موارد المعلومات والمعرفة "كمفاهيم وفوائد.

 

لم يعد هنالك خلاف في اعتبار المعلومات والمعرفة مورداُ استثمارياً وسلعة استراتيجية ومصدرا للدخل القومي ومجالا للقوى العاملة من خلال توظيف كافة إمكانيات تقنيات المعلومات والاتصالات (ICT) التي أصبحت من أكثر القطاعات نمواً بما تحظى اليوم بأعلى نسبة من القيمة المضافة، وإزاء لذلك بات مقياس تقدم الدول وتطور المجتمعات يقاس بمدى التقدم الذي تحرزه في مجالات المعلومات والاتصالات وما ينعكس على التنمية الاقتصادية والاجتماعية وذلك من خلال تغييرات جوهرية بسبب عمليتي البحث والتطوير(R&D) المصاحبتين للتطور الناجم عن الزيادة المعرفية لمنظومتي العلم والتقنية، وتشكل المعلومات على اختلاف أنواعها وأحجامها العمود الفقري لعملية اتخاذ القرارات وتحقيق التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي.

 

    وتكتسي المعلومات هذه الأهمية في العمل لان جودة القرارات التي تُتخذ في جميع المستويات الإدارية تتوقف على مدى توافر المعلومات التي يحتاجها متخذ القرار. وقد عبر (لامبرتون Lamberton) عن الأهمية والقيمة المتميزة التي تكتسيها المعلومات بالنسبة لعملية اتخاذ القرارات عندما قال "نجد ان كل منظمة مرغمة على اتخاذ قرارات فريدة ومصيرية ولتحقيق أعلى معدلات الكفاءة والابتكار فان اتخاذ مثل هذه القرارات يدفع للاهتمام بالمعلومات بحيث يصبح توفيرها واختزانها والإفادة منها نشاطا استثماريا أساسيا  يتم في بيئة تقنية.

 

   ونظرا لارتباط المعلوماتية بمجالات وأنشطة تطبيقية مختلفة، الأمر الذي  يلزم التمييز أولا ما بين المصطلحات والمفاهيم الأساسية التي تربط بكل من المعلوماتية وحقل إدارة المعرفة، فالمعلوماتية أوسع من كونها حوسبة للمعلومات او بتعبير آخر استخدام الحاسوب لإنتاج المعلومات فقط. كما ان إدارة المعرفة كمصطلح مفاهيمي لا يوجد تعريفاً محدداً لها على الرغم من إنها تأتي في المقام الأول نظرا لفوائد توظيفها إذ من طريقها يمكن توليد القيمة والحصول على الأصول الفكرية التي أساسها المعرفة بغض النظر عن نوعيتها ضمنية أو الصريحة، وان توليد القيمة أو الأصول القيمية " الحضارية " تتم من خلال التشارك بين المستخدمين او الخبراء داخل المؤسسة او من مؤسسات أخرى وان التقنية وحدها ليست إدارة المعرفة بل هي أداة من أدواتها التي تسهل عملية توليدها والحصول على قيمة وقيمة مضافة.

 

   يمكن الاتفاق على ان المعلوماتية في نقطة تطورها الراهنة واللانهائية هي ذلك الإطار الذي يشتمل على علوم الحاسوب وأنظمة المعلومات وشبكات الاتصال وتطبيقاتها في مختلف مجالات العمل الإنساني المنظم وفي مقدمتها إدارة الأعمال ويرتبط بحقل المعلومات تخصصات وحقول مهمة مثل الرياضيات، بحوث العمليات، علم المعلومات والمكتبات، الإدارة، الاقتصاد، اللسانيات، علم النفس وعلم الاجتماع...الخ، وبطبيعة الحال تتباين مساهمة كل حقل من هذه الحقول تبعا لتطور التخصص نفسه ودرجة تلاقيه وتكامله مع المعلوماتية، التي تتجدد اليوم بالأنظمة التي تستند الى تقنيات المعرفة الذكية على سبيل المثال لا الحصر الشبكات العصبية وأنظمة الذكاء الصناعي..الخ.

 

     لذا فان جوهر المعلوماتية هو تقنيات المعلومات من عتاد وحواسيب وبرمجيات والشبكات ومزودات قواعد البيانات ومحطات اتصال، بالإضافة الى العنصر الأهم في هذه المنظومة المتكاملة وهو الإنسان صانع المعرفة "الرأسمال الفكري" من حيث صيرورتها وتشكيلها وأساليب استخدامها، وبمعنى أدق انها منظومة تتكون من ثلاثة أبعاد رئيسية (المعلومات، الحواسب، والاتصالات) وتنطلق من المعالجة الآلية للبيانات والتي يستخدم فيها الحواسيب بجانب تقنيات الاتصالات المستخدمة في نقل المعلومات، ويعد بُعد المعلومات المولد للمعرفة هو الأساس باعتباره أثر ويؤثر في تطور الحواسيب والاتصالات.

 

    وبالتالي فإن المعلوماتية تَجُبُّ حقل المعرفة في منظومتين فرعيتين متكاملتين منظومة إدارة المعرفة (Knowledge Management)، منظومة تكنولوجيا المعرفة (Technology Knowledge) وما يرتبط بهـا من أنظـمة تستنـد إلى المعرفــة (Knowledge-Based Systems) كما سنرى لاحقا. إلى جانب الأنظمة التي تستند الى المعرفة او أنظمة قواعد المعرفة تضم المعلوماتية كل من تقنيات المعلومات وأنظمة المعلومات مع ضرورة التمييز بين تقنيات المعلومات التى تمثل كل العتاد والبرمجيات المستخدمة في أنظمة المعلومات باعتبارها أعمال من نوع خاص تستخدم للحصول على البيانات للقيام بأنشطة النقل والتخزين والاسترجاع والمعالجة وتجهيز المعلومات وذلك من اجل دعم ومساندة نظم مؤسسية.

    

     اما من ناحية المفاهيميه فان مصطلح المعلوماتية يدور في فضاء واسع من الحقول والتخصصات المتنوعة ويرتبط بأبعاد وعلاقات ومداخل متباينة منها ما هو مرئي واضح وملموس ومنها ما هو غير مرئي مؤثر وحيوي، وهذا ما يجعل مفهوم المعلوماتية غير واضح تماما وغير محدد بالإطلاق لأسباب تتعلق باتساع نطاق تطبيق واستخدام المعلوماتية من جهة وللتفنن اللغوي في إطلاق مصطلحات مرادفة للمعلوماتية أيضا، إن النظرة التحليلية للمصطلح تولد للوهلة الأولى انطباعا سريعا مفاده ان المعلوماتية تعني المعلومات او الحوسبة (Information and computing) الا انه لا يمكن تجاهل اعتبار المعلوماتية كحوسبة إلكترونية للمعلومات أو خلق آلي لها إن لم نقل ان المعلوماتية هي إنتاج لقيمة مضافة عن طريق حوسبة البيانات في حالات والمعلومات في حالات أخرى.

 

    وهنالك فرق كبير بين تلك البيانات الخام والمعلومات الإجمالية المستخلصة الجاهزة لدعم القرارات وترشيد التوجهات، وشتان بين المعلومات والمعرفة التي هي تسمو فوق المعلومات باشتمالها الى جانب المعلومات، الخبرات والقدرة على الاستنتاج واستخلاص الحكمة. كما ان الأهمية تلك لا تتوقف كما يتصور البعض على الموارد المعلوماتية فحسب، بل انها تمتد الى القدرة التضاعفية لامتزاج هذه الموارد مع عناصر القوة المجتمعية لتمثل أداة للتكامل المعرفي من طريق الممارسة والخبرة ثم تفهم وتدارك المعرفة الكامنة وراءها، وان المقصود بالقوة المجتمعية هي الرأسميل المجتمعية فهي كمتطلبات لا يتم خلق القيمة الحضارية للمجتمعات الا بتوافر جملة من المتطلبات أولهما الرأسمال البشري الذي يعتبر غاية في الأهمية لارتباطه الوثيق بالرأسمال الفكري المعتمد بدوره على جملة الرأسميل الداعمة والمساندة لبلوغ مستوى الجودة والكفاءة وبالتالي تحقيق القيمة، وتختلف الدول والمجتمعات في تحديد وصياغة أطر خلق القيمة كل حسب تركيبته وبنيته الاجتماعية والثقافية.

 

    ومن الملاحظ على المجتمعات الأكثر تقدما اعتبار الرأسمال البشري أساس المعرفة لارتباطه الوثيق بالرأسمال الفكري ويعد على جانب كبير من الأهمية لما لهذا الارتباط من دورا بارزا في بناء الحاضر وتطوير المستقبل وتحقيق القيمة الاقتصادية، بينما الأمر قد يختلف في المجتمعات الأقل تقدما التي أصبح المحك الرئيسي لها يتمحور في تحول العوامل الاقتصادية التقليدية المستندة على القوة والجهد البدني، إلى أقلمة الأطر وتطوير نمذجة تتجسد في جملة من الرأسميل لخلق القيمة الحضارية المجتمعية مركزه على الرأسمال الفكري الوطني نظرا لدوره الأساسي في إيجاد مجتمع مبني أساسا على المعلومات والمعرفة.

 

    ولعل ذلك ما يستوجب ضرورة إيجاد تفهم وإدراك أكثر للعلاقة بين البيانات والمعلومات والمعرفة إذ ان الكثير من المشكلات حول المعرفة يمكن تفاديها إذا ما تم تفهم التشابه والاختلاف بين المعلومات والمعرفة وان هذه الأخيرة ليست بيانات أو معلومات على الرغم من ارتباطها بهما، ولعل أهم اختلاف بينهم هو دور الإنسان في بناء المعرفة، إذ ان البيانات عندما توضع في نص تتشكل المعلومات التي إذا ما وضعت في معنى لشرحها وتفسيرها تصبح معرفة عندها تكون الحقائق في ذهن الفرد، ولكن عندما يبدأ الإنسان بمعالجتها بأساليب التنبؤ لاستشراف المستقبل باستخدام عقله للمفاضلة بين البدائل والاختيار يصبح سلوكه ذكيا ومتى ما كان هذا السلوك متلازما مع القيم يصبح هذا السلوك مستندا إلى الحكمة، ودون شك ان كل ذلك يتطلب تهيئة نوعية من البشر ذوي ميزات كالخبرة والمهارة والكفاءة " عمال المعرفة "  . 

 

    ومن الطرح أعلاه يتضح ان الإدراك والتمييز بينهم يساعد المؤسسة في ممارسة أنشطتها، ويجعل من خبراتها وكفاءاتها من عمال المعرفة منشغلين بتوظيف المعلومات لجزمهم بان هناك شيئا ما أسمى وأكثر قيمة من المعلومات ذاتها إذا تم التمسك به سوف يضع اية مؤسسة على راس منافسيها. إذ انه لا يخفى على احد "لأفضل الممارسات" تتميز كبرى الشركات العالمية بموظفيها ذوي الإطلاع الواسع الذين يدركون الأهداف العريضة للمؤسسة التى يعملون بها والقضايا التي تهمها والذين يمكن تسميتهم بالخبراء أو "الأصول المعرفية"، وبالتالي فان المعرفة ليست جواهر ثمينة يحتفظ بها ويشرف عليها شخص بعينه بقدر ما هي جملة تدابير وإجراءات وحقائق تتم في جو تشاركي تعاوني اتصالي تقني، لقد أصبحت المعرفة متمثلة بالخبرات والقدرات والمهارات الإنسانية أكثر العناصر فاعلية وتأثيرا في عصر "المعلومات والمعرفة " الذي اكتسب تسميته من سيادتها فهي أغلى الموارد التي تعتمدها النظم المؤسسية بالمجتمعات في أدائها لتقديم الخدمات أو زيادة المعدلات الإنتاجية.

 

    ويُعد التركيز على العمل او الأداء الفعال هو السبيل للمعرفة والتميز إذ إن المنهج السليم هو الاهتمام بماذا يمكن أن تفعله المعرفة وليس بتعريف المعرفة ذاتها فاستخدم كلمة المعرفة لتعني امتلاك بعض المعلومات التي من طريقها يمكن التعبير عنها وتوظيفها التوظيف الأمثل، ولكن مع ذلك فهنالك حالات يُمتلك فيها المعلومات ولكن لا يتم التعبير عنها وتوظيفها كما ينبغي أن يكون وهذه هي أوضاع المعرفة في كثير من مؤسسات العالم الأقل تقدما سواء كانت التعليمية أم الخدمية أم الإنتاجية، فليس كل من يكون قادرا على الأداء وان كان متميزا يكون قادرا على التصريح عن المعلومات المتعلقة بتأدية العمل للاحتفاظ بها كجزء من معرفة او أصول المؤسسة التي يعمل فيها لاشك ان ذلك يتطلب توافر بيئات تمكينية وبرامج إبداعية، لذا نجد (نانوكا Nonaka) يعرف المعرفة على انها " الإيمان المحقق للأهداف الذي يزيد من قدرة الوحدة او الكيان على العمل الفعال".

 

    في حين يؤكد (ادفنسون Advinsson) على ان المعرفة وتطبيق الخبرات والتقنية والعلاقات بين العملاء والمهارات الفنية جميعها تشكل رأسمال فكري للمؤسسة فتصبح المعرفة موردا لها يتعين الإفادة منها، ويعكس لنا هذا المفهوم تمثل القوة على اتخاذ القرار والعمل. بينما نجد ان (بويزوت Boisot) يرى المعرفة اعتمادا على العلاقة بين متغيرين هما تصنيف المعرفة ودرجة انتشارها، أما ان تكون معرفة خاصة وهي مصنفة ولكنها غير منتشرة جاهزة للتداول وبالتالي فهي محدودة الانتشار، وأما ان تكون شخصية غير مصنفة وغير منتشرة التي تمثل إدراك الفرد وخبرته وبصيرته في العمل، وان تكون عامة وهي معرفة مصنفه منتشرة مثل الصحف والكتب والتقارير والمكتبات، يضيف إلي ذلك الفهم العام وهو الآخر يمثل معرفة ولكنها غير مصنفة وإنما منتشرة متمثلة بالتواصل الاجتماعي والمناقشات والأفكار العامة.

 

   لذا فان دورة تفعيل المعرفة داخل منظومة مؤسسات أو مرافق المجتمع هي حلقة متصلة مكونة من ثلاثة عناصر أساسية هي اقتناء المعرفة فاستيعابها ثم توظيفها، ولا يري وجود أية إضافة جديدة الا من خلال تفكك هذه الحلقة المعرفية والتي عادة ما يغيب عنها شق توظيفها في حل مشكلات المجتمعات الأقل تقدما وتنمية موردها، وفي كثير من الأحيان يتوقف الجهد عند حدود اقتناء المعرفة دون استيعابها ولا يرجع ذلك فقط الى النزعة اللاعلمية فحسب، بل يرجع أساسا الى ضعف امتصاص مجتمعات العالم الأقل تقدما للرحيق المعرفي وذلك لأسباب عدة تربوية وتنظيمية وسياسية واقتصادية ولكن من جهة أخرى يبشر بان الأمل معقود في نقل وتوطين تقنيات المعلومات التى ستعمل على تفتيح المسامات ومن ثم تحسين الأوضاع المعرفية.

 

   خصوصا انه أينما ذهبنا وحيثما نظرنا وكيفما بحثنا وتبصرنا نجد أنفسنا في مواجهة المعلومات، اذ انها بحكم طبيعتها تتغير دوما وتهلك لتتجدد من جديد وبالتالي فهي لا تغفر للمجتمعات حرمانها من حقوقها الطبيعية في الانطلاق وما أبهظ الكلفة التي يمكن ان تدفعها تلك المجتمعات الأمر الذي يستوجب التدارس بكل عناية لتلك العوامل المجتمعية المؤثرة في تنمية الموارد المعلوماتية من جهة والآثار المجتمعية المترتبة على هذه التنمية من جهة ثانية، والعمل من جهة ثالثة على جعلها مساندة لاتخاذ القرار.

 

الهيكلية التنظيمية للنظم المؤسسية في عصر الافتراضية .

 

     لقد خلق عصر المعلومات بيئة عمل تتسم بالتغيير السريع وتزايد متطلبات الأداء حيث تواجه المؤسسات تحديات تتعلق بحسن الأداء والتغير المستمر للتكيف مع بيئة العمل في معظم الحالات يجب ان تكون التغييرات سريعة وان يتم تنفيذها بمهارة وان تستهدف بوضوح تنفيذ استراتيجية عمل فاعلة ولم يعد من الممكن الآن اعتبار التغيير ظاهرة تحدث كل بضعة أعوام كجزء من مجهود خاص بل يجب ان يكون التغيير مستمرا وسريعا حتى يسمح للمؤسسات ان تواكب سرعة الأعمال نفسها إذ ان أهمية التغيير في بيئة اليوم تؤكد بصورة شبه تامة ان المؤسسات التى لا تتغير ستتحول بسرعة الى شركات ديناصورية ثم تسلك طريقها الى الانقراض لأنها لم تعد متوائمة مع بيئة العمل الحالية في عصر الرقمنة.

  

    وإزاء ذلك أصبحت فترات الاستقرار في معظم الصناعات أثرا من الماضي وبالتالي فعلى المؤسسات ان تحدث تغييرات مستمرة إذا أرادت الصمود والاستمرار في البقاء ويتم التغيير على مراحل أولا وجود نوع من عدم الرضي، بحيث تتخلى المؤسسة عن أساليبها التقليدية ثم تنتهج المؤسسة نهج التغيير، لاشك ان خلق نظم مؤسسية عصرية مرنة قائمة على فكرة التطوير والتغيير المستمرين نتيجة ازدواجية البحث والتطوير يتطلب رؤية فكرية خاصة عن تصميم المؤسسة، وإتباع أسلوب التعليم المستمر للإلمام بالممارسات والتطبيقات الجديدة وبذل جهد كبير لتحسين الأداء بصورة مستمرة وان كل ذلك يتركز على وجود تنمية موارد بشرية او تنمية رأسمال فكري كما سبق وأوضحنا.

 

    ولا خلاف في اعتبار الإنسان المورد الأساسي للمعرفة بما اكتسب في عقله من خبرة ومعرفة ومهارة لا يمكن لأي تقنية التنبؤ بها ما لم يصرح عنها وتنتقل منه الى الحواسيب لتخزن كما تخزن بقية أنواع المعرفة الموثقة حيث توفر التقنيات المعلومات على حسب فرضية (مالهوترا) التي مفاده إن إدارة المعرفة توفر المعلومات المناسبة للشخص المناسب في الوقت المناسب، من خلال تخزينها للذكاء والخبرة الإنسانية المتمثلة في قواعد المعلومات والبرمجيات التطبيقية..الخ كما سنرى لاحقا، حيث يتم إعادة توزيع الذكاء الإنساني مرة أخرى من خلال تنبؤ المؤسسة بالمعلومات المناسبة وتوزيعها على الأفراد المناسبين لبثها الى الآخرين من خلال تخزينها في قواعد معلومات وتوفير سبل الوصول إليها وإتاحتها.

 

     إلا أن كون المعلومات والمعرفة مخزنة هذا لا يعني او يؤكد حتمية وصول الأفراد المناسبين إليها في الوقت المناسب وتوظيفها امثل توظيف في اتخاذ القرارات، حيث يؤكد (مالهوترا) في هذا السياق بان إدارة المعرفة تركز على الفاعلية وتوليد رؤية موجهه بالإجماع وكون المعلومات متوافرة في قاعدة فان أنظمة المعلومات لا تحسب حسابا لتجديد المعرفة وتوليدها بل الإنسان هو القادر وحده على تفسير الخبرات وإعادة استخدامها وتوليد معرفة. ويؤكد هذا الرأي كل من (نوناكا وتاكيوشي) في كتابهما " الشركة الخالقة للمعرفة " بان الإنسان له دور محوري في تكوين المعرفة وان الحواسيب مجرد أدوات استخراج المعلومات او مخرجات المعالجة وليست ناقلا ثريا للتفسيرات البشرية، وتقطن المعرفة في السياق الشخصي للمستفيد اعتمادا على تلك المعلومات المستخرجة. 

 

    ويتضح من ذلك ان تحديات إدارة المعرفة تكمن في كيفية هيكلية النظم المؤسسية المجتمعية وجعلها تعمل من اجل ترشيد اتخاذ القرار في جانبين حيويين وهما: أولهما عملية تحويل المعرفة الضمنية الى معرفة صريحة وهي المنظمة والمتسقة المحتوى وهذه العملية من أساسيات التوسع في قاعدة المعرفة التنظيمية من خلال ترميز او تدوين الخبرات وتخزينها بالشكل الذي يمكن به إعادة استخدمها والتشارك بها من قبل الآخرين (الدراسة والبحث)، وثانيهما عملية تحويل المعرفة الصريحة الى ضمنية عندما يبدأ الموظفون بتطبيع المعرفة الصريحة او التشارك بها واستخدامها في توسيع او إعادة دراسة معرفتهم الضمنية (التطبيق والتطوير).

 

     باعتبار ان الأصول المعرفية تصنف الى صنفين صريح واضح وضمني وهذا الأخير يعني الخبرة والمهارة التي تكمن في العقول والسلوك البشرية، وان التحدي يكمن بالمعرفة الضمنية وكيفية تفهمها والتشارك فيها والتعاون لتوليد المعرفة الصريحة منها من خلال توظيف التقنية الذكية من شبكات وبريد الكتروني ومجموعات الالكترونية على هيئة منتديات افتراضية من اجل نقل المعرفة الضمنية الى معرفة صريحة وتحقيق تقدم اقتصادي عالي، وهذه لاشك تمثل عقبة في طريق العديد من المؤسسات وان إدارة المعرفة قائمة أساسا على التعاون والتشارك في المعرفة وبدون هذا السياق لن تكون إدارة حقه للمعرفة وتوليد القيمة .

 

    لذا يعد التوثيق النواة الأولى والعصب المحرك فيما بعد لتنظيم الموارد المعلوماتية من طريق تخزين المعلومات والخبرات واستثمارها عن طريق التشارك بها لخلق وتوليد المعرفة ويعد ذلك عملية أساسية للمؤسسة لكونها تبذل جهودا وأموالا كبيرة في اكتساب المعرفة والمهارات والخبرات عليه فإن لم تقم بعملية التوثيق او التخزين لتلك الخبرات والمعارف وفق نظام معلوماتي موحد سواء كان على مستوى المؤسسة الواحدة أم على مستوى مؤسسات المجتمع وتيسير الوصول إلى الموارد المعلوماتية واسترجاع أو إتاحة الإفادة منها فأنها ستفقدها سواء بالنسيان او بتعذر الوصول إليها وفي هذا الصدد يؤكد كل من (ستين وزواس-Stein & Zwass) بان عملية التخزين والاسترجاع تمثل الذاكرة التنظيمية للمؤسسة.

 

     وتعتمد عملية خلق المعرفة على الثقافة السلوكية السائدة في المؤسسة وعلى هيكلها التنظيمي فالعقلية الإدارية القائمة على الأمر والإشراف تحد من فرص تشكيل الفرق والتفاعل بين الأفراد والوحدات وهذه من الاعتبارات الضرورية في نقل المعرفة وخلق معرفة جديدة، كما يقوم الهيكل التنظيمي الهرمي على أسس بيروقراطية تتسم بعدم المرونة في نقل المعرفة والتشارك بها فالأوامر الإدارية التي تقضي بنقل المعرفة الرسمية عبر قنوات محدودة سوف لن تسمح بتدفقها، ومن اجل تطبيق المعرفة وجعلها أكثر ملاءمة للاستخدام في تنفيذ أنشطة المؤسسة لابد من الإشارة الى عدد من محددات التطبيق التي تؤثر سلبا على إدارة المعرفة وهذه هي:(الثقافة التنظيمية والهيكل التنظيمي والقيادات التنظيمية وتقنيات المعلومات).

 

    ومن ضمن الأساليب المستخدمة في الهيكلة الإدارية وجعلها متمشية مع عصر الافتراضية استقطاب الخبراء من اجل الحصول على أفكارهم المعرفية وأرائهم ليتم توليد أفكار جديدة منها والإفادة من مقترحاتهم كحلول للإشكاليات التي تواجهها النظم المؤسسية، وفي هذا السبيل تبرز أنشطة أساسية مثل التفسير والفهم والتحليل لتلعب دورا كبيرا في توليد تلك الأفكار. ومع ذلك فان ما يتم الحصول عليه من معرفة جديدة هنا لا يمكن لإفراد المؤسسة عموما الاشتراك بها ما لم يتم إقرارها وثبوتها رسميا على مستوى المؤسسة وعليه من اجل تثبيت المعلومات رسميا لابد من تبريرها وإقراراها لكي تتحول الى معرفة صالحة للتطبيق في عمليات ومنتجات المؤسسة، وتكمن قدرة المؤسسة التنظيمية في كفاءتها على إدارة المعرفة الداخلية والخارجية ورفعها وتكاملها لأداء مهام إنتاجية بحد ذاتها بفاعلية وكفاءة، وتعني القدرة هنا دور الإدارة الاستراتيجية في التبني المناسب للمصادر والكفاءات والخبرات داخل وخارج المؤسسة والعمل على تكاملها وإعادة صياغتها لمطابقتها مع متطلبات عصر الافتراضية وذلك وفقا لمراحل تتبعها المؤسسة:ـ

 

1- مرحلة المبادرة Stage  Initiation والتي  تتضمن إدراك أهمية المعرفة والتحفيز إليها باعتبارها موردا هاما لاستمرارية الميزة التنافسية.

 

2- مرحلة النشر Stage  Propagation والتي تتمثل في تزاحم المعلومات وتراكمها مما يتطلب غربلة المعلومات الناتجة عن تحفيز الإبداع وفقا لمعايير وسياسات.

 

3 - مرحلة التكامل الداخليInternal Integration وتلعب التقنية دورا هاما في مراقبة تدفق المعرفة وسبل الوصول إليها وبناء قواعد المعرفة ورسم خارطة لتوزيعها.

 

4- مرحلة التكامل الخارجيExternal Integration التى يكون محورها الأساسي التعاون والتوحيد والثقة من اجل التشارك بين مختلف المؤسسات ولعل تكمن صعوبة هذه المرحلة في اختلاف ثقافات وأهداف النظم المؤسسية سواء داخل البلد الواحد او على المستوى الدولي.   

 

   ان الأمر يتطلب إدارة وتشجيع الابتكار أو الإبداع معا في هيكلة إدارة النظم المؤسسية من اجل استمرارية البحث والتطوير، وبالتالي فانه يمكن التسليم بحقيقة ان المعرفة ليست مجرد وثائق وملفات وبرامج، بمعنى أدق أوعية معلومات يتم تقاسمها بقدر ما هي الا جملة خبرات وتجارب تكمن في عقول كفاءات بشرية من فئة عمال المعرفة وتقع على المؤسسة مسؤولية تجهيزها وفق تقنيات المعلومات والاتصالات والعمل على توافرها في هيئة خدمات معلوماتية ( الانترنت والأنظمة الآلية ) بعد تحويلها من ضمنية الى صريحة والعكس من اجل توظيفها للرفع من مستويات الأداء.

 

   وبناءا على لذلك فان الهيكلية التنظيمية لنظم المؤسسية في عصر الافتراضية تتكون من عدة وظائف ابتداء من الإدارة الاستراتيجية للمعرفة والتي تتضمن كل أنشطة المنظمة لصياغة وتطبيق استراتيجية معرفية تهدف الى تنظيم واستثمار الموارد الفكرية والتنظيمية والإبداعية والتقنية من مصادرها في داخل المؤسسة، إضافة الى تنظيم المعرفة وترتيبها وتصنيفها وتنسيق عمليات تدفقها عبر قنوات محددة، كذلك بناء أنظمة المعرفة أي بمعنى الإشراف على تخطيط وتصميم وتشغيل الأنظمة الحاسوبية التي تستند الى قواعد المعرفة ودعم الجهود الأخرى لاستكمال البنية التحتية لهذه النظم المؤسسية والتي تتكون عادة من أنظمة المعلومات التنفيذية وأنظمة مساندة القرارات وأنظمة مساندة القرارات الجماعية وأنظمة المعلومات الإدارية.

 

     أيضا تنمية وتطوير العقل الجمعي بمعنى تنمية الموارد البشرية الفكرية والعمل على استمرارية تعليمها وتدريبها، وإدارة المعلومات والوسائط المتعددة الرقمية التى تستهدف اكبر مساهمة ممكنة للمعلومات في تحقيق الميزة التنافسية الاستراتيجية المؤكدة سواء من خلال تقليل نسبة كلفة المعلومات من هيكل التكاليف الكلية او من خلال ارتباط المعلومات بكل أنشطة تكوين القيمة للنظم المؤسسية، أيضا إدارة التعاضد التى تعني القدرة على العمل كفريق متكامل لتحقيق قيمة اكبر وبلوغ أعلى مستوى من المشاركة بالموارد والقدرات الذاتية وبمعني أدق القدرة على العمل والتفاعل الايجابي المشتمل على المعرفة بالتقنية والمشاركة بالموارد المنظورة وتنسيق استراتيجيات الأعمال، وفي نهاية الهيكلية إنتاج المعرفة لدعم ومساندة اتخاذ القرارات وممارسة الأنشطة وتحقيق الجودة وإنتاج قيمة مضافة.

 

    ويورد لنا (ماكنتوش Macintosh) سبع عمليات أساسية تمر بها إدارة المعرفة وضمن كل عملية مجموعة أنشطة وفعاليات ينبغي توافرها، حيث يحددها في تطوير المعرفة أولا باكتسابها من خلال اكتشافها والإمساك بها أي الحصول عليها وتكوينها من اجل ان يتم تطبيقها ثانيا من خلال استخدامها وتشريعها بجعلها قانونية لتنفيذها وجعلها سارية المفعول من اجل استغلالها، وصولا الى تقييمها وتثمينها ثالثا بمعنى التعريف بقيمتها وتقييمها وإقرار شرعيتها وثبوتها رسميا " الملكية الفكرية "وتصنيفها، من اجل حفظها رابعا من خلال خزنها والعمل على حمايتها والمحافظة عليها واستبقاؤها، ليكون خامسا تحديثها بتطويرها وتنميتها وتحسينها وصيانتها والعمل على تقويتها وإنعاشها، من اجل ضمان نقلها سادسا بمعنى التواصل بها ونشرها وبثها وإتاحتها للمشاركة بها، وتحويلها أخيراً من خلال تجميعها وصياغتها وتوحيدها وشرحها.

 

 

    وبشكل عام هنالك مدخلان لدراسة وتحليل إدارة المعرفة ولتعيين وظائفها وادوار مدرائها ويسمى المدخل الأول المدرسة المعلوماتية التى تعود بجذورها الى أنظمة المعلومات الحاسوبية ذات التقنية العالية بعتادها وبرمجياتها وبوجه خاص تطبيقات حقل الذكاء الصناعي مثل النظم الخبيرة (Expert Systems)، لشبكات العصبية (Neural Networks ) وتقنيات المنطق الغامض (Fuzzy Logic) وتعتبر الأنظمة التي تستند الى قواعد المعرفة والشبكات الذكية التى تعمل على أساس المعالجة المتوازية والمنطق الغامض هي التي تملك الأجوبة النهائية عن أسئلة الإدارة ودعم ومساندة اتخاذ القرارات كما سنرى لاحقا بشكل أكثر تفصيلا.

 

    والمدخل الثاني لإدارة المعرفة المدرسة السلوكية وهو اتجاه تكثيف الجهود والقدرات الذاتية والموضوعية نحو استثمار الموارد البشرية الموجودة او المتاحة، بمعنى أدق استثمار تلك الموارد الفكرية والتقنية والتنظيمية التى تستطيع الإدارة تشكيلها كفريق عمل موجود او فريق عمل افتراضي يتم تجميعه من داخل او خارج المؤسسة بصفة وقتية او دائمة من اجل حل مشكلات حيوية او تنفيذ مشروعات او التخطيط لتغييرات استراتيجية حاسمة، وان فرق العمل الافتراضية تتشكل وتعمل على تحقيق إنجازات محددة ونتائج مهمة ولا يهم بالطبع نوعية جنس او عرق او ثقافة الأفراد المستعان بهم في تشكيل فرق العمل وإنما المدخل يركز اهتمامه على الجوانب الفكرية والعقلية الإبداعية السلوكية والثقافية بالدرجة الأولى لاكتساب وخلق واستثمار موارد المعرفة بكل أبعادها الشاملة وعناصرها العميقة وذلك من اجل خلق ميزة استراتيجية مرتبطة بالموارد البشرية مع التركيز على عملية تراكم وخلق واستخدام المعرفة باعتبارها النشاط الأول لإدارة المعرفة.

 

   وعلى الرغم من اعتبار التقنية هي جزء هام من إدارة المعرفة ومظهر بارز في حركة وانسياب توليد المعرفة في عالم اليوم والغد، إلا انه لابد من التركيز على كافة أبعاد إدارة المعرفة لما في البعد الإنساني السلوكي من أهمية في توليد تلك المعرفة وخلق القيمة نظرا للتفاعل الحاصل مع التقنية، وكلاهما يعتبران بمثابة المنجم الثرى الذي تستخدمه المؤسسة لتحقيق أهدافها، لدا تعد من أهم أساسيات إدارة المعرفة تسهيل إجراء العمليات المتقدمة كتوظيف الأنظمة الخبيرة وإستحداث منتديات افتراضية للخبراء للتشارك في الأفكار وبلوغ التنافس والتميز بالوصول لأفضل الممارسات من خلال سياسة تشجيع الإبداع في النظم المؤسسية في الدولة. وتخطي العقبات والصعوبات الثقافية لإدارة المعرفة المتقدمة التي يلاحظ على معظمها ذات صلة بالممارسات البشرية وثقافتهم المعلوماتية التي تصل نسبتها إلى 95 % بينما تبقى 5 % فقط تتعلق بالجوانب التقنية، باعتبار ان الجانب البشري الثقافي جانب محوري مؤدي للتغيير الفعال في طرق الحياة والعمل على كافة المستويات المؤسسية والمجتمعية

 

  وهنالك العديد من الجهود أثناء التسعينيات على المستوى العالمي لتبني هذه التوجهات من قبل العديد من المؤسسات في القطاعين العام والخاص التي تسعى لإيجاد هيكلية تنظيمية وتوافر أنظمة معلومات إلكترونية، وكنتيجة طبيعية لتلك التوجهات كان هنالك تبني مبكر للعديد من التقنيات الرئيسية التي تعد اليوم كبيئات تمكينية استطاعت من خلالها المؤسسات تطبيق أساليب وممارسات إدارة المعرفة المتقدمة، والتي تضمن على سبيل المثال لا الحصر التصنيف والفهرسة والتوثيق والاسترجاع للمعلومات آلياً، إضافة الى أرشفة التراث الوطني رقميا، وإتاحة الحصول على المعلومات بشفافية. وتعد من بين أهم العوامل المساعدة على خلق هياكل تنظيمية للموارد المعلوماتية لتوظيفها في ترشيد اتخاذ القرارات هي وضع بيئة تشريعية مع وجود أطر لحماية البيانات (أمن معلومات) وذلك وفقا لمبادرات الحكومة الإلكترونية التي تعمل على تعزيز البنية الافتراضية لمختلف المؤسسات بالمجتمع.



المصدر: [1]-د. حنان الصادق بيزان
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 99/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 4152 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,878,496

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters