عرف الإسلام منذ فجر تاريخه الشرطة ودورها فى تنظيم المجتمع وبحث قضاياه، وأول من قام بهذا الدور الفاروق عمر بن الخطاب، حينما تفقد أحوال الرعية سراً، وسمع تلك الفتاة التى رفضت الإذعان لوالدتها التى أرادت منها أن تمزج اللبن بالماء لزيادته حتى تبيعه فى السوق قائلة: إن عمر يمنع ذلك ويقول: من غشنا فليس منا، فردتها الأم، ولكن عمر لا يرانا الآن فعاجلتها الفتاة: ولكن رب عمر يرانا، وهو لا يغفل ولا ينام، هنا سمع هذا الحديث الفاروق عمر وذهب فى طريقة وطلب إحضارها بعد ذلك قائلا: هذه الفتاة ستنجب ذرية صالحة فأصبحت أم خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموى مجدد المائة الأولى فى التاريخ الإسلامى.

امتزجت الشرطة أو الحراسة فى قصور الخلافة وبلاطها، وكان دورها بارزاً فى التصدى لقضايا عديدة فى تحقيق المصالحات، وصيانة المال العام والخاص وعرفت فيما بعد بالعسس الذى يجول ويصول ويتحرى من أجل المصلحة العامة.

وسجلت الشرطة للمصريين سجلاً حافلاً فى حماية الحقوق والمكتسبات، فأمنت نقل خطوط السكك الحديدية فى طول البلاد وعرضها وقيام الكبارى ووقفت مع الشعب فى كل الظروف والمحن.

ففى 25 يناير 1951 تصدت الشرطة للاحتلال عند الإسماعيلية وانضمت للشعب فى صد تلك الغارات الشرسة، وهو ما عرف بعيد الشرطة حتى يومنا هذا.

وتعاظم دور الشرطة مع قيام ثورة يوليو 1952 لحماية الوطن من الداخل والتصدى للخارجين على القانون، فقبل ثورة يوليو كان العمدة أو الباشا يشكل قسم شرطة فى دواره بنفسه، وقد تباين الحق فى ذلك وفق هواه وهوى من حوله، وحدث بذلك ازدواجية فى المعايير مازالت الأعمال السينمائية شاهد عيان على ذلك حتى الآن، فى تلك الحقبة الهامة ومع حكم الشعب المصرى نفسه بنفسه زالت الباشوية والعموديات المتغطرسة، وحلت الشرطة بكامل دورها فى أقسام ومراكز ونقاط.

استمر الدور فى عهود تلت حتى رأينا مظاهرات الأمن المركزى عام 1985 والمطالبة بحقوق مشروعة لهم، وعلى طول التاريخ عرف الشعب المصرى القلم السياسى الذى تطور إلى أمن الدولة ثم الأمن الوطنى حالياً.

والحياة بين الشرطة والشعب اتسمت بالمد والجزر حتى وقتنا هذا، ولكن لا يمكن أن يستقيم الحال سوى برجال الشرطة الذين يعرفون الحق ويطبقون صريح القانون، وحسناً فقد عاد شعار الشرطة فى خدمة الشعب.

لا يمكن بأى حال أن تستقيم الأمور بغير الشرطة حتى لا تصبح الدنيا غابة القوى فيها يأكل الضعيف، والعدالة لا تستقيم سوى بجهاز شرطة قوى وأمين على هذا الشعب ومحامين شرفاء يقدمون الأدلة والبراهين لصالح المتهم حتى يتسنى لمنصة القضاء أن تقيم عدل الله فى الأرض وليس عدل البشر.

إن الانفلات الأمنى الذى حدث جراء الانسحاب المفاجئ لرجال الشرطة فى الأيام الأولى للثورة المصرية فى 25 يناير أصاب المجتمع كله بالخوف والهلع، وانتهز الفرصة ضعاف النفوس الذين عاثوا فى الأرض مفسدين؛ سرقة ونهب وقتل وخطف مثيرين الذعر وعدم الأمان على النفس والمال والولد، حتى تدخل الجيش وحاصر تلك الموبقات وهذا مشهد حدث فى تونس أعقاب هروب بن على، فأحوال الدول العربية متشابهة.

إن نزول الشرطة إلى الشوارع وعودتهم إلى مقار عملهم ساهم فى كثير من الأمن والطمأنينة للبلاد، ونظم الشوارع من الناحية المرورية وبعث الأمل فى سيولة تنظيمية للحياة اليومية التى نحياها.. لقد صفق الشارع لهروب الشرطة واختفائها وصفق لعودتها بنفس الحرارة متمنين أن يصبح هذا عهداً جديداً من الإخلاص بين الشعب والشرطة، ولا يستطيع أحد أن ينكر إخلاص كثير من هؤلاء الرجال؛ عندما تصدى اللواء محمد عباس البطران رئيس مباحث مصلحة السجون للانفلات الأمنى بسجون الفيوم متصديا للبلطجية بصدره الذى تلقى رصاصات الغدر والخيانة مستشهداً فى ساحة الحرية ضاربا المثل الأعلى فى البطولة والفداء فتم تكريمه بمسقط رأسه وأطلق اسمه على أكبر شوارع منطقة الهرم (زغلول).

إن عودة الشرطة بشكل كبير ساهم فى إلقاء القبض على الجناة مختطفى ابنه عفت السادات بعد ساعات من خطفها وإعادتها إلى أحضان أسرتها، كما أنه تم إلقاء القبض على قتلة مصمم الأزياء محمد داغر بالجيزة بعد ساعات أيضا، وهذا ما يبعث الأمل فى النفوس ويقلص حجم الجريمة ويحاصرها إلى الشكل الطبيعى، لقد أدى الشعب المصرى رسالة الشرطة آناء الثورة بتشكيل لجان شعبية فى خدمة الوطن والمواطن مؤدية دوراً رائداً لا يمكن إغفاله أو تجاهله، فرأينا الأطفال والكبار من الرجال والنساء يزودون عن الوطن فى تلك المهمة التى تمت بنجاح، ولكن الشعب وراءه ما يشغله فى العمل والبيت ولا يمكن أن تسير الأمور بما كان يحدث ولكنها ظروف طارئة أدى المواطن ما عليه تجاه وطنه لوقت محدد ولا يمكن استمراره.

وما نتمناه من الشرطة أن يعاملوا هذا الشعب، كما يتم فى الغرب، فقد خالف مصرى إشارة المرور فى " دابلن" عاصمة أيرلندا وأتته المخالفة على منزله وطلب حضور لقسم البوليس فعندما ذهب استقبلوه وأجلسوه وأحضروا له مترجماً وطبيبا للكشف عليه حتى يتمكن من الإدلاء بأقواله بكل حرية وديمقراطية، وتناول كوب القهوة، هذا ما نرجوه وما يحدث فى البلاد المتقدمة، أما السطوة المفاجئة التى أصابت الشعب المصرى من المباحث العامة فى الأقسام وغيرها وغطرسة جهاز أمن الدولة الذى تغلغل فى الكيان المصرى ما حمل ضغائن وكراهية هذا الشعب لهذا الجهاز، فبدت الشماتة فى وجه المصريين إزاء ما يحدث لهم وما حدث، والشعب المصرى طيب القلب بطبعه ويتجاوز المحن ولكن مع عصر جديد وفكر رائد يقضى على سلبيات الشرطة وجبروتها والظلم الذى تعرض له بعض المواطنين.

إن ما حدث فى مباراة الزمالك والأفريقى التونسى أكبر دليل على غياب الشرطة وعدم العودة بكامل طاقتها وبسلطتها المنوط بها حماية هذا الشعب ضد القلة المغرضة وساءت صورة مصر والمصريين أمام العالم كله على هذا المشهد الذى أسفنا له جميعاً.. ونتمنى ألا نراه مرة ثانية حتى لا يفقد غيرنا الثقة فينا وتخشى الدول على رعاياها منا وسائحيها لأن البلد التى بلا أمن ولا أمان لا خير فيها والمعروف عن مصر أنها بلد الأمان "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، وقال رسولنا الكريم _ صلى الله عليه وسلم _: عليكم بمصر فإن لكم فيها خئولة وصهراً".. لا أحد يستطيع أن ينكر أن جهاز الرقابة والتفتيش بوزارة الداخلية يحقق فى أى شكوى ترد إليه، مهما كان المسئول عنها، ونطالب بتفعيل أكبر لدور هذا الجهاز الحيوى فى تلك الفترة حتى تعود الثقة بين الشرطة والشعب أو الشعب والشرطة.

إن القانون لا يستقيم بلا شرطة تحافظ عليه، فهو المنظم للحياة التى نحياها ولا نريدها غابة سوداء كثيفة الأغصان يأكل فيها القوى الضعيف نريدها دولة ديمقراطية يأخذ كل مواطن حقه، فالقانون عبارة عن حقوق وواجبات.

فى كل بلاد الدنيا هناك قلة من ضعاف النفوس تحاول أن تحصل على مزايا ليست لها بدون عمل منتهكة روح القانون ويجدون فى الانفلات الأمنى تربة خصبة لنشر سمومهم فيصيبون المجتمع بآثامهم ومهما كان الخلاف على الشرطة فيأمن المواطن على نفسه حتى لو ذهب خطأ للقسم أو الجهة عكس ما قد يلقاه فى جهة خاطفة له إلى المجهول قد لا يعلم مصيره ومصير أولاده وأسرته.. أدام الله علينا نعمة الأمن والأمان.

المصدر: حمدي خليفة/ نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب
  • Currently 252571/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
49 تصويتات / 2265 مشاهدة

ساحة النقاش

WafaaFarag
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

452,464