authentication required

وأنى المفر؟! ونظام مبارك ما زال جاثما على أنفاس الوطن ببنيته الإدارية، وهياكله الاقتصادية، وسياساته الداخلية والخارجية، ونخبته المعارضة، التي كان الرجل راضيا عنها وإن أظهرت هي السخط عليه، يحوطه غول مريع المنظر والهيئة وقد بسط أذرعه بطول البلاد وعرضها؛ غول الفساد!. ومن أسفل هذا كله جيل ناشئ يستميت في الفرار بحلمه من أي فرجة ضيقة تلوح لناظريه حتى لا يفيض ذلك الحلم تحت هذا الثقل المفزع.

فالجماعة التي آل إليها الأمر، قتلت المعنى؛ معنى الثورة، وأبقت على اللفظ كأنه قبر أو شاهد قبر يلتف المحبون حوله يبكونه في مرارة وسخط؛ فالراصد لسياسة الجماعة منذ صار الحكم إليها يدرك أنها تناولت الدولة وفق مبدأ تراثي يتلاءم وتكوينها الفكري، هو مبدأ الدولة الغنيمة؛ فليبق النظام بكامل بنيته بل وبكثير من شخوصه كما كان، ما دامت مفاتيحه قد سُلمت لهم، ولتسير عملية إبدال وإحلال لـ"عمال" النظام بـ"عمالهم" بوتيرة يدير عجلتها الظرف السياسي!. أما التغيير الجذري التي لا تعني الثورة إلا هو، وأما العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية التي ما كان سعي الحالمين ـ أولئك الذين وصلوا أرواحهم بهذه المعاني الكلية في عالم المثل، وارتضوا لها أن تهبط إلى أرض الواقع، ولو أهوى ذلك بقيمتها(1) وليقايضوا عليها بأرواحهم تلك ـ إلا ابتغاءًا لوجهها الشريف، فالجماعة ما آمنت يوما بها، وإن تجشأت ألفاظها في وجوه الآخرين صباح مساء، وليشتم عندئذ صاحب الحاسة الدقيقة رائحة كريهة؛ رائحة الأفكار المهوشة. نعم فالبنية الفكرية للإسلاميين عامة هي حامل هش لتلك المعاني (2).

أما النخبة التي نجح نظام فاشل في سطر مسارات حركاتهم لزمن طويل، فإذا به وقد حصرها داخل مربع محدد الزوايا فكانت ما بين فضائيات وصحف ومقرات أحزاب وتظاهرات سلالم. وكان لها كالصندوق الذي يطلق فيه العالِم فئرانه فإذا ما حاد أحدهم عن مسار اختاره العالِم له تدفقت في جسده شحنة كهربائية ترده عن ذلك المسار الذي أقحم نفسه فيه إلى أن يعتد الفأر الالتزام بالمسار الآمن الذي رُسم له بديا.

هذه العقول الفارغة إلا من فكرة وحيدة؛ فكرة الأنا. هذه القلوب التي شاخت كما شاخ أصحابها فألقت من بين أحمالها كل معنى نبيل عجزت عن المسير به طويلا في درب الزمان الوعر، وكان من بين تلك الأحمال المستغنى عنها الإخلاص والصدق!. هذه النخبة التي تعرت أمام الجميع مرات ومرات لكن العجز وتواضع شخوص المتصدرين من الشباب للشأن السياسي قد كساها ثوب القدرة في كل مرة!.

إذن.. من أين نبدأ؟

ونون الجمع هنا تعود على من يعيش للمعنى ممن يشتغلون بالعمل السياسي لا من يعتاش عليه، أما السؤال وإن كان ضروريا طرحه، لكن تقدمنا نحوه ينبغي أن يكون تقدمًا حذرًا، إذ السؤال يحمل في طياته غرورًا سارتريًا مضللاً، وكأن البداية رهينة إرادتنا فقط، كل ما هنالك أن نشير بإصبع تلك الإرادة على النقطة التي تبدو لنا مناسبة للبدء ليتم الأمر!،غير أن الواقع بتعقيداته يأبى أن يصدق هذا التصور، كذا الزمن (وقد ضاعف سرعة حركته ببلدنا مرات ومرات بعد أن كان يلوح لخيالنا وكأن سكتة قلبية أصابته فتوقف عن الحركة بها) فقد يغير إحداثيات تلك النقطة ما بين إشارتنا واتجاهنا نحوها.

لنؤكد بادئ ذي بدء على أن ما حبرناه أعلاه ليس مراده سكب منطقنا ممزوج بغضبنا لتندفع به الكلمات إلى عقل ووجدان القارئ، فيتفق مع صاحبها ويرى الواقع من منظوره (أو يعرض عنها إن بدا له غير ذلك)، بل هو مقدمة لنتيجة لزمت من شاركنا الرأي، وهذه النتيجة تقول بضرورة التوقف عن الحركة والاستغراق بتفكير عميق فيما مضى وفيما هو آت، فأن يظل الشباب يبذرون كل جهدهم وطاقاتهم، ويسيلون كذا دمائهم في فاعليات تتولى هذه النخبة حصد محصولها فتفسده، ثم يعاود الشباب الكرة فيعاود أولئك الإفساد، في صلف عاهرة لا حياء لها، عاهرة لا تعبأ سوى بارتفاع أسهمها في سوق البغايا، وهي في حالتنا هنا سوق الإعلام!؛ أن يدور الشباب في فلك هذا المشهد العبثي، وكأنه يخضع لإرادة خارجية تستبد بشأنه فهذا أمر لا يجيزه المنطق وتأباه المصلحة الوطنية، لكن في ذات الوقت فإن بناء أطر سياسية ـ كبديل للأطر النخبوية ـ لا يعمرها سوى الشباب أمر دونه صعوبات جمة لا يقدر عليه جلهم، هنا تبرز حالة من "شقاء الوعي" ( بتعبير المفكر المغربي محمد عابد الجابري)، وعلاجها ليس الانسحاب كليا، والارتداد إلى ما كان من عزوف آثم كرس للاستبداد والفساد، بل لتظل هذه الأطر مظلة ترد عنا ذاك الإثم، ولتكن "عزلة شعورية" تحمينا من شرورها، ولتُكَوَّن رابطة تضم الناشطين الشباب من كافة التشكيلات السياسية؛ رابطة (تجميعية) فكرية وتثقيفية بديا، يفرون إليها من فقر كياناتهم الإيديولوجي (لا شك لدي أن كافة الأحزاب على الساحة السياسية هي خلو من أي أيديولوجية صلبة وبضاعتها شعارات ليس إلا، فهذا الأمر لا تنفرد به الأحزاب الإسلامية كما يحلو لبعض خصومهم أن يدعي متبجحا)، ويعملون بها على تفريغ شعارات الثورة في قوالب فكرية صلبة ويتدارسون ملمات أحزابهم ويعضد بعضهم بعضا حتى لا تبتلعه دوامة الأطر النخبوية فتهرس مبادئهم وأخلاقهم (3)، ( فالكيانات السياسية التي لا تقوم على معتقد سياسي مُلهم تتضخم بها الذوات، فيصير الولاء للذات في ظل عدم وجود الفكرة الملهمة "ولدى تلك الذوات غير القابلة للتضخم الولاء يكون للزعيم المزيف" ، فما بالنا بمشاريع شخصية قامت بالأساس لخدمة طموح أفراد بعينهم!).

لا أتصور أن مثل هذه الرابطة ستجذب إليها "هتيفة المظاهرات" الذين افترسهم ذئب الشهرة(4)، وأنى لأمثالهم في تواضع عقولهم وبساطة ثقافتهم أن يتصدوا لهجمة ذلك الذئب المفترس، فالواحد منهم لا يدر بخلده سوى التفكير بالهتاف الذي سيهتف به في التظاهرة المقبلة أو بتدبيج تحليل سخيف يلقيه على صفحته بـ "الفيس بوك" أو على مسامع أحدهم في هذه الفضائية أو تلك، أو في بيان ينشر باسم حركته المزعومة التي لا تضم غيره وغير نفر من أصدقائه.

هذه الرابطة بحكم تكوينها وابتعادها عن الأضواء لن تجذب إليها سوى ذوي الوعي والثقافة من الناشطين، لتنمو بأولئك وتعمل على إنضاج أفكارهم ورؤاهم، وتنهض من بعدُ من أرض الخمول بعد أن تكون قد دُفنت بها لسنوات، فتميل ميلة خفيفة على تلك الأحزاب التي ستصير عندها خرائب مظلمة لا يسكنها سوى كائنات عمت بصيرتها لتتهدم، وحينذاك قد تلعب تلك الرابطة أو المنظمة (بعد ذلك) دور المنقذ بعد أن تفشل الجماعة هي الأخرى في إلباس الوطن لباسها الضيق. وهذه ليست محاولة لتشوف المستقبل بقدر ما هي قراءة للتاريخ.

(1) يرى هيجل أن الفكرة في عالم الأفكار تكون لامتناهية أو كلية وعندما تنتقل إلى أرض الواقع تصير متناهية أو جزئية.

(2)راجع مقالنا زيف مشروع "الإسلام الحضاري"

(3)لكاتب هذه السطور تجربة في أحد الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي أُسست بعيد انتهاء الموجة الأولى للثورة مباشرة، وكان عضوا مؤسسا به وعضو المكتب التنفيذي لأمانة شبابه، وعاين كيف يمكن أن تُفسد هذه الأطر النخبوية على الشباب اليافع أخلاقهم ومبادئهم، والمضحك المبكي أن هذا الحزب كان يضم في برنامجه محور تحت عنوان:"دمج الأخلاق في العمل السياسي"، والذي كانت قيادات الحزب خلو منها، وانحدر بهم الحال أن باعوا الحزب مؤخرا لملياردير وقيادي اخواني شهير بثمن ليس بخسا، ولهذا الأمر حديث آخر.

(4)راجع "رحلتي الفكري في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية"، عبد الوهاب المسيري، العودة لمصر والذئاب الثلاثة.

الكاتب / محمد السيد الطناوى

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 324 مشاهدة
نشرت فى 31 ديسمبر 2012 بواسطة tulipe

ساحة النقاش

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

307,712