يرجع مولده إلى أكثر من ألف سنة خلت، وإن كان هناك عبر التاريخ الفكري من هو أسن منه، غير أن من طاوله منهم قهره، ومن زاحمه مكانته رده مدحورا مهزوما.
لم يسم في العربية بهذا الاسم أحد قبله، فجاءا فريدا في اسمه كما تفرد بآراء ونظريات حواها في جوفه، وقدرت له حياة طويلة عريضة، قضاها بين جنبات مئات بل آلاف من الطلبة والباحثين، أنفقوا في وصله بياض أيامهم وسواد لياليهم، ليشيبوا وهم على حالهم من الاغتراف من نبعه لا يغوره الزمان.
مثّل الثقافة العربية في سموها ودنوها؛ سموها حين تلم بدقائق المعاني الكبرى فتجلوها وتقدمها مضيئة واضحة القسمات، ودنوها حين تتصل بالقلوب فتملك عليها أزمتها وبالعقول فتأخذ منها بزاد كبير.
جاء شاملا شمولا ـ في المجالات التي تعرض لها ـ يأبى النقصان، كأن صاحبه أراد أن يودعه نفسه التي كادت أن تطوي الكون بكامل أسراره داخلها، فأعيى قلمه دون أن يبلغ مرامه؛ فتحت المنطق استقر الشعر والخطابة، وتحت الطبيعيات ألحقت الجيولوجيا بعلم الحيوان، وعلم النبات، وعلم النفس، وقوانين الحركة والتغير، وتحت الرياضيات تراصت الهندسة إلى جانب علم الحساب وعلم الهيئة وعلم الموسيقى، وتحت الإلهيات استقرت الفلسفة الأولى فعلم السياسة والأخلاق، ليبلغ بنا العجب مبلغه إذا عرفنا أن صاحبه قد زاد عليه أكثر من مائتي مؤلف سابق ولاحق له!.
أما صاحبه فهو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، أعجوبة زمانه. ومثله مثل كل بني جنسه من ساكني وادي عبقر صعد به محبوه إلى أعالٍ لم يبلغها سواه، ليجره حاسدوه ومنكروه إلى مستنقع موبوء بكل الموبقات!؛ فهو "المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى"(جورج ساتون)، وكتابه "القانون" هو الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمان (سير ويليم أوسلر)، وكتابه الإشارات هو "قرآن الخاصة" (التسمية لنصير الطوسي، في حين كان يسمي المصحف ب"قرآن العامة"). وهو أيضا الزنديق القرمطي شارب الخمر الكافر إمام الملحدين!.
ولم تك حياته بأقل اضطرابا من سيرته عند مبجليه ومزدريه، فهو الشيخ الرئيس الذي استوزر لدى عدد من ملوك وأمراء عصره، ليعيش حياة رغدة كريمة، وهو السجين المطارد المنهوبة أمواله وكتبه!. فكأنما القدر قد شاء لحياته أن تجئ شبيهة بمعزوفة شرقية ـ من تلك التي كان يحلو له أن يطبب بها مرضاه ـ عمد عازفها إلى التلاعب بالإيقاع وبالنقلات المقامية بها، ليطرب سامعيه عبر المفاجأة غير المتوقعة.
هي قصة نفس هبطت من محل متعال عن الأرض، فجاءت إليها كارهة، واتصلت بالبدن كارهة، تلبسته أو تلبسها لتضطرب داخله، فكانت أشبه بنبتة زُرعت في حفنة من هواء فلم تمد جذورها في شئ، لتصعد نهاية إلى بارئها (هي نظرة ابن سينا إلى النفس كما ذكرها في قصيدته العينية)، فتجد في حضرته ـ يقينا ـ الشفاء.
بقلم / محمد السيد الطناوى
ساحة النقاش