منذ سنوات ولم يكن يشغل قطاعات عديدة من المجتمع المصري سوى البحث عن لقمة العيش، وأقصد هنا العيش يوم بيوم دون أي تخطيط لمستقبل يراه الكثيرون غامضاً ..
فكنا نسمع عدة جمل تتردد دوماً دون أن يفكر أي منا فيما تحمله من معاني وماذا نفعل حيالها، من أمثلة: " ازاي هنربي ولادنا في الأيام الجاية.. ياترى عيالنا لما يكبروا هيلاقوا شقق يسكنوها.. الواحد زي اللي بيلف في ساقية عشان يجيب قوت عياله"... وهكذا.
لم يفكر أي من ولاة الأمر فيما وصل إليه حال هذا الشعب، وظلت الفجوة تزداد اتساعاً بين طبقتين؛ طبقة تستحوذ على كل شيئ " نفوذ، مال، أعمال، شركات، منتجعات، فيلل، سيارات فارهة، تعليم في الخارج، علاج على نفقة الدولة، أراضي الدولة وملكيات عامة"، وطبقة أخرى معدمة لا تطمح حتى إلى حياة نصف كريمة..
وظل الوضع على ما هو عليه؛ شعب مستكين بائس لا يرى أي أمل في التغيير في ظل نظام وضع أسس وقوانين تخدم في مجملها من هم في منظومة السلطة والآخرين من أصحاب رأس المال، بالإضافة إلى تصريحات جوفاء من وجوه مألوفة جداً عن التغيير وتحسين المعيشة والإصلاح وما إلى ذلك، وتتوالي الشهور والسنوات دون أي تنفيذ لذلك على أرض الواقع، حتى صرنا نحفظ تلك التصريحات وتلك الوجوه عن ظهر قلب وعلى أتم الاستعداد للتنبؤ بما ستكتبه صحف اليوم التالي من تصريحاتهم حول عبارة غارقة بها مئات المواطنين أو هروب أحد رجال الأعمال بأموال الشعب، أو انهيار عمارة على ساكنيها بسبب الرشاوي التي تقاضاها مهندس تراخيص في أحد الأحياء.
ومع مرور الوقت مات لدينا أي أمل في تغيير الوضع الحالي.. إلى أن صرنا لا نتحدث إلا عن أحوال الجو وعدم استقرار الطقس ونضحك على أفلام تافهة لمحاولة التخلص من مرارة العيش، ووصلنا لمرحلة أن أصبح الشغل الشاغل لأحاديثنا هو أحداث مباراة كرة قدم بين فريقين في الدوري، وأصبح لا مجال للاستماع للأغنيات الوطنية إلا عند فوز المنتخب القومي لكرة القدم بإحدى البطولات، حتى اختزل معنى الوطنية في بطولة رياضية ومباراة كروية وفقط!
ولكن لاح الأمل في إمكانية التغيير عقب اندلاع الثورة التونسية، ولا ننكر أننا كمصريين وكشعوب عربية تفاعلنا معها ومع أحداثها، وظللنا لأيام نتابع بشغف أخبارها وصرنا نحسد هذا الشعب العربي على شجاعته في التعبير عن نفسه وعن مطالبه، وهذه الثورة بالمناسبة لم تكن مخططة أو تم الإعلان عن موعد سابق لها، بل هي نتاج طبيعي لتفاعل شعب مع موقف شاب أحرق نفسه من جراء الظلم الذي تعرض له على يد أجهزة الأمن في بلده بعد أن حاربوه في " لقمة عيشه" فلم يجد أمامه إلا أن يقتل نفسه لينتهي من هذا العذاب الذي يعيش فيه مع الملايين من أخوانه التونسيين، فهبوا هؤلاء تعبيراً عن سخطهم من القمع والكبت الذي يتعرضون له على يد نظام يدعي الديمقراطية وهو أبعد ما يكون عنها.
في مصر وفي ذات الوقت توالت الدعوات على الصفحات الإلكترونية إلى التظاهر يوم 25 يناير 2011 من أجل المطالبة بحقوق ديمقراطية مشروعة، دون وجود أي قوى سياسية محركة لها، فقد انطلقت تلك الدعوات من أفراد عاديين غير مسيسين، ولاقت استحساناً من عدد لا بأس به من أفراد الشعب المصري ولا سيما الشباب.
ولكن وعلى جانب آخر استقبلت مع شباب آخرين تلك الدعوات بمزيد من الاستخفاف، لكوننا شبه متأكدين من أن التغيير بعيد عنا، وظناً منا بعدم جدية هؤلاء الداعين في إحداث تغيير حقيقي في المجتمع، فقد كانت في رأيي مجرد رغبة في التقليد للثورة التونسية لنبثت أننا لا زلنا موجودين.
وكنت أستند على أنه قد تم تنفيذ عدد من التظاهرات والاحتجاجات من قطاعات وجهات مختلفة من الشعب المصري على مدار السنوات الخمس الأخيرة، من أجل تحقيق الكثير من المطالب المشروعة لأصحاب تلك الوقفات، والتي لم يتم الاستجابة لمعظمها، حتى بات مشهد الوقفات الاحتجاجية مشهداً عادياً نمر عليه في الشارع أو على شاشات التليفزيون مرور الكرام.
وجاء اليوم – أقصد 25 يناير 2011- وخرج العديد ممن قالوا أنهم سيشاركون في الاحتجاجات في هذا اليوم، وكانت الحياة في مصر لا تزال تسير بشكل طبيعي، وتوالت الأيام 26 يناير، و27 يناير، ولا تزال التظاهرات مستمرة، والمسئولين يؤكدون على كون تلك المظاهرات لن تنتهي بالضرورة بتكرار النموذج التونسي.
وبالمناسبة فهؤلاء الذين دعوا لتلك التظاهرات منذ البدابة لم تكن لهم في يوم من الأيام اتجاهات سياسية، بل هم خرجوا فقط لقول لا للفساد والظلم، لم يكن لهم من هدف سوى السعي لإيقاظ المسئولين لتوفير حياة كريمة لهم ولأولادهم في وطن أفضل يعيشون فيه.
استمر الشباب على موقفهم وأثبتوا جديتهم في مطالبهم، وفي يوم 28 يناير 2011 الذي نعتبره جميعاً هو نقطة التحول في تلك التظاهرات أو اليوم الحقيقي لتفجر الثورة، في هذا اليوم الذي أطلق عليه "جمعة الغضب" انطلقت المسيرات بعد صلاة الجمعة لتجوب كل شوارع مصر، وبدأ تعامل الجهاز الأمني بمنتهى الغباء مع المتظاهرين باعتبار أنه بذلك "يلم المسألة" وهو عن جهل لا يعلم أن ثورة الاتصالات والمعلومات لم تعد تترك أي جريمة تقع دون أن تكشفها وتفضح مرتكبها، كان هذا الجهاز والمسئولين عنه يظنون أن جريمتهم ضد أبناء هذا الشعب ستظل خافية، مع أنها حدثت على مرأى ومسمع من أبناء الوطن كله، فظنوا أننا قد ماتت فينا المشاعر والنخوة ولن نهب أكثر شراسة بعد أن نرى بأعيننا أخوتنا وأصدقائنا وهو يسحقون تحت عجلات سيارات الأمن، أو بالرصاص الحي في صدورهم لمجرد تعبيرهم بشكل سلمي ومشروع عن مطالبهم.
لقد استطاع هذا الجهاز الأمني ومن وراؤه بهذه الفعلة إثبات أن الاستمرار في الثورة هو الحل أمام هؤلاء الشباب الذين فقدوا الكثير من أخوانهم وأصدقائهم، وعند هذه النقطة لم تعد الحياة فارقة معهم، فليموتوا شرفاء كما مات الآخرين، كما بات كثير منهم يؤمن أن استمرار الوضع على ما هو عليه الآن هو أمر غير وارد، وأن من بلغ منتصف الطريق فلابد له أن يكمله إلى النهاية شئنا أم أبينا.
ساحة النقاش