بصعوبة بالغة استطاع اليمنيون اقتلاع صالح من كرسي الرئاسة، لكنهم في الوقت نفسه عجزوا عن اقتلاع نظامه الذي ظل ضاربا بجذوره في أعماق الدولة ومؤسساتها ، ذلك أن أكثر من ثلاثة عقود من الزمن قضاها صالح في الحكم قد انشغل خلالها بخلق الولاءات وشراء الذمم والتهيئة لتوريث الحكم لنجله أحمد الذي نصبه قائدا للحرس الجمهوري، فكان من شأن هذا أن يخلف تركة ثقيلة سيتحمل تبعاتها الرئيس القادم ، والذي شاءت الأقدار أن يكون عبدربه منصور هادي . وهذا الأخير تولى الحكم في ظروف بالغة الصعوبة ، فقد وصل إلى كرسي الرئاسة من بوابة التوافق السياسي بين الأطراف اليمنية ، وذلك إبان ثورة التغيير السلمية التي أطاحت بسلفه صالح . ولقد كان هادي محقا وهو يقول إنه لم يستلم من الحكم سوى العلم الجمهوري الذي استلمه من سلفه في حفل التنصيب ، فكل مؤسسات الدولة بما فيها الجيش لا تزال تدين بالولاء لصالح . وبالمثل فإن من يتحدثون عن ضعف هادي هم محقون إذا كانوا يتحدثون من منطلق أن ضعف الرجل نابع من كونه حكم اليمن دون أن يكون له ولاءات أو مؤسسات قوية تحمي ملكه ، وهذا ما تجلى في تخلي معظم أفراد الجيش عنه أثناء دخول الحوثيين للعاصمة صنعاء ، وبعدها لدار الرئاسة وحتى دخول منزل هادي بعد أن عجز حرسه الخاص عن صد المليشيات، وبهذا المعنى فقط كان هادي ضعيفا ، فهو رجل دولة في وطن لم يعرف بعد دولة المؤسسات ولا دولة النظام والقانون . لقد جاء التآمر على هادي من قبل التحالف بين الحوثي وصالح نتيجة للرغبة بالانتقام من القوى المدنية التي أشعلت ثورة التغيير السلمية ، وتم إنشاء هذا التحالف من منطلق مناطقي ومذهبي يجمع بين أطراف هذا التحالف الذي يؤمن بالأحقية المطلقة لأبناء المركز المقدس في الحكم ، والمركز المقدس من وجهة نظرهم يمثل الشمال الجغرافي من أبناء المذهب الزيدي الذي ينظر معظم أبناؤه لأنفسهم أنهم أشراف ينتمون لآل البيت ، وينظرون نظرة استنقاص لمن دونهم ، ومن هذا المنطلق لا يمكن لهادي الذي ينتمي جغرافيا إلى محافظة أبين الجنوبية كما أنه من أبناء المذهب الشافعي أن يتولى زمام الحكم. لكن الرجل الضعيف استطاع أن يستغل عوامل القوة في حكمه ، فهو يستند على شرعية انتخابية ترتكز على أكثر من سبعة ملايين ناخب ، وعلى شرعية دستورية وتوافقية ، وكذا على شرعية إقليمية ناتجة عن المبادرة الخليجية لدول مجلس التعاون الخليجي وشرعية دولية تستند على قرارات المجتمع الدولي المؤيدة لهادي، ومن هنا كان هادي يواجه الانقلاب الحوثعفاشي عن طريق توجهه نحو الأشقاء العرب داعيا إياهم لحماية اليمن وشعبه من القوى الانقلابية ، باعتبار أن اليمن هي بوابة العرب الجنوبية ، ولن يستقر لهم حال إن تم تدميرها من قبل المليشيات التي نذرت نفسها لخدمة المشروع الصفوي في مواجهة العروبة . لقد أدرك هادي طبيعة الصراع الذي تشهده المنطقة ، وكان بارعا في تشخيصه حين حدده بالصراع القومي بين القومية العربية والقومية الصفوية الفارسية التي تريد صناعة مجدها على حساب المجد العربي ، من خلال تدخلها في أكثر من عاصمة عربية ، مرتكزة بذلك على المذهب الشيعي الذي تعمل إيران على دعمه في المنطقة وتأجيج الصراع المذهبي خدمة لمصالحها السياسية والتوسعية . وإيران في صراعها القومي مع العرب تعتمد بشكل رئيس على دعم المذهب الشيعي باعتباره يمثل نسبة كبيرة من مجموع سكان إيران الذين يتوزعون على عدد من القوميات ، لا تكاد القومية الفارسية تمثل فيها الأغلبية المطلقة ، ولهذا مثلا نرى أنه أثناء الحرب العراقية الإيرانية قد عمل صدام حسين على تقوية الهوية العربية لدى جيشه في محاربة الهوية الفارسية ، على الرغم من أن أبناء الجيشين في الغالب كانا ينتميان إلى مذهب واحد وهو المذهب الشيعي ، ومن هنا اعتمدت إيران في الفترات اللاحقة لحربها مع العراق على أن تبني لها العديد من جماعات الضغط الشيعية في المنطقة العربية بهدف التغلغل في هذه البلدان، فكان حزب الله في لبنان وحزب الدعوة في العراق وجماعات الحوثي في اليمن والجماعات الشيعية في البحرين ، كما أن إيران قد دخلت في تحالف قوي مع النظام العلوي في سوريا بقيادة بشار الأسد. ولعل من يقرأ التاريخ سيجد الأبعاد التاريخية لعداء الصفويين للعرب ، فأبناء فارس نظروا للفتح العربي لبلادهم أنه اهانة بحق حضارة عريقة ومميزة ، واعتبروا هذا الفتح يمثل خطرا كونه سيمنح القيادة للعرب ، ولهذا فقد عملوا على عداء كل ما هو عربي ، وأنشاؤوا "الشعوبية" التي تعني تحقير العرب واستنقاصهم وتجريدهم من كل فضل ، واعتبروا أن العرب مجرد قبائل وليسوا أمه ولا قومية ، وهذا التيار الشعوبي تم تصويره بقصيدة رائعة للشاعر العربي نصر بن سيار: قوم يدينون دينا ما سمعت به عن الرسول ولم تنزل به الكتب فمن يكن سائلا عن أصل دينهم فإن دينهم أن تقتل العرب فهذه هي أحقاد دولة فارس ضد العرب منذ بدء التاريخ. إن هذه التحديات وغيرها قد استدعت أن يعود العرب إلى هويتهم الجامعة ، وأن ينتهلوا من جديد من منهلهم الحضاري الواحد ، فهم أمة واحدة تجمعهم هوية واحدة ولغة واحدة ودين واحد ومصير واحد ، وهي مقومات حضارية لا يمكن أن توجد لدى أمة أخرى . لهذا فقد كان هادي موفقا في تشخيص الصراع ، واستدعاء المحيط العربي الذي لبى النداء ممثلا بدول التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه ، وكان الخيار العسكري خيارا لابد منه والعرب يشاهدون اليمن ينهار خدمة لمصالح إيران التي تبدأ أطماعها بالسيطرة على باب المندب كممر بحري هام من ممرات النفط العالمية ولا تنتهي بمحاصرة المملكة متناسية أن الله قد تكفل بحماية البلد الحرام . فعاصفة الحزم قد مثلت طوق النجاة لما تبقى من هامش الدولة في اليمن ، وهي في طور الانتهاء من مهمتها الرئيسية والتي تتمثل بإعادة الشرعية والقضاء على المليشيات الانقلابية وإعادة السلاح للدولة ، وبسط الأمن والاستقرار ، ولعل نجاح العاصفة سوف يرسل عدة رسائل أولها لإيران التي يجب أن تدرك أن المنطقة العربية لن تكون لقمة سائغة في فم أطماعها ، وأن أفكارها التوسعية ستنتهي إلى زوال ، والرسالة الثانية هي لنظام الأسد ومفادها أن تحرير سوريا وبقوة عربية أصبح مسألة وقت لا أكثر ، والرسالة الثالثة هي للعالم أجمع ومفادها أن مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك قد بدأت وسيكون التدخل في اليمن هو نقطة البداية ولن يكون النهاية .
جورنال كنانة أونلاين
رئيس التحرير/ عبدالحكيم الجنيد جوال-+967771312957 مديرالتحرير/محمد عبدالله حفيظ جوال-+967771122155 سكرتيرالموقع/منال احمد »
أقسام الموقع
ابحث
عدد زيارات الموقع
75,771