ابتلعه التاريخ في جوفه ومضى، لكن طيفه مازال مرتسما في وجه الشمس عصي على النسيان.
هو واحد من تلك الأجسام الكبيرة التي تحني الفضاء والوقت معا، لينجذب إليه كل شئ في محيطه، فتدور كالكواكب في فلكه على غير إرادة منها(1).
بالأمس القريب وقد كان الضباب يغمر وجداني فإذا أتى ذكره على مسامعي تمتمت بعبارات غاضبة حانقة، وانطلق لساني يلعنه كما تعود أن يلعن في آلية كل طاغية مستبد، واليوم وقد بددت رياح الزمن ذاك الضباب، تساءلت معاتبا نفسي أكنت أريد من القدر ـ حين بعثه فينا ـ أن يكون كالمصور الكذوب الذي يرسم وجه امرأة مجعد حفره عمرها المديد بالأخاديد ليجئ بلوحته ناعما متناسق الخطوط بديعا؟!، هو ابن قصتنا، تلك التي لا يسأم رواتها من ترديد أن الطاعة للحاكم علينا واجبة ولو جلد ظهورنا وانتهب أموالنا، وأن السلطة لمن غلب يلهو بها كيفما شاء هواه!. فما كرهناه منه هو من صنعنا؛ وقد فطن أناسه لذلك (وإن كانت فطنة لاوعية)، فجَلدوا لطغيانه باسمين إلا أولئك الرواة إذ ساءهم أن لا يحني قامته المديدة ليلتقط من واديهم الحصى لمسبحته.
لم يخلق خلقا جديدا بل ردد على مسامع الناس ما كان مكنونا بقلوبهم فقدسته، وتسلط على خيالهم بأحاديثه فانقادوا إليه حبا وكرامة(2)، ثم تبع أحاديثه بأفعال ـ وإن كانت ناقصة ـ لتعظم مكانته في نفوسهم.
لم يسر بهم على طريق يسيرة هينة كتلك التي ارتادها خلفائه بل تقدمهم في درب وعرة غير مطروقة لتدمى أقدامهم، وتصطلي جباههم بلظى غضب الامبريالية المجرمة، إلا أنهم سعدوا في المسير وراءه. وعندما انحجبت روحه وراء نقاب الأبدية غمرت الجماهير جثمانه بالعويل والبكاء حتى أولئك الذين احتُفرت ظهورهم بسياطه الحامية قرعوا الصدور حزنا عليه.
ولتتغذى أسطورته بنهم من أقاصيص خلفاءه الصغار، ثلاثة خلو من أي مهارة، اللهم إلا خليفته الأول إذ اختص بواحدة؛ مهارة الحواة، وهي لمن لا يعرف فارغة من المعنى، أما الثاني فيكفي توصيفه بأنه فرد احتل لفترة ما حيز في المكان، لكن الصدفة وحدها شاءت أن يكون هذا الحيز عرش بلادنا التعسة، أما الثالث نكبتنا الحاضرة، فهو فارغ من المعنى كسابقيه غير أنه ثرثار تلك ميزته الفارقة.
ولشد ما هو الشبه بين الثلاثة إذ أن كل واحد منهم كان مسوغ اعتلائه السلطة القزمية وكونه مأمون الجانب، وهي لعنة قديمة لم ترفع عن بلادنا بعد، قاعدة عامة وإذا كان لها استثناءا فهو ذاك الذي لا حكم له، ما هي؟ أن كتب عليها بأن "تسمح للرجل العادي المتوسط بل "للرجل الصغير" بأكثر مما ينبغي وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق"، لـ "تضيق أشد الضيق بالرجل الممتاز"، ولـ"تلفظه بانتظام وإحكام".
هو نبأ ساقه إلينا خبير مصر المتفرد وعاشقها العظيم جمال حمدان، فلا يظن بصدقه الظنون.
ولنتبع أستاذنا الجليل في حماسته المتطرفة وهو يحادثنا عن ناصر، إذ يقول: "إن الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون.. أنت مصري اذن أنت ناصري... حتى لو انفصلنا عنه أو رفضناه كشخص أو كإنجاز..المصري ناصري قبل الناصرية وبعدها وبدونها.. كل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية ولو أراد الا وخرج عن المصرية أي كان خائنا".
إن المعنى الذي يطل بوجهه من كلمات حمدان قويا سافرا أن سياسات ناصر داخلية وخارجية كانت قدر مصر، من حاد عنها لا يعد فقط خائنا لمصر بل كافرا بالقدر كذلك.
وها هي مصرنا وقد أقدمت فرحة مستبشرة بعد مشهد ثوري أذهل العالم تشرب من كاسات قدمها إليها أبنائها ظانة أنها ذات الكاسات التي شربت منها في الزمن الماضي وكانت تقبع بها حيويتها، فإذا هي وقد تجرعت مذق مسمم استقطرته يد الإثم من مستنقع الجهالة تسقط مريضة محمومة، ولا عزاء للخونة.
(1) الفكرة الرئيسية لنظرية النسبية العامة لأينشتين، والتي كشف عبرها عن سر الجاذبية.
(2) الناس أطوع لخيالهم منهم لعقولهم "ابن سينا".
بقلم / محمد الطناوى
ساحة النقاش