محمد خاتم النبيين والتخطيط الإنساني في رسالة الإسلام
من الناس من لا يبلغ علمه ولا إدراكه درجة تمكنه من تقدير عظمة محمد بن عبد الله صلوات الله عليه من أبناء العرب وغير العرب، ومن المسلمين وغير المسلمين، وسنحاول بمقدار جهدنا الذي يتصاغر أمام هذه العظمة أن نبين جانبًا من جوانبها.
ولا بد لنا حتى نستطيع إدراك جزء من هذه العظمة ومعرفة شيء من آثارها في تطور البشرية وتقدمها وحضارتها، لا بد لنا من الإلمام بآثار الحضارة وخطوطها الكبرى وينابيعها المختلفة من دينية وغير دينية.
اليهودية:
أما اليهودية فقد جاءت بعقيدة التوحيد وسرعان ما شوهتها شوائب الوثنية، وبعقيدة النبوات، وسرعان ما حيكت حولها قصص دست في التوراة، فجعلت من سيرة الأنبياء سيرة لأقبح النماذج البشرية سلوكًا وسيرة، فلم تقدم اليهودية للبشرية أي لون من ألوان الحضارة، ولم يكن لها أثر في تقدم الفكر والأخلاق؛ ولاسيما أنها كانت محصورة ببني إسرائيل، ولا يعتقد اليهود أنها جاءت لتنشر بين الناس أو أنها لتكون دعوة عامة.
المسيحية:
أما المسيحية فقد جاءت -إضافة إلى ما جاء في اليهودية وتوراتها من عقدة ونبوات- بتعاليم خلُقية لها صفة إنسانية، وقد انتشرت في رقعة من الأرض ممتدة بعض الامتداد ودانت بها بعض الشعوب، فأفادت بدعوتها الخلقية وما احتوته من مبادئ دينية؛ ولكن:
لم تكشف فيها النظرة العامة إلى الوجود إلى الله والكون والإنسان كشفًا يرقى بالفكر الإنساني وتصوراته إلى درجة تناسب ما يصبو إليه البشر من الرقي العقلي؛ بل بقيت الحقيقة الإلهية كما هي في اليهودية في العهد القديم (التوراة) مصطبغة بصبغة مادية ومشوبة بالتشابيه البشرية الداعية إلى التجسيم، فلم ترقَ بالعقيدة الإلهية إلى المستوى اللائق بالفكر الراقي، هذا إضافة إلى عقيدة التثليث التي طرأت عليها فشوهت حقيقة التوحيد وصفة التنزيه.
لم تأتِ المسيحية بتشريع جديد؛ بل أقرت التشريع اليهودي؛ ولذلك لم تقدم للمجتمع البشري الآخذ في الارتقاء والسائر نحو التعقيد وظهور المؤسسات الاجتماعية ومشكلاتها الكثيرة أي تخطيط جديد، ولم ترسم له اتجاهات جديدة يسير في تطوره في خطوطها المرسومة، ولم تحدد له معالم واضحة لتنظيمه الاجتماعي، وأهدافًا لتطوره، وحدودًا فاصلة لمشكلاته، بل اكتفت بالتوجيه الأخلاقي العام.
الفلسفة اليونانية
أما فلاسفة اليونان فقد قدموا للناس آراء ونظريات في الطبيعة، وما وراء الطبيعة، وفي الأخلاق والمجتمع؛ ولكن هذه النظريات على تعدد ألوانها من الإلهية إلى الريبية، ومن التقشف إلى اللذة، لم تترك أي أثر عام في المجتمع الإنساني، بل اقتصرت على نظريات يتنافس بها الخاصة في حلقاتهم، فلم تكن سببًا في تغيير المجتمع ولا في إحداث ثورات شعبية، ولا كانت أساسًا لقيام حضارة ذات أهداف إنسانية عرفت في العالم.
وأما الدولة التي أقامها اليونان والرومان مع شعوب أخرى من شعوب الأرض فلم تكن دولة قائمة على المساواة بين هذين الشعبين والشعوب الأخرى، بل كانت علاقة مستعمِر مستعلٍ بمستعمَر مستعلى عليه، علاقة سيد بمسود؛ ولا تتصف الحضارة اليونانية ولا الحضارة الرومانية بمعالم إنسانية واضحة، ولا باتجاهات اجتماعية نحو رقي المجتمع بسائر طبقاته في نواحيه المادية والمعنوية.
ظهور الإسلام
ولهذا كله فقد كان ظهور محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وما جاء به من رسالة الإسلام حدثًا تاريخيًّا عالميًّا، وضع البشرية على مفترق طريق جديد، وكان منطلقًا لتكوين جديد للإنسانية والحضارة لا يمكن بوجه من الوجوه أن يقارَن بما سبقه؛ ونستطيع أن نجزم بكل تأكيد، وأن نأتي بالأدلة العلمية والشواهد التاريخية على أن المراحل التي مرت بها الحضارة الإنسانية حتى الآن في مكتسباتها الإنسانية الفكرية والاجتماعية، إنما هي من الدفعة التي أحدثها الإسلام، ومن نتائج توجيهه الإنسانية في مسالك واتجاهات جديدة، ويمكن أن نوجز عرض هذه الفكرة بقدر ما يتسع له مقال بما يأتي:
لأول مرة في تاريخ البشرية تجتمع شعوب عديدة على أساس المساواة الإنسانية في بناء حضارة وتتعاون في إطار حضاري واحد فكري وسياسي، تنفيذًا وتطبيقًا للمبادئ التي جاء بها الإسلام، وهذه هي المرة الأولى التي تنشأ فيها حضارة إنسانية يتعاون فيها البشر على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم في التقدم العلمي والتكوين الاجتماعي وتحقيق الأهداف الإنسانية، ولا شك أن المبادئ الجديدة التي جاء بها الإسلام هي الأساس الذي بني عليه هذا التعاون، ولا سيما بعد أن دانت بهذه المبادئ شعوب كثيرة، وطبقات مختلفة من هذه الشعوب.
ولأول مرة في تاريخ البشرية كذلك يقوم تعاون وثيق وانسجام كامل بين النظرة العقلية -التي تستعين في كشف حقائق الكون بالحس والتجربة والعقل- والنظرية الدينية التي تربط الكون والإنسان بالإله الخالق المبدع، فتتولد من جهةٍ علومٌ وضعية عقلية وعملية وتجريبية وتتطور وتتقدم وتتآخى في الوقت نفسه مع الروح الدينية الصافية التي تستشعر وجود الخالق وعظمته وتحاول الرقي الخلقي والروحي منسجمة ومتآلفة مع الروح العلمية والتقدم الفكري، وهذه ظاهرة واضحة في الحضارة الإسلامية، فقد حررت النظرة الإسلامية الفكرَ العلمي من الشوائب المعوقة باسم الدين، وصفَّتِ الروحَ الدينية وارتقت بها وأكملت بها الرقي المادي.
وليست هذه الظاهرة إلا نتيجة واضحة للنظرة الجديدة إلى الكون والإنسان والإله التي جاء بها القرآن ودعا إليها وبلغها محمدٌ بن عبد الله صلوات الله عليه، وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في الحضارة الإسلامية منذ بدايتها، فقد كان ارتقاء العلوم المادية وارتقاء العلوم المعنوية يسيران في اتجاه واحد في هذه الحضارة من غير أن يكون بينهما هوة فاصلة خلافًا للحضارات السابقة بل اللاحقة.
قامت الحياة الاجتماعية بل الحياة الإنسانية من جميع نواحيها على أساس فلسفة واضحة المعالم ونظرة شاملة تربط الأجزاء بعضها ببعض في الحضارة الإسلامية وتأيدت الفضائل الخلقية المجردة بتشريع عملي واضح يحدد العلاقات الحقوقية بين الناس، وأعطى الإسلام للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اتجاهات واضحة ذات أهداف إنسانية في حين أن الشرائع والأديان السابقة كانت خالية من هذه النظرة الشاملة، ومن هذا التخطيط الاجتماعي الذي يجعل الحياة السياسية تقوم على الشورى والمسئولية والعدل والمساواة، والحياة الاقتصادية تقوم على الفعالية وحسن التوزيع والعدالة، والحياة الاجتماعية على المساواة والمسئولية والعدل في قواعد ومفاهيم واضحة.
إن هذا الاتجاه الواضح المحدد المعالم لم يكن في اليهودية ولا النصرانية، كما كان ناقصًا جدًّا في الحضارة اليونانية والرومانية، في حين أنه واضح كل الوضوح في الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله عليه، وسارت على هديه ونهجه الحياةُ منذ ذلك الحين آخذة في الرقي والنمو والتنظيم.
نستطيع أن نقول بعد هذا: إن ما جاء به النبي العربي صلوات الله عليه هو تخطيط شامل للحياة الإنسانية في جميع جوانبها، ينسق جميع الفعاليات البشرية في نظرة شاملة عامة متناسقة مع نظام الوجود العام، بحيث يكون كل ما يأتي من بعده من رقي في الحياة العقلية في مجال الكون، أو رقي في الحياة الاجتماعية في مجال التنظيم، أو رقي في الحياة الخلقية والأهداف الإنسانية ليس إلا تنفيذًا لهذه التخطيط الشامل الذي لم يسبق في دين أو حضارة، وأن كل من قدم للبشرية جهدًا بعبقريته ونبوغه من عالم مفكر أو مبتكر مخترع أو اجتماعي مصلح أو سياسي ثائر على الفسطاط يقيم على أساس المساواة والإنسانية والعدل سياسته، أو صوفي سالك في مدارج الرقي النفسي، إن هؤلاء جميعًا ليسوا إلا منفذين كلٌّ في قطاعه وفي حدود مجاله وميدانه، جانيًا من الخطة الكبرى التي رسمتها تعاليم الإسلام التي حملها إلى البشرية وبلغها وأبانها ونشرها النبي العربي صلوات الله عليه.
فشتّان بين نابغ في جانب من العلم من كيمياوي أو فيزيائي ومن وضع الأساس في توجيه الناس إلى النظر في الكون واستعمال الحواس والعقل لكل مكتشف أو باحث!
وشتان بين سياسي نابغ أو ملك عادل أو ثائر في سبيل إصلاح لفترة مؤقتة وفي حدود المجال السياسي؛ مهما بلغوا من القوة أو من السيطرة أو ترسيخ قواعد الحكم أو توسيع رقعة الدولة!
شتان بين هؤلاء وبين من رسم الخط الواضح والقواعد العامة الخالدة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم ولمسئولية الحاكم وللمساواة بين البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وطبقاتهم ثم رسم داخل هذا الإطار السياسي وفوقه وخارجه مسالك الحياة البشرية في اتجاهاتها الفكرية والعملية وفي علاقاتها الاجتماعية وأهدافها الخلقية في آن واحد!
ليس ثمة مجال للمقارنة والموازنة بين هؤلاء جميعًا وبين المخطط الأعظم للإنسانية أبد الدهر في رسالته التي حملها من خالق الوجود إلى البشر المخلوقين في هذا الكون، واحتوت على هذا التخطيط العام الخالد للإنسانية، وكانت الحضارة في مراحلها التي تلت ظهور النبي العظيم صلوات الله عليه وفي جميع جوانبها وفي أحسن أشكالها، وفي أثمن منتجاتها وأعلى مكتسباتها إنما هي تنفيذ -بل محاولة لتنفيذ- هذا التخطيط.
ولذلك فإني لم أرَ قط أسخف عقلاً وأضل سبيلاً وأمعن في الشعوبية المستترة والمستعلنة ممن يدعي أن عصر الجاهلية في تاريخ العرب هو العصر الذهبي، وهل سمعت عاقلاً يقول: إن المعدن وهو في أرضه وترابه وقبل تصفيته واستصناعه هو أرقى وأنفس منه وقد أصبح آلة من أدق الآلات العظيمة المعقدة المركبة ذات الإنتاج الرائع، أو المستخدمة أداة لكشف أدق الموجودات وأخفاها، ذلك هو الفرق بين معدن العرب الكريم في مكارمهم ومواهبهم في مرحلة الفطرة الساذجة الطيبة والعرب بعد أن أصبح الإسلام رسالتهم ومنهجهم في الحياة، ومخطط الحضارة التي بنوها وتعاونوا في إطارها مع شعوب الإنسانية.
إن محمدًا صلوات الله عليه يبقى وحده في الذروة العليا من البشرية كلها ماضيها وآتيها، ومن تاريخ العرب الذين نشأ منهم وفي بيئتهم، فقد كان ولا يزال رسول الله وخاتم النبيين وحامل رسالة الإنسانية الخالدة أبد الدهر.
المصدر: مجلة حضارة الإسلام، المجلد 5، العدد الأول، تموز سنة 1964، ص8-12.