فتنة الانتصار
إن التعاليم الحكيمة، والإرشادات القويمة، والنصائح العظيمة التي أرشد بها الرسول " صلى الله عليه وسلم" أمته في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»؛ منهج تشريعيٌ عظيمٌ، لابد
للأمة أن تسير على وَفقِه حتى تنجح.
ولقد عدد الله في كتابه الكريم أوصاف المؤمنين، ونعتهم بنعوت كريمة، ووصفهم بأوصاف جميلة.. إخوة متراحمون متحابون، وأودع في قلوبهم الرحمة والرأفة.
ومعلوم أن حفظ النفس من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة لحفظها، ولأجل هذا حمى الإسلام النفوس، وصانها بسياج متين، وحصن حصين، وحرم الاعتداء عليها، إلا بالحق، وجعله من أكبر المحرمات، وأعظم الموبقات، وقرن قتل النفس
بالشرك بالله، فالتمسك بكتاب الله والاجتماع على ما فيه من الصلاح والعمل بمقتضى فقه الائتلاف، والتنازل والبعد عن الشقاق والاختلاف؛ أهم أسباب النصر العاجل والآجل، وإذا تأملنا واقع الأمة اليوم، وما تمر به من المحن والابتلاء، والتنازع وإراقة
الدماء، بحجة الانتصار وتطبيق شرع الله، وجدنا أن الأعداء يؤججون هذا الصراع، وهم من يحصدون نتائجه، والمسلمون لا يحصدون سوى الخيبة والفشل.. ولاشك أن الإسلام قد رسم للأمة طريق وحدتها واجتماعها، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ
الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(آل عمران:103).
ولتأخر النصر أسبابٌ.. وعدم الأخذ بالأسباب سبب من الأسباب، وكذلك وجود بعض الموانع؛ مثل الظلم والمعاصي والانحراف في المنهج، وتكريس الحزبية، وتفريق كلمة المسلمين، وتنافر القلوب، وعدم النضوج.. فهذه أبرز أسباب تأخر النصر
الظاهر. ومن المعلوم أن الطريق إلى المستقبل المأمول ليس مفروشا بالأزهار والورود، بل هو مفروش بالأشواك والآلام، وإن التصارع والشقاق الذي يلجأ إليه بعض المسلمين عند الاختلاف والتنازع، من أظهر أسباب العجز وتخلف النصر، كما أن
البغي والتنافس على الدنيا ورئاستها، والوجاهة وسائر الشهوات، والتعصب المذموم للأسماء والأشخاص، من أعظم أسباب الهزيمة والتخلف، ومن تأمل التاريخ عرف هذا، بل إن هناك جهودا خفية مستمرة منذ زمن طويل تُبذل لتفريق المسلمين وتفريغ
قوتهم، والقضاء على حضارتهم الأصيلة.. وإن من المعلوم أن الأفكار والانتماءات الدخيلة قد فتكت بالأمة، وزرعت فيها المشاعر العصبية والأنانية الاجتماعية.
إن لنا بعد هذا أن نتساءل: كيف استعدت الأمة لتحقيق الانتصار المطلوب في جميع مجالات الحياة؟ نعم. لقد قامت بجهد كبير تبدو آثاره على الساحة في بعض المجالات، لكنها في المقابل أبطأت كثيرًا في بعضها الآخر؛ ظنًا منها أنها أصبحت ناضجة،
لكن.. هل هذا هو الجهد المطلوب؟ لاشك أن دون انتصارنا الواجب عقبات كثيرة لابد من إزالتها، وجُهدا عظيما يلزمنا القيام به، وأول لَبِنات الجُهد المبذول أن يعُالج الناس أخطاءهم، ويصلحوا عيوبهم، ولذلك فإن المسلمين حين لم يغيروا واقعهم بإرادة
صلبة نحو مستقبل أفضل، كانوا هم السبب أولا وآخرا؛ قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: