادي آخر و يكون له بالغ الأثر على الفرد و على ممارساته و أخلاقه، يغيب هذا الدافع في الاقتصاديات الوضعية بينما يحضر بقوة في الممارسات الاقتصادية التي تقوم على الشريعة الإسلامية في كل توجهاتها.
فالمسلم يوجه بالنية كل أنشطته في الحياة إلى مرضاة الله عز وجل لأنه أمره بذلك، أمره بان تكون حياته بكل أنشطتها له، فمرضاة الله هي الغاية التي يبتغيها كل مسلم بكل نشاط يؤديه، و هي الربح الحقيقي إذا حصل عليه و خسر كل شيء فهو رابح، أما إذا خسره و كسب كل شيء فقد خسر الدنيا و الآخرة و ذلك الخسران المبين[4].
الخاتمة (النتائج و التوصيات):
ركز البحث على إعادة اكتشاف موضوع متأصل في الشريعة الإسلامية، ألا و هو مفهوم المسؤولية الاجتماعية، و تم ربطه بالفكر الإداري، و الهدف هو التأصيل الشرعي و العلمي في آن واحد لهذا المفهوم من منطلق إسلامي، و من خلال ما سبق في البحث، خلصنا إلى النتائج التالية:
§ أداء المسؤولية الاجتماعية في الإسلام واجب ديني وفضيلة إسلامية سبق الإسلام بها الأفكار والنظم المعاصرة، وواجب المسلمين أداء هذه المسؤولية استجابة لأمر الله عز وجل ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون تقليدا أو تنفيذا لاتفاق عالمي أو دعوات من نظم مستوردة.
§ مبادئ المسؤولية الاجتماعية متأصلة في الإسلام من خلال آيات قرآنية و أحاديث شريفة و قواعد فقهية، وليست مستحدثة كما في الأنظمة الوضعية.
§ حث التشريع الإسلامي على أداء المسؤولية الاجتماعية و نظم كيفية هذا الأداء من خلال أساليب محددة بدقة مثل: فقه الزكاة وفقه الوقف والحقوق الواجبة للعمال والإحسان والسماحة مع العملاء والموردين و الصدقات و غيرها.
§ أداء المسؤولية الاجتماعية واجب على المسلم لصحة العقيدة، و لا يهدف المسلم من ورائها إلى أي مكسب مادي، إنما رضا الله هو غايته الأولى و الأخيرة.
§ المسؤولية الاجتماعية في الإسلام تتعدى العمل الخيري و التطوعي أو الهبات المالية إلى بناء المساجد و المراكز التعليمية و الصحة و كفالة الأيتام و الأرامل و رعاية المسنين، و الحفاظ على حقوق الأجراء، و كذا حماية الموارد الطبيعية و الحفاظ على البيئة من مختلف أشكال الفساد، و المشاركة في التنمية الاجتماعية و الاقتصادية.
§ تتميز المسؤولية الاجتماعية في الإسلام بنظرة شمولية، فهي لا تركز على النواحي المادية فقط كما هو الحال بالنسبة للأنظمة المادية الوضعية، إنما تشمل سائر المناحي الأدبية و الروحية من حب و تعاطف و أمر بالمعروف و نهي عن المنكر.
و ختاما نعرض مجموعة من التوصيات للمضي قدما في إثراء هذا الموضوع:
§ دعوة المفكرين في الاقتصاد الإسلامي و الإدارة الإسلامية إلى البحث و الدراسة في هذا المفهوم من أجل تطويره و الإعلام عنه و تعريف رجال الأعمال المسلمين بمبادئ و خصائصه.
§ دعوة الفقهاء إلى التأصيل الشرعي لهذا المفهوم، من أجل أن ينال الاهتمام الذي يستحق من طرف المسلم.
§ دعوة رجال الأعمال المسلمين إلى ضرورة المشاركة في البرامج الاجتماعية بروح إسلامية و طرح هذا الموضوع بإلحاح على الساحة الاقتصادية والاجتماعية العالمية من اجل تعميق النظرة الإسلامية و تفعيلها في واقع العمل الاجتماعي للشركات.
§ يجب أن تعتبر منظمات الأعمال في المجتمعات الإسلامية أن دافع قيامها بالمسؤولية الاجتماعية ليس لمجرد الاستجابة للضغوطات من المجتمع و من المنظمات غير الحكومية، إنما هو واجب ديني متأصل في الشريعة الإسلامية، و هي مطالبة بأدائه رغبة في رضا الله عز و جل.
§ الارتكاز على أساليب التكافل الاجتماعي و أخلاقيات العمل التجاري التي وردت في التشريع الإسلامي لأداء المسؤوليات الاجتماعية تجاه مختلف أصحاب المصالح.
§ صياغة نظرية عن المسؤولية الاجتماعية للشركات لدعم الفكر الإداري الإسلامي في ظل توفر كل أركانها الصحيحة، و نشر هذا الفكر الذي يؤكد أن الإسلام شريعة خالدة متوافقة مع متطلبات الحياة الإنسانية و الاجتماعية.
[1] Asyraf Wajdi Dsuki; "What does Islam say about Corporate Social Responsibility"; review of Islamic economics ; vol.12; N°1;2008; p : 12.
[2] موقع موسوعة الاقتصاد و التمويل الإسلامي، (15/07/2010)، علاء الدين الزعتري، المسؤولية الاجتماعية للشركات، http://iefpedia.com/arab/?p=18976
[3] علاء الدين زعتري، مرجع سابق.
[4] احمد يوسف، القيم الاسلامية في السلوك الاقتصادي، دار الثقافة للنشر و التوزيع، مصر، 1990، ص : 44.