هي رهينة الوعي بضرورتها، وهذا الوعي لا ينهض إلا من بين ثقافة قد وطئت للديمقراطية موضعا في نفوس أبنائها، فربما الشعور بالحاجة الآنية لها وحده لا يكفي لارتقاء ذلك المرتقى الصعب. قول يلزمه التعقيب لتوضيح ماذا نقصد بضرورة الديمقراطية من جهة، وكيفية تأسيس الوعي بها من جهة أخرى.
الضرورة اصطلاحاً هي "النازل مما لا مدفع له"، وهذا المعنى يشرف بنا على ما نود قوله؛ فالإيمان بالديمقراطية ينبغي أن تدفع به الأيديولوجية بصفة خاصة، والمرجعية الحضارية بصفة عامة، أي أن يكون جوهرا (وهو معنى الكلمة "الضرورة" في المعجم الفلسفي) لا عرضا، والجوهر كما يعرفه الفلاسفة هو "ما يكون قائما باستمرار وسط التغيرات التي تطرأ على الشئ"، وهكذا ينبغي أن تكون الديمقراطية، لكن هل هي حقا كذلك في أوطاننا، أم أنها حاضرة فقط بالقوة لا بالفعل؟، إذ لا الأفكار المهوشة ولا النفوس المتشككة ولا الأفئدة الوجلة من سلبياتها بقادرة أن تثابر لتقيم بنائها بكل تفاصيله الهندسية المعقدة.
الديمقراطية لدى تياراتنا الفكرية
رغم دعوتهم للديمقراطية ورفعهم لشعارها، لكن هذا لم يمنع الليبراليون من التشكيك في إمكانية تطبيقها بمجتمعاتنا تطبيقا سليما، ليؤيدون رأيهم بأحاديث عن مجتمعات لم تتطور بعد إلى مستوى المجتمع الصناعي الرأسمالي، واقتصاديات ريعية لدول منها ما هو قائم على التحويلات المالية لمواطني الدولة في الخارج وعلى القروض والهبات وعائدات القطاعات الخدمية كالسياحة وغيرها، ومنها ما هو قائم على عائدات النفط والثروات المعدنية؛ وعن حاجز من ضعف الوعي يحول بين الجماهير وبين الإقبال على الخيار الصحيح لإنجاح الديمقراطية الذي هو بالطبع خيار الليبرالية.
أما اليسار بطوائفه فإيمانه بها ربما يكون أشد وهنا، إذ الماركسيون كما هو معروف في أدبياتهم، يرون الديمقراطية ليست سوى خدعة يخرجها البورجوازي من جعبته ليخطف أبصار البروليتاريا إليها بينما هو يسطو على حقوقهم ويسرق أقواتهم.
في حين أن الفكر القومي كما جسدته التجربة الناصرية ببلدنا، قد قدم "الديمقراطية الاقتصادية" أو الحرية الاجتماعية على الديمقراطية السياسية، التي لم تكن سوى "ديمقراطية الرجعية"، أو هكذا ارتآها، ووازى ذلك أو سبقه في ترتيب الأهمية القضايا القومية لتتوارى الديمقراطية ورائهما في حياء لتواضع مكانتها.
والحديث عن فكرة الديمقراطية لدى الإسلاميين يطول بطول تاريخنا الإسلامي، فالديمقراطية في عقولهم قد تسربلت بلباس ضيق، لباس الشورى؛ فقد ولدت هذه الفكرة على يد الإسلام في عصر كسرى وقيصر فعاشت غريبة فيه، إذ كانت سابقة لزمانها، لكنها لم تتطور على أرض الواقع بل سرعان ما ارتدت ـ بعد أن عاينها الناس قائمة بينهم ـ إلى عالم الأفكار على يد حكام طغاة، ليتناوبها فقهائهم؛ فقهاء السلاطين، بالقول الفاحش، فجعلها قسم منهم "معلمة لا ملزمة"، وليجتمع جلهم على حصرها في نطاق ضيق خانق لها، هو نطاق"أهل الحل والعقد"، وبذا فبدلا من أن تنمو وتزهر ذبلت لتستقر صورتها الذابلة تلك في وعي كثير من الإسلاميين، وحتى من تجاوزها منهم فإن "لاوعيه الإسلامي" حال دون نشوء إيمان حقيقي بحتميتها،
لذا لا مجال للدهشة إذا ما تحدث الإمام الإصلاحي إمام مدرسة التجديد (محمد عبده) عن "المستبد العادل"، الذي "يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده فى خمسة عشر قرناً"!.
ورغم ذلك فقد كانت الديمقراطية مطلب الجميع المعلن وبغيتهم. ويسقط النظام عبر ثورة (لم تكتمل بعد) لتجنح فيِ عُرْضِ طريقها بالإسلاميين، فتخفت نبرة أحاديث الديمقراطية على ألسنتهم، وتنطلق صيحة أخرى، صيحة الإسلام الذي قامت له دولة، ويحاول أعدائه أن يحولوا دون رسوخ أركانها، وإقامة شريعتها، ورفع لوائها، فهي معركة دينية، تستباح فيها حتى تعاليم الدين ذاته، للدفاع عنها!.
لكن أكان الأمر يختلف كثيرا (بالنسبة للديمقراطية) لو كان غير الإسلاميين هم من ارتقوا السلطة وحازوا مفاتيحها؟، لا أظن ذلك، هي ذات النتيجة وإن اختلفت التبريرات، إذ لارتفعت عوضا عن هذه الصيحة مقولة حماية الديمقراطية من أعدائها الكافرين بها، الذين يبتزون عدم وعي الجماهير بقصد خداعهم وتضليلهم، أو لارتفعت خفاقة راية الذود عن الدولة ضد التنظيمات والجماعات الرجعية التي تريد أن تغرق الوطن في بحر الماضي الآسن.
أيكون من فضلة القول إذن أن نشير إلى كون تلاوة أحاديث الديمقراطية ـ في العهد السابق ـ من قبل الكثيرين ببلدنا لم يكن دافعها سوى التطير من شؤم نظام الحزب الواحد المستتر بتعددية زائفة؟!، لكن حتما علينا هنا أن نستدرك لننفي عن أنفسنا خطيئة التعميم.
تأسيس الوعي بالديمقراطية
وإذن هي إرادة الديمقراطية التي وجب على فرقاء الوطن أن يمدوا أيديهم إليها لاستكمال تشكيلها لتسعى من بعد إلى أرض الواقع، وهذا يتطلب بداية استكمال تأسيس الوعي بها ليرقى إلى درجة الإيمان الصادق، لا الإدعاء الهش الذي تدوسه أقدام الاختبار الأول غير عابئة، ولا نستثني بحديثنا أحداً من أولئك الفرقاء.
وهذا التأسيس أو لنقل استكماله يتطلب سد الفجوات التي تخرق نسيجه، ويكون ذلك عبر تمثل حقيقة حتمية الديمقراطية رغم كل عيوبها وثغراتها التي قد تنفذ منها الضمائر الخربة للسطو على مقدرات الوطن، حتى وان اتسعت تلك العيوب بفعل مجتمعات لم تتطور بعد إلى المستوى اللازم للممارسة الديمقراطية ممارسة سليمة (نسبيا)، فالبديل هو الاستبداد الذي لا حصر لعيوبه، وإن حصرها "مستبد عادل" في فرجة ضيقة سدها بعدله، واستطاع أن يختصر الزمان بقدراته وحزمه، ذلك الذي تسير الديمقراطية عبره سيرا بطيئا؛ إذا عولنا على مصادفة كهذه (وغضضنا البصر عن التناقض النظري بين الاستبداد والعدل)، فما الذي يحول دون أن يأتي من بين خلفائه مستبد غير عادل ليسلم ما أقامه سلفه للخراب (ارجع لتاريخنا ستجد به أمثلة قريبة الشبه من هذا النموذج) ؟!.
وليدرك الجميع كذلك أن العقل الجمعي لشعب من الشعوب لا يعتمد سوى ما خبره هو(بخلاف العقل الفردي)، فلا مجال للقفز فوق حتمية تاريخية.
كذا هناك من هو في حاجة ـ من بين تياراتنا السياسية ـ لأن يدرك الديمقراطية كتوأم غير ملتصق بالرأسمالية، نعم ربما قد نشأ ودرجا معا في أحضان التجربة الغربية، لكن الأولى كانت بمثابة الكابح لنهم الثانية المتوحش للاستغلال والاحتكار عبر مؤسسات رقابية وآليات للتغيير السلمي.
الخريطة الزرقاء للديمقراطية
ولنعلم كذلك أن التوق للديمقراطية وإن لف الشعب بأكمله، لما تحقق لها وجود على أرض الواقع إلا عبر إرادة واعية ليس بما ستواجهه من تحديات هائلة داخلية وخارجية فقط بل واعية كذلك بخريطتها الزرقاء(1)، التي أبرز خطوطها "دمقرطة الاقتصاد"، أي الانتقال من اقتصاد الريع القائم على تحويلات المغتربين والقروض والهبات والقطاعات الخدمية كالسياحة وغيرها، والتي تضخ دماء الحياة في أوردة الدولة الديكتاتورية لتزيد من إحكام قبضتها على المجتمع (إذ تنفق الدولة منها على تغذية مؤسساتها وتضخيمها وتدعيم أجهزتها بخاصة القمعية منها بعيدا عن رقابة دافعي الضرائب)؛ إلى اقتصاد قائم على الإنتاج وبالتالي فموارد الدولة يكون مصدرها الرئيسي الضرائب، ليزيد ذلك من إحكام قبضة المجتمع على الدولة، لا العكس.
وهناك عامل ثان أو خط آخر يتقاطع على خريطتنا الزرقاء مع "دمقرطة الاقتصاد"، وهو خط مؤسسات المجتمع المدني سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، إنها البنية التحتية للديمقراطية، وهي ليست مجرد هياكل وتنظيمات بل هي قبل ذلك ثقافة لزاما على المجتمع أن يتمثلها لتتغلغل في ثنايا وأروقة عقله، ولن يحدث ذلك قبل إعلاء القيم الحاضنة لتلك الثقافة.
وخط ثالث يبرز على تلك الخريطة (ربما لم تشر إليه أدبيات العلوم السياسية)، ويتمثل في الشروط الواجب توافرها بنخبة التأسيس؛ تأسيس الوعي، فعوضا عن صلابة إيمانها بالديمقراطية ووعيها التام بخريطتها الزرقاء، يلزمها أيضا نضج فكري وجداني يجعلها تختصر الزمان، وتغني شعبها عن خوض وحول التجارب المريرة التي تعترض الطريق إليها، كذلك يعصمها من فتنة الدين الجديد لعصرنا، الذي يعيث إلهه فسادا بمجتمعاتنا بصورة أكثر اتساعا من مجتمعات الدول المتقدمة، "إله عصر ما بعد الحداثة"؛ إنه الإعلام بأجهزته المختلفة التي تُيمم النخبة وجهها إليها من دون المصلحة الوطنية، فتقيم المؤسسات من أحزاب وحركات وجمعيات ومنظمات..الخ لا لتخدم عبرها الناس بل للتذلف بها إلى ذلك المعبود الجديد، ولتنحني قامات الكبار بمعبده خاضعة لأوامره ونواهيه، (بل إن منهم من يعلن العصيان ضد الحكام ليطأطأ الرأس في حضرة معبود العصر ذاك!)، وإليه تُبذل قرابينهم من دون الناس، ومن واقعنا التعس المثال، فكم من حزب يخرج علينا قياديوه في كل يوم بمبادرة لا تهدف لغير أن تُذكر أسمائهم على لسانه، كذا لا تنشط نفوسهم إلى عمل إلا إذا صحبتهم إليه عيونه (كاميراته) ترصدهم، وهنا لا نستدرك لننفي عن حديثنا التعميم، فهو ليس بخطيئة في موضعنا ذاك.
وبعد، فهناك العديد من الخطوط التي تمتد وتتشعب على خريطة الديمقراطية الزرقاء، وهي أهم خطوطها تلك التي رسمناها أعلاه، لكن الصراع السياسي المحتدم في بلادنا قد رقق تلك الخطوط فلطفت إلى حد الخفاء لتبرز أخرى دقيقة فتخطف إليها الأبصار، وتبعد الشقة بذلك بيننا وبين مبتغانا في تأسيس الوعي بها!.
إذن هو وعي بضرورة فإرادة ففعل، معادلة جد بسيطة، لكن إنفاذها إلى أرض الواقع جد عسير، وهو وهم يحاذر عقلنا أن يقع في حبائله فيتصور أن طرحنا ذاك يمكن أن يتسلل إلى عقول تلك النخبة الطافية على سطح الساحة السياسية ببلدنا، فتتقدم إرادة أفرادها على طريق الديمقراطية القويم ولو خطوة واحدة، إذ هي إرادة شوبنهاورية(2)، ولأن لا أحد منهم مبدع ولا زاهد لذا لا يستطيع الواحد منهم أن يفعل غير ما يفعله منذ عقود، بل نبث حديثا إلى ذلك الجيل الذي لم يفعل بعد، نحضه أن يزدري تلك النخبة وما ترسله من أحاديث وآراء مشئومة، فكل ما ذكرناه آنفا من توجهات ورؤى هو نتاجها، وأن يقبل على تأسيس وعيه بالديمقراطية، فيلتمس لذلك مظانه المعتبرة، وننبئه مجددا أن لا الأفكار المهوشة، ولا النفوس المتشككة ولا الأفئدة الوجلة من سلبيات الديمقراطية يمكن أن تثابر على إقامة بناءها بتفاصيله المعقدة، إنما هو وعي مريد أو إرادة واعية.
(1) خريطة التصميم المعماري
(2) الإرادة لدى شوبنهور هي الرغبات واللذات والشهوات التي تحرك الإنسان دون وعي منه، ولا أحد بقادر أن يتغلب على إرادته ـ وفق هذا المفهوم ـ سوى المبدع لحظة إبداعه، أو الزاهد الذي يتسلط عقله على تلك الإرادة فيضعف من أثرها.
بقلم / محمد الطناوى
ساحة النقاش