إن قضية صناعة القادة ليست بالعملية السهلة، خصوصًا وإن كنت تتكلم على مستوى أمة من الأمم، فهي وظيفة تتشارك فيها الأسر والمؤسسات التعليمية، وأساتذة الجامعات والتربويون، والمشايخ وطلبة العلم، أو بمعنى آخر؛ إن عملية صناعة القادة إذا أردنا أن تكون على مستوى أمة، فينبغي أن يُصنع المناخ الملائم لذلك، وسنحاول أن نضع علامات في الطريق، وإلا فالموضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة وبحث مستفيض.

ويمكن أن نعرض لبعض مبادئ صناعة القائد؛ ومنها:

<!--وصية رسول الله صل الله عليه وسلم:

فأغلب المفكرين والمربين يرون أن علامات القيادة تظهر على الطفل منذ نعومة أظافره، ومن المشاكل التي تواجه عملية صناعة القادة أن كثيرًا من الآباء يهملون هذه المرحلة، بل كثير من الشخصيات قد فسدت نتيجة التربية الخاطئة.

ولذلك يقول "مونتجومري": (إن طفل اليوم هو رجل المستقبل، يجب أن يكون الغرض من صناعته بناء سجيته ليتسنى له عندما يحين الوقت المناسب أن يؤثر في الآخرين إلى ما فيه الخير، إن تجربتي الشخصية تحملني على الاعتقاد بأن الأسس لبناء السجية يجب أن تغرس في الطفل عندما يصبح في السادسة من عمره).

وانظر إلى أمِّ الإمام مالك وطريقتها العظيمة في بناء هذه القيادة العلمية الفريدة، فيصف الإمام مالك طريقة أمِّه في تنشئته فيقول: (كانت أمي تعممني وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه).

وإن كانت مرحلة الطفولة هي مرحلة الاكتشاف، فإن مرحلة الشباب هي بداية مرحلة الممارسة، ولابد من برامج تربوية وعملية لإخراج الطاقات القيادية المكبوتة في الشباب، واستغلالها في صالح المجتمع والأمة.

فتلك كانت أمنية ورقة بن نوفل حين علم بأمر رسالة النبي صل الله عليه وسلم فتمنى أن يكون شابًّا فتيًّا فيبني صرح هذه الأمة مع النبي صل الله عليه وسلم وصحبه؛ فقال: (يا ليتني فيه جذعًا) أي شابًّا، ولماذا كان يريد أن يكون شابًّا؟ يجيبنا ورقة نفسه في موضع آخر؛ فيقول: (وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا).

وكان أبو سعيد الخدري يقول إذا رأى الشباب: (مرحبًا بوصية رسول الله صل الله عليه وسلم، أوصانا رسول الله صل الله عليه وسلم أن نوسع لكم في المجلس، وأن نفهمكم الحديث فإنكم خلوفنا، وأهل الحديث بعدنا) [رواه البيهقي].

ولنا في رسول الله صل الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، فهو الذي عقد لواء الجهاد ضد الروم بالشام في آخر حياته لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره؛ وهو أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

<!--الجينات وحدها لا تكفي:

فإن الصفات الجينية المكتشفة في الأشخاص ذوي الأهلية للقيادة لابد من صقلها بالتدريب والتعليم للمهارات المختلفة، خصوصًا مهارات التعامل مع النفس، ومهارات استخدام العقل لتحقيق الأهداف.

والتدريب يؤدي إلى تطوير المهارات والأساليب، بينما التعليم يؤدي إلى المعلومات والمعرفة واللذان يسهمان في بناء الفهم المطلوب لمواجهة تحديات الحياة.

والجينات هي العوامل الوراثية التي تحدد صفاتنا الجسدية والعقلية، ولكنها وحدها لا تكفي في بناء القائد. فالقيادة هي مهارة تتعلق بالشخصية والخبرة والتعلم، وتتطلب العديد من الصفات والمهارات الأخرى التي لا تختصرها الجينات.

على سبيل المثال، يمكن أن يكون لدى شخص بعض الصفات الوراثية المرتبطة بالقيادة، مثل الثقة بالنفس والعزيمة والتحمل، ولكن هذه الصفات وحدها لا تجعله قائداً ناجحاً. بل يحتاج القائد إلى تطوير مهارات الاتصال والإلهام والتحليل والتخطيط والتنظيم وغيرها من المهارات اللازمة لإدارة الفريق بنجاح.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الخبرة والتعلم الذاتي يلعبان دوراً حاسماً في بناء القائد، حيث يحتاج القائد إلى معرفة الثقافة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا وغيرها من المجالات التي تؤثر على العمل الإداري.

وبالتالي، لا يمكن الاعتماد على الجينات وحدها في بناء القائد، وإنما يجب تطوير المهارات والصفات اللازمة للقيادة من خلال التعلم والتدريب والخبرة، وهي الأشياء التي يمكن للفرد أن يتحكم فيها ويعمل على تحسينها من خلال الجهود الشخصية والتدريب المستمر.

<!--الواقع خير معلم:

  يعتبر الواقع هو أفضل معلم للقائد، حيث يتعلم القائد من خلال تجاربه وتحدياته وصعوباته التي يواجهها في ممارسة دوره الإداري والقيادي. ومن الأسباب التي تجعل الواقع هو أفضل معلم للقائد:

<!--الخبرة: يحتاج القائد إلى الخبرة العملية في مجال الإدارة والقيادة، وتكتسب هذه الخبرة من خلال التعامل مع التحديات والمشكلات والفرص في سياق العمل اليومي.

<!--التعلم المستمر: عندما يواجه القائد تحديات ومشكلات في العمل، يتعلم منها ويبحث عن الحلول الأمثل لهذه المشكلات، ويتمكن من تحسين مهاراته القيادية ومنع أخطاء مماثلة في المستقبل.

<!--تطوير القدرات: يتعلم القائد من خلال التعامل مع الناس والتفاعل معهم، ويتمكن من تطوير قدراته الاجتماعية والتواصلية والإدارية والقيادية بشكل أفضل.

<!--صنع القرارات: يساعد الواقع القائد على صنع القرارات المناسبة والفعالة، وتتعلم القائد من خلال تجاربه السابقة وتجارب الآخرين وصنع القرارات الصائبة والمناسبة للحالات المختلفة.

وبالتالي، يعتبر الواقع هو أفضل معلم للقائد، حيث يتعلم القائد من خلال تجربته العملية وتحدياته اليومية، ويتمكن من تطوير مهاراته وصنع القرارات الصائبة والفعالة في سياق العمل. يحتاج القادة بعد التدريب والتعليم إلى النزول إلى أرض الميدان والتعامل مع تحديات الحياة المختلفة، بحيث يكتسب الخبرة المطلوبة ويحصل على التدريب العملي المراد، والشباب عندما تعطيهم المسئوليات تطرد عن عقولهم وهم العقول المستريحة والشعور بالدونية.

لكن على القائمين على برامج صناعة القادة أن يدركوا أنهم لابد أن يعطوا هؤلاء الشباب الفرصة للتجربة مع احتمالات خطأ معتبرة؛ حتى تصقل خبراتهم وتشتد أعوادهم فهم قادة المستقبل الحقيقيين.

<!--التجربة خير دليل:

وخصوصًا إن مُنح قائد المستقبل حرية التجربة في سن مبكرة، فكما يقول "جون كوتر": (كان لدى القادة الذين قابلتهم حرية التجربة في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، ليخاطروا وليتعلموا من كلا النتيجتين؛ النجاح والفشل).

ويتعلم الواحد منا من كل التجارب التي مرت عليه، من التجارب الفاشلة قبل الناجحة، فتترك تلك التجارب الناجحة في نفس قائد المستقبل أثرًا طيبًا يدفعه للاستمرار، كما تخلف تلك التجارب الفاشلة في نفسه ألمًا معنويًّا يصقل شخصيته ويقويها ويدعم أركانها.

وهذا ما يوجزه لنا الشاعر حين يقول:

ألم تر أن العقل زين لأهله          ولكن تمام العقل طول التجارب

من سيحمل الراية بعدك؟!

وبعد أن عشنا معًا طوال هذه الرحلة الطويلة، رحلة صناعة القائد، وبعد أن صرت أيها المؤمن خبيرًا بمهارات القائد وصفاته، وسماته وركائزه، فاسمح لي عزيزي القائد، أن أهمس في أذنك بنصيحة غالية، لعلك بفطنتك قد اهتديت إليها في ثنايا العنوان السابق، إنه السؤال الأهم، الذي ينبغي لكل قائد أن يطرحه على نفسه دائمًا؛ من سيحمل الراية بعدي؟!

المصدر: د.أحمد السيد كردي
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 95 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,754,538

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters