بالرغم من أن العلاقات العامة الحديثة ولدت مع مطلع القرن العشرين فإنها كنشاط إعلامي وجهود تبذل للإقناع وحث الناس لاعتناق أفكار معينة والإتيان بتصريحات معينة وجدت حتى في المجتمعات البدائية وتطورت مع تطور تلك المجتمعات ومع أن مصطلح العلاقات العامة من المصطلحات الحديثة جداً والتي يختلف الكتّاب في تحديد تاريخ ظهوره فالمحاورات للتفاهم مع الآخرين والتأثير في آرائهم قديمة قدم البشرية نفسها ولكن الاختلاف هو في الوسائل المستخدمة وسعة النشاط في الزمن الحاضر عنه في الأزمنة القديمة .
ويمكن تقسيم التطور التاريخي للعلاقات العامة إلى قسمين رئيسيين:
<!--العلاقات العامة القديمة وتشمل النشاطات التي يمكن اعتبارها البذور الأولى لها والتي تمتد منذ وجود الإنسان البدائي حتى القرن التاسع عشر.
<!--العلاقات العامة الحديثة وهو النشاط والعلم الذي ولد مع مطلع القرن العشرين وتطور إلى ما هو عليه في وقتنا الحاضر .
1- العلاقات العامة القديمة:
<!--العلاقات العامة في العصور البدائية:
لقد كانت القبائل البدائية تحتاج إلى الإعلام للمحافظة على بقائها وذلك سواء في الحصول على مصادر الغذاء أو الوقوف في وجه الأعداء فكانت القبيلة تعيِّن من أجل ذلك حارساً على الأفق ينبئها عن كل ما يستجد فيه، فقد يلوح في الأفق قطيع من حيوانات الصيد أو غيوم تنذر بعاصفة شديدة أو عدو مغير عند ذلك تستعد القبيلة لمواجهة الموقف
كما أن القبيلة البدائية تكون في حاجة إلى التعاون والتماسك بين أفرادها وذلك لا يتم إلا عن طريق التفاهم بين هؤلاء الأفراد وإحساسهم بقوة الرابطة التي تربطهم ببعضهم، وكان ذلك يتم عن طريق الحفلات في مناسبات الزواج وبلوغ سن الرشد واحتفالات الانتصار على قبيلة معادية.
وكان رئيس القبيلة يجتمع بأفراد قبيلته للتداول في الشؤون، كما كان الرئيس يتولى الوجيه الإعلامي في القبيلة فينتهز المناسبات القبلية ليقدم توجيهاته والمبادئ التي يريد من أفراد القبيلة السير بموجبها ، وعدد وجود الحاجة إلى تعبئة الرأي العام في القبيلة كان رئيس القبيلة يعهد إلى شخص معروف في القبيلة جيداً كالساحر أو الطبيب بمهمة الإعلام كما موكل مهمة إثارة المشاعر إلى أشخاص يجيدون فنون التعبير والتأثير كالإنشاد والرقص وقرع الطبول .
ومن الواضح أن الاختلاق الأساسي لتلك النشاطات التي يمكن اعتبارها النواة الأولى للعلاقات العامة عن ممارسة النشاط اليوم هو اتجاهها آنذاك إلى غرائز القرد وإثارة انفعالاته كأسلوب للتأثير عليه، بينما تخاطب العلاقات العامة الحديثة عقل الفرد ووعيه، كما أن التعرف على اتجاهات الرأي كان يستند على الإحساس الفطري والتقدير الشخصي دون الأسس العلمية المستخدمة اليوم.
<!--العلاقات العامة في الحضارات القديمة :
لقد تقدمت أساليب ممارسة النشاط تقدماً كبيراً لدى القدماء في كل من حضارة وأدى الرافدين ووادي النيل في الشرق والحضارتين اليونانية والرومانية في الغرب .
فلقد وجد علماء الآثار في العراق نشرة زراعية يعود تاريخها إلى 1800 قبل الميلاد ترشد المزارعين إلى كيفية بذر بذورهم والتخلص من فئران الحقل ثم إلى كيفية حصاد محصولهم ولا يختلف هذا الجهد الإعلامي في جوهره عن النشرات التي تصدرها الدوائر المسؤولة عن الإرشاد الزراعي في البلدان المتقدمة اليوم.
كما كشفت لنا الآثار أن الآشوريين هم أول من ابتدع النشرات المصورة فكانوا يرقمون انتصاراتهم وبجانب الرقم يصورون بالألوان صور الأسرى من ملوك وأمراء ويعرضونها في قصورهم وساحاتهم العامة وشوارعهم الكبرى، فكانت تعمل عمل الملصقات والتماثيل في قصورهم وساحاتهم العامة وشوارعهم الكبرى، فكانت تعمل عمل الملصقات والتماثيل في يومنا هذا، وقد أثبت العلم الحديث أن الصور كثيراً ما تكون أشد تعبيراُ وتأثيراً من الكلمة المطبوعة، فيكون الآشوريون قد استخدموا هذا المبدأ منذ آلاف السنين، وكما تنشط العلاقات العامة في مجال الإعلام السياسي والدفاع عن النظم السياسية والمذاهب الاقتصادية والاجتماعية اليوم كذلك كان الأمر في زمن الإمبراطور آشور بانيبال فقد وجدت في خزانته في نينوى سجلات منسقة ومفصلة تحسب تواريخها وحوادثها وعلى الأخص كل ما له علاقة بحروب الملوك وفتوحاتهم وما شيدوه وعمروه ويرى المؤرخون أن تلك المعلومات كان الغرض منها هو الإعلام والترويح لمبادئ معينة كما تفعل محطات الإذاعات الرسمية اليوم التي تدعوا إلى مبادئ معينة وتروج لها.
أما قدماء المصريين فقد اهتموا بالسيطرة على أفكار الجمهور وتحريك مشاعره واتبعوا في ذلك شتى الأساليب منها ادعاء فرعون الألوهية وتقديس الكهنة وتشييد المعابد الفخمة والقبور الشاهقة على شكل الأهرامات ، كل ذلك من أجل إظهار هيبة الحكام وعظمتهم للتأثير على عقول الناس وأفكارهم ، وما الثروة الهائلة من الآثار الفرعونية في مصر إلا شاهداً على ذلك .
وكان الفراعنة ينشطون في ممارسة الإعلام خاصة في فترات الحروب لتعبئة المعنويات اللازمة لإحراز النصر، كما كانت النقوش على الحجارة والمعابد تشيد بالانتصارات الحربية للحكام وإنجازاتهم المختلفة ، أما في أوقات السلم فكان الإعلام ينشط للأغراض الدينية والاجتماعية، فقد استخدمت أوراق البردي في النشرات التي كان يصدرها فرعون مصر وأمراؤه لمحاربة أشياء ضارة والإشارة بأفكار أخرى يريد الحكام نشرها بين الناس.
وتمتاز الحضارة اليونانية بالاهتمام بالرأي العام وتطويرها لأساليب بلورة الرأي العام والتأثير فيه ، فحكومة المدينة اليونانية كانت تستمد سلطتها من رضا المحكومين لذلك كانت تفسح المجال لتبادل الآراء والمناقشة الحرة التي يندفع للمساهمة فيها جميع المواطنين ، واستخدم اليونانيون السفسطائيين وهو عبارة عن أشخاص يحترفون الإقناع ، فهؤلاء يدرسون فنون الكتابة والخطابة وتفنوها إتقاناً يجعل قدرتهم الإقناعية متفوقة بحيث يسهل عليهم دحر من يقف أمامهم موقف الخصم وكان لهؤلاء السفسطائيين والعسكريون ويستخدمونهم للدفاع عن قضايا معينة أمام الجمهور والإقناع بقوة الحجة والمنطق كما يفعل اليوم رجال العلاقات العامة في المؤسسة.
أما بالنسبة للرومان فقد تطورت أساليب التأثير في الرأي في عصرهُم أيضاً، فظهر خطباء مشهورين في التاريخ أمثال سيسرو ومارك أنطونيو، واعترف الرومان بإدارة الجماعة قشوا على واجهة مجلس شيوخهم عبارة " مجلس الشيوخ والشعب الروماني " كما وضعوا بعد المسيحية شعار " صوت الشعب من صوت الله " .
ولم يقتصر النشاط الإعلامي في الحضارة الرومانية على الميدان السياسي بل تعداه إلى النواحي الاجتماعية فهناك قصائد كثيرة للشاعر الروماني فرجيل موجهة إلى الفلاحين تحثهم على العودة إلى المزارع وزيادة الإنتاج الزراعي لمواجهة زيادة السكان ، وهي أشبه ما تكون النداءات التي توجهها مختلف الهيئات في عصرنا الحالي ولكنها مصاغة بأسلوب أدبي رفيع .
ثم جاءت القرون الوسطى وترددت المجتمعات في ظلمات الجهل والانحلال فلم يكن هناك مجال لتطور العلاقات العامة غير أنها نشطت مرة أخرى عند ظهور المذهب البروتستانتي والتبشير به وما صاحب ذلك من دفاع عن المذهب الكاثوليكي .
2- العلاقات العامة الحديثة :
بالرغم من أن جذور العلاقات العامة تمتد بعيداً في الماضي إلا أنه من الممكن القول أن العلاقات العامة الحديثة تنشأت في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين ولكن هذا لا يعني بالطبع أنها ولدت بين عشية وضحاها وإنما كان هناك أنواع من النشاطات التي سبقتها ومهدت لها، أهمها وكالات المؤسسة لشؤون الصحافة والنشاط الإتصالي المرافق للحملات الانتخابية وحملات جمع التبرعات وغيرها، ولكن المصدر الذي كان له النصيب الأكبر في مولد العلاقات العامة هي المؤسسات الصناعية والتجارية
فقد كانت الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر فترة تطور سريع في ميدان الصناعة والإنتاج الضخم وما صاحب ذلك من استغلال للفرد العامل والمستهلك حتى هذه الفترة سميت بعض الاستخفاف بالجماهير، وكان لابد أن تؤدي هذه الأوضاع إلى التذمر والاحتجاج الذي يعقبه الإصلاح وهذا ما قد كان.
فقد قام عدد من الصحف والمجلات الواسعة الانتشار بنشر مقالات متتابعة في مهاجمة أصحاب الأعمال الاحتكاريين وأساليبهم في استغلال عمالهم وحملة أسهم شركاتهم وسرقة المستهلك وتأثيرهم على رجال السياسة بشتى الوسائل المشينة .
وكانت إحدى نتائج هذه الحملة أن المؤسسات المعينة اضطرت إلى القيام ببعض الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ، وبذلك اقترنت حركة الإصلاح تلك بدور الصحافة والنشر وأدى ذلك إلى مولد العلاقات العامة، فعندما بلغت موجة السخط الشعبي قمتها على أثر حوادث إضرابات عمالية سالت فيها الدماء وكان للصحافة النصيب الأكبر في التعبير عن وجهات النظر المعادية لأصحاب رؤوس الأموال أدرك هؤلاء حراجة مراكزهم والتجئوا إلى استخدام الصحفيين المحترفين لشرح وجهة نظرهم وإيصالها إلى الجمهور، غير أن معظم هؤلاء لم تكن لديهم القدرة على فهم الأسباب الحقيقية وراء ذلك الصراع فعجزوا عن معالجة الأمور عدا قلة منهم في هذا المجال وفي مقدمتهم (أيفي لي) الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للعلاقات العامة الحديثة .
أيفي لي:
وكان أول من نادى به أيفي لي هو نصحه للمؤسسات التجارية الكبيرة أن تبتعد عن السرية وتكشف للجمهور كل ما يتعلق بأعمالها عدا الأسرار الصناعية وقد عمل مع عدد من المؤسسات الكبيرة ولمع اسمه لنجاحه في تقديم المشورة التي أدت إلى أحسن النتائج في تحسين علاقات تلك المؤسسات بالجمهور.
ساهم أيفي لي بنصيب أكبر في وضع مبادئ العلاقات العامة وتطوير أساليبها المتبعة حالياً فكان من الأوائل الذين أدركوا بأن الدعاية للمؤسسة لا تجدي ما لم تدعمها الأفعال كما أنه دعا المؤسسات إلى تبني النزعة الإنسانية، ومن أقواله المأثورة في هذا السبيل " إني أحاول أن أترجم الدولارات والسنتات والأسهم والأرباح إلى لغة إنسانية ".
وكان أبرز نجاح له في هذا الميدان هو تغيير الصورة التي ارتسمت في ذهن الجمهور عن جون روكفلر المليونير المعروف من رأسمالي جشع وإظهاره كمواطن عطوف ومحسن كبير.
وقد أوضح أيفي لي أن مهمة العلاقات العامة مهمة مزدوجة فهي تبدأ بدراسة الرأي العام واستطلاع رغبات الجماهير لرسم سياسة المؤسسة أو تعديلها على ضوء ذلك ثم إعلام الجماهير بأمانة ودقة عما تقوم به المؤسسة من أعمال وما تتخذه من سياسات .
كما أكد أيفي لي على ضرورة معاملة المستخدمين والعمال في المؤسسة معاملة إنسانية مرضية ومنحهم الأجور المجزية وبذلك يتوفر ركن هام وهو العلاقات الداخلية السليمة ينبغي رعاية مصالح جمهور المستهلكين والموزعين وغيرهم لضمان وكن آخر وهو العلاقات الخارجية السليمة .
ويعتبر أيفي لي أول خبير للعلاقات العامة استعمل الإعلان لغرض الإعلام وليس للدعاية أو الترويج للسلع والمنتجات ، ففي أثناء إضراب عمال إحدى الشركات نشر أيفي لي في جميع الصحف إعلاناً يشغل صفحة كاملة مبيناً فيه موقف لشركة من العمال ووجهة نظرها في الإضراب وكان ذلك أول مرة يستعمل فيها الإعلان ليس لترويج سلعة وإنما لشرح وجهة نظر مؤسسة ، وهذه وظيفة الإعلان في العلاقات العامة الحديثة .
كما كان للحرب العالمية الثانية أثر كبير في تطوير العلاقات العامة حيث خصصت الدول المتحاربة الميزانيات الضخمة وجذب الكفاءات الممتازة لأغراض العلاقات العامة مما أدى إلى تقدم أساليبها وتدعيمها كعلم وكنشاط دائم للمؤسسات .
ظهور ادورد بيرنيز Edward Bernays :
جنباً إلى جنب مع خبير العلاقات العامة أيفي لي ، فقد ظهر في العشرينيات ادورد بيرنيز كرائد من رواد العلاقات العامة الحديثة، كان قبل الحرب العالمية الأولى يعمل وكيلاً صحافياً Press Agent ثم التحق عضواً للجنة جورج كربل أثناء الحرب وكان مهتماً بدراسة الرأي العام ، وفي 1923 نشر أول كتاب في العلاقات العامة بعنوان بلورة الرأي العام Crystallizing Public Opinion وفي نفس العام قام بتدريس أول مساق في العلاقات العامة بجامعة نيويورك .
ولقد لخص بيرنيز نشاط العلاقات العامة في فترة السلام ما بين الحربين بقوله : " لقد طبقت في البداية الأمر تلك الأسباب التي استعملت في الحرب العالمية الأولى، وذلك لتنظيم العلاقات العامة للجامعات والكليات والمستشفيات ، وبعد ذلك طبقت في نواحي النشاط الاقتصادي كشركة جنرال موتورز وشركة جنرال الكتريك والشركة الأمريكية للتلفون والتلغرافA.T&T واتسعت مجالات الإعلام اتساعاً كبيراً حتى شملت الميادين المحلية وتعدتها إلى الميادين العالمية ، ثم اعترفت المؤسسات الصناعية بأهمية العلاقات العامة، وأصبحت المؤسسات ومعهد الأبحاث والمعامل الخاصة والعامة تهتم بالإعلام اهتماماً كبيراً . وقد شهد هذا العصر بداية المكاتب الخاصة بالعلاقات العامة، وهذه العوامل جميعها هي التي أدت إلى تقدم فنون العلاقات العامة وفلسفتها، فقد كان الاتجاه الجديد يقول: إن المصلحة الخاصة ينبغي أن تلتقي مع المصلحة العامة، وإن هذا التلاقي الخير هو أهم وظائف العلاقات العامة .. "
ولقد كتب بيرنيز عدة كتب بعد كتابه الأول الذي نشر في عام 1923 فصدر له في عام 1928 كتاب " الدعاية والعلاقات العامة " ثم كتاب " هندسة الإقناع " في عام 1955 ، وفي عام 1961 أصدر بيرنيز كتاباً للمشتغلين بمهمة العلاقات العامة تحت عنوان " مستقبلك في العلاقات العامة " ، وفي نهاية المطاف صدر في عام 1965 ولخص فيه رحلته الطويلة مع مهنة العلاقات العامة .
العلاقات العامة في التراث العربي
العلاقات العامة كفلسفة ترتبط بوجود الإنسان العربي وطبيعة حياته المرتبطة بالصحراء المترامية الأطراف التي لا تخفى شيئاً والتي طبعت ساكنيها على الحرية والصراحة في التعبير عما في نفوسهم ولو كان في ذلك شقاؤهم كما في حالة الشعراء الذين كانوا يلاقون الاضطهاد بسبب أشعارهم ، وكان العربي حراً حرية لا تجدها سوى بعض القيود من التقاليد ولم تكن القبيلة ولا شيخها يتدخلان في حرية الفرد .
بسبب طبيعة حياتهم تلك كان العرب يخلقون المناسبات للاجتماع وتداول الأخبار وتبادل الأفكار لربط بيئتهم الشاسعة بأواصر إعلامية ، ومن ذلك الحج إلى الكعبة في موسم معين والأسواق الأدبية التي كان يجتمع فيها الناس للاستماع إلى الشعراء وإجراء المناقشات التي تؤدي إلى التعارف والتقارب بين الفئات والقبائل المختلفة .
وقد لعب الشعر والشعراء دوراً هاماً إعلامياً في تاريخ العرب ، حيث تعتبر الأشعار السجل الذي دون فيه تاريخهم وما دار فيه من أحداث وما كان موجوداُ في مجتمعهم من عادات وتقاليد ، وكان للشاعر وظائف إعلامية واضحة فهو الذي يثير الحماس في نفوس المقاتلين ويدفعهم إلى الاستبدال في الحرب وهو لسان القبيلة والمدافع عنها يشيد بمآثرهم ويمتدح أبناءها ويهاجم أعدائها ويسلط الأضواء على عيونهم .