إنها قصة (النمر الكبير)، الذي تقدمت به السن، وكان قائدًا لقطيع من النمور، وفي يوم من الأيام قرر أن يخرج للصيد في الغابة المجاورة، فجمع نموره وقال: علينا أيها الأصدقاء أن نخرج للصيد، وأرجو أن تصحبني النمور اليافعة، لعلهم يتعلمون مني شيئًا أو شيئين.
أحست النمور الصغار بالغبطة والفرح عندما سمعوا ما قاله النمر الكبير؛ لأنه نادرًا ما يبدي لهم اهتمامًا حقيقيًّا بتدريبهم على الصيد، ولم يكن لهم أي دور يؤدونه عندما كانوا يخرجون معه.
وفي اليوم الأول شاهد النمر الكبير قطيعًا من الفيلة، فانتدب أحد النمور اليافعة ليهجم على قطيع الفيلة ويجلب لهم ما تيسر، وقد فوجئ النمر الصغير بكلام قائده؛ حيث لم تكن لديه أدنى فكرة لصيد أرنب، فكيف بفيل ضخم الجثة؟!
ولم يستطع النمر الصغير أداء المهمة، فقال النمر الكبير: يبدو أن على أن أقوم بالمهمة بنفسي، وكذلك فعل، فاصطاد فيلًا كبيرًا.
وتكرر هذا المشهد عدة مرات مع نمور صغيرة أخرى، وكان الفشل نصيبهم جميعًا وكان على النمر الكبير أن يقوم بالمهمة بنفسه، وفي كل مرة يؤنب النمور الصغيرة لعدم قدرتها على الصيد.
تحلقت النمور حول النمر الكبير مبدية إعجابها بمهاراته وشجاعته؛ فتنهد النمر الكبير قائلًا: يبدو أنه ليس بينكم من يتوفر لديه الاستعداد ليحل محلي، وآسف إذا قلت إنني نمر لا يمكن الاستغناء عنه.
وتمر السنون والنمر الكبير على هذا الحال، يصطاد بنفسه، ولم يغير من أسلوبه في تعامله مع رفاقه، ولم يخطر بباله أن يعلمهم حيله وأفانينه في اصطياد الصيد.
وفي أحد الأيام، التقى النمر الكبير بصديقه الأسد، واشتكى النمر الكبير من ضعف النمور الصغيرة وقلة همتها وانعدام المبادأة لديها قائلًا: إنه رغم كبر سني فإني أقوم بالصيد لجميع أتباعي، ويبدو أنه ليس ثمَّة نمر على شاكلتي بين النشء الجديد.
عندئذٍ انتفض الأسد، وقال: هذا أمر غريب، إنني أجد الأشبال عندي يتعلمون بسرعة، وينفذون ما أطلبه منهم، بعضهم يحسن في عمله، وبعضهم يخطئ، ولكن لا بأس، وأصدقك القول، إنني أفكر في ترك العمل والتقاعد في السنة القادمة، وأسلم القيادة لأحد الأشبال.
قال النمر الكبير: إنني أغبطك، ومن المؤكد أنني كنت سأرتاح لو عرفت جيدًا معنى القيادة، نهض الأسد فودعه النمر الكبير الذي قال متألمًا: إنه لعبء ثقيل حقًّا أن تتصرف وكأنك القائد الذي لا يُستغنى عنه.
إن النمر الكبير قد فشل فشلًا ذريعًا عندما تجاهل أتباعه ولم يعلمهم فنون الاصطياد ولم يدربهم على كيفية الصيد، واعتبر أن النجاح والفشل مرتبط بشخصه فقط؛ وبالتالي كان الفشل الذريع حليفه، ولم يستطع أن يحدث التغيير المطلوب، ولم تتعلم النمور الصغيرة أي شيء من النمر الكبير خلال رحلات الصيد المتكررة.
وعندما شاخ وكبرت سنه؛ لم يجد البديل الذي يستطيع القيام بالمهام التي كان يؤديها.
إن بعض القادة الإداريين ينسبون إلى ذواتهم الفردية كافة النجاحات التي تحققها المنظمة، وينسون أنه لا تميز لهم دون أتباع مميزين، فأصبح الأتباع في منظماتهم لا قيمة لهم إلا خدمة قادتهم.
بل لا يقبل هؤلاء القادة إلا من هم أقل كفاءة؛ خشية أن يسحبوا عليهم النفوذ من داخل المنظمة، ولا يريدون إلا إمعات ورعاعًا لا يحسنون شيئًا، وكلما أحسن الأتباع الطاعة العمياء؛ كلما تأكد بقاؤهم حول قادتهم.
نخلص من هذا كله أن (النمر الكبير) افتقد إلى الرؤية المستقبلية، ولم يدرك أنه يحتاج إلى جيل من الأتباع المميزين (النمور الصغيرة) ستحل محله عندما يكبر سنه، وأنها بحاجة إلى التأهيل والتدريب على القيادة حتى يمكن الاعتماد عليها مستقبلًا.
كما أن هؤلاء الأتباع بحاجة إلى التشجيع، وكما قال الأسد عن أتباعه: (بعضهم يحسن عمله، وبعضهم يخطئ ولكنهم بحاجة إلى الصبر والتحفيز)، ولم يدرك (النمر الكبير) هذه الحقيقة كما أدركها الأسد؛ فكان الفشل حليفه في قيادته للنمور الصغيرة.
فالقائد الناجح الذي يحيط نفسه بالقادة، فيكون بحق أسدًا يقود مجموعة من الأسود، لا أسدًا يقود مجموعة من الأرانب، فتبقى مسيرة القائد مستمرة حتى لو لم يكن هو بطل هذه المسيرة.
فإن تخلف هذا القائد لمرض أو موت أو لظرف يمنعه من قيادة أتباعه نحو هدفهم؛ لم تتوقف مسيرة أتباعه عن هدفهم.
ولقد كانت أعظم سنوات هذه الأمة يوم أن كان أسودها يقودون أسودًا، يوم أن كان النبي صل الله عليه وسلم يقود جماعة المؤمنين من صحابته، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وسعد بن وقاص وخالد بن الوليد وابن عباس عليهم رضوان الله أجمعين.
ثم خلفه أبو بكر فكان مجلس مشورته يضم خيار الصحابة، ولكن تتابعت الأيام فصار يخرج على الأمة بين الفينة والأخرى قائد فذ يعيد السمت الأول للخلافة الراشدة، ولكنه لا يخلف وراءه قيادات عظيمة، فيبدأ هذا النور الذي بدأ يلوح في الآفاق في الخفوت.
فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعيد سمت الخلفاء الراشدين حتى ليلقب بخامس الخلفاء الراشدين، ولكن من وراءه يكمل المسيرة؟! وهذا صلاح الدين يعيد القدس ويوحد كلمة المسلمين، ولكن أين من يخلفه؟!
<!--إذاً كيف السبيل؟
ولكي يخلف القائد من بعده قادة؛ عليه بجملة أمور يربي عليها أتباعه القادة؛ ومنها:
<!--إعطاؤهم مكانة خاصة لا تُمنح لغيرهم، كأن يشاركوا في اتخاذ قرارات هامة ومصيرية، أو يكون لهم نصيب في رسم الرؤية الكلية وتحديد الأهداف الهامة.
فمثل هذه الشخصيات دائمًا تبحث عن مساحة للعمل، وتريد أن تثبت كفاءتها وأهليتها للقيادة، وتريد أن تستشعر تأثيرها في العمل وفي الواقع؛ ولذا عليك كقائد تسعى إلى أن يخلفك قيادات تكمل مسيرتك، أن تفتح لها مثل هذه المساحات وتعطيها الفرصة لتثبت وجودها وتشعر بأهميتها في العمل، كما عليك كقائد أن تشعر هذا الشخص بمكانته وأهميته في العمل، واعتماد جزء كبير من العمل عليه.
وهذا فعل النبي صل الله عليه وسلم كما ذكرنا في قصة غزوة بدر، وكيف أخذ برأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وكيف كان النبي صل الله عليه وسلم حريصًا على استشارة أصحابه وكان أكثر من يستشيرهم هم من يعدهم ليخلفوه من بعده؛ كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وهذا ما فعله عمر بن الخطاب لما حدد مجموعة الشورى في ستة أشخاص، كان من بينهم خليفته عثمان بن عفان رضي الله عنه.
<!-- إعطاؤهم قدرًا من الحرية في تنفيذ المهام الموكلة إليهم، مع الاهتمام بالمتابعة والتوجيه والإرشاد، ومن أوضح الأمثلة لذلك؛ منح النبي صل الله عليه وسلم حرية كبيرة لمصعب بن عمير حين بعثه إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، والتي كانت في موسم الحج في العام الثاني عشر من البعثة.
وكان مصعب ذاهبًا لأداء مهمة بهدف محدد، ألا وهي نشر الإسلام في المدينة وتأهيلها لقدوم رسول الله صل الله عليه وسلم ، وفي أقل من عام ينجح مصعب في مهمته، ويعود إلى رسول الله صل الله عليه وسلم قبل موسم الحج في العام التالي ليبشره بانتشار الإسلام في المدينة، وتتم بالفعل في موسم الحج لهذا العام 13 من البعثة بيعة العقبة الثانية، يحضرها ثلاثة وسبعون رجلًا من الأنصار وامرأتان.
<!-- التجاوز عن الخطأ الصغير أمام ما قدموه من الإنجازات الكبيرة، وكما يقول رسول الله صل الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) [رواه أبو داود وصححه الألباني].
وكما في قصة بعث النبي صل الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة؛ ففي صحيح البخاري: بعث النبي صل الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، وجعل خالد قتلًا وأسرًا، قال: فدفع إلى كل رجل أسيره حتى إذا أصبح يومنا أمر خالد بن الوليد أن يقتل كل رجل منا أسيره.
قال ابن عمر: فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل أحد، وقتل بشر من أصحابي أسيره قال: فقدمنا على النبي صل الله عليه وسلم فذكر له صنع خالد، فقال النبي صل الله عليه وسلم ورفع يديه: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) [أصل القصة في صحيح البخاري]، قولهم "صبأنا"، يقصدون بذلك أنهم خرجوا من دين آبائهم ودخلوا في دين الإسلام، فإن الكفرة كانوا يدعون المسلم يومئذ بالصابئين، ولكن لما كان اللفظ غير صريح في الإسلام جوز خالد قتلهم، (وجعل خالد قتلى وأسرى)؛ أي جعل بعضهم قتلى وبعضهم أسرى، ومع هذا الخطأ الذي وقع فيه خالد وتبرأ منه رسول الله صل الله عليه وسلم لم يعزله النبي صل الله عليه وسلم عن القيادة.