“شيئان يملآن الوجدان بإعجاب وإجلال يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في صدري”.
مقولة وردت في ختام كتاب للفيلسوف الألماني العظيم “كانت”، وهو ثاني أشهر كتبه “نقد العقل العملي”.

وقد كان التصور الذي قدمه “كانت” للقانون الأخلاقي ـ كما ادعى ـ شئ يستلزم الإعجاب والإجلال حقا، إذ رأى الفيلسوف الكبير أن القانون الأخلاقي لا يمكن له أن يكون مشتقا من التجربة، وأن أصله ومستقره إنما يكون في العقل، وإذ هو ينبع من العقل فهذا يعني أنه مطلق، يصلح لكل زمان ومكان، ليكون بذلك على غرار العلوم التي أرساها العقل بعيدا عن أي تجربة، كالعلوم الرياضية على سبيل المثال.
وبحسب هذه الرؤية الكانتية (أو ما يسميها “كانت” فكرة الواجب) فإن تشريع القوانين لسلوكياتنا يقع على عاتقنا، دون غيرنا.

وربط الفيلسوف العظيم ـ في ظل أطروحته تلك ـ بين القانون الأخلاقي وبين مفهوم الحرية، إذ أرتأى أننا نعتبر أحرارا بمقدار خضوعنا للقانون الأخلاقي، فالحرية ـ في تعريفه لها ـ ليست إلا الخضوع الإرادي لذاك القانون، وهو ما أسماه ب”التحديد الذاتي”.

والفرد الذي يعتمد هذا المفهوم، يكون ملزما باتباع القانون الأخلاقي حتى وإن جافى ميوله ورغباته وعواطفه، ودون أن ينتظر جزاءا أو شكورا من وراء التزامه ذاك.

وقد وضع “كانت” هذه الرؤية أو الفكرة (فكرة الواجب) متفاديا أن يخضع الأمر الأخلاقي لمبدأ اللذة أو السعادة أو المنفعة، إذ هنالك تغرق الأخلاق في الفوضي حتما؛ فهذه الأمور نسبية ومتغيرة، أما إذا ما كان القانون الأخلاقي صادرا عن “العقل الخالص” ـ بالتعبير الكانتي ـ منفصلا انفصالا تاما عن الواقع أو التجربة فهو ـ عندئذ ـ سيكون حاكما لها لا محكوما؛ أمرا ناهيا، لا تابعا خاضعا.

وقد حمل كثيرون على “كانت” وهاجموا فكرته تلك، إذ فزعوا من صرامتها، وكان من هؤلاء الشاعر الألماني الشهير “شيللر” ـ برغم ما كان يكنه للفلسفة الكانتية من تقدير وإعجاب ـ فكتب يقول: “إن فكرة الواجب في فلسفة “كانت” تتميز بصلابة تفزع منها جميع العواطف الرقيقة، وقد تغري ضعاف الفهم ـ في سهولة ـ على أن يبحثوا عن الكمال الأخلاقي في زهد الرهبان”.

وهذه الرؤية الكانتية لشد ما هو الشبه بينها وبين منظور الثقافة العربية الإسلامية للقانون الأخلاقي، إذ هو في ثقافتنا ـ كما هو الحال في فكرة الواجب لدى “كانت” ـ ملزم الزاما قاطعا وصارما، حتى وان لم تنهض التجربة لتدل على منفعة ظاهرة له، ومن ثم فالتجربة ـ في الثقافة العربية الإسلامية ـ ليس لها أي سلطان على ذاك القانون أيضا.  بيد أن هناك اختلاف يتمثل في مصدر القانون الأخلاقي فيما بين الرؤيتين، ففي الرؤية الكانتية مرجع هذا القانون هو “العقل الخالص”، أما في الثقافة العربية الإسلامية فمرجعه هو وحي السماء. وهذا يجعل للأمر الأخلاقي ـ في ثقافتنا تلك ـ جلالا ورهبة وقدسية ليست متوافرة له في فكرة الواجب لدى كانت.

وإذا كانت الرؤيتان تتفقان في أن التجربة لا يمكن أن تكون حاكمة للأمر الأخلاقي، غير أنها ـ أي التجربة ـ قادرة على تحديد ما يتمتع الفرد به من حرية فعليا، (وهذا إذا ما اعتمدنا التعريف الكانتي لها)، فكيف يكون ذلك؟!
 نستطيع القول أنه عن طريق تجارب أو ممارسات الفرد على أرض الواقع ، والتي يمكن أن نقيس عبرها مدى التزامه بالقانون الأخلاقي الذي أقره لنفسه ـ وبالتالي مدى ما يتمتع به من حرية، يكون حكمنا عليه.

ولي رغبة أن أستعمل مفهوم “التحديد الذاتي” ذاك استعمالا أخرا غير الذي وُضِع له، مستخدما ذات الفكرة التي صاغها “كانت” عن الحرية، والتي تفيد بأن الفرد يعد حرا بقدر التزامه بما أرساه لنفسه من مبادئ وقيم، وهي ما أرغب في توسيع دائرتها قليلا لتشمل المبادئ أو الأيدلوجية السياسية.

وأزعم أنه إذا ما اعتمدنا هذا الاستعمال، وأصبح تقييمنا قائم علي أساسٍ منه، ستخف حدة الاستقطاب الآخذة في الاتساع ـ على الساحة السياسية ـ تبعا للأيدلوجية، كما ستزداد فرص نجاح أي تعاون أو عمل مشترك بين أصحاب الأيدلوجيات المختلفة.  

لكن بدايةً لابد أن نضع نصب أعيننا ـ دوما ـ تلك القاعدة التي أرساها المولى عز وجل، وسير عليها شئون الحياة والعباد، وهي قاعدة الاختلاف، فالاختلاف سنة كونية، لا حيال لنا إزاءها، وحتما علينا أن نقبل بها ونرضخ لها، وهذا القبول والرضوخ لن يكون إلا عبر تقبل الآخر.
 منطلقين بعد ذلك في تقييمنا لأنفسنا وللآخرين ليكون منبثقا من مدى التزامنا والتزامهم بقيم المجتمع بصفة عامة، و كذلك مدى التزام كل منا بأيدلوجيته السياسية بصفة خاصة.

فتقيمي لفلان وتقديري له ـ وذلك إذا ما اعتمدنا هذا الاستعمال الجديد للمفهوم الكانتي ـ ومن ثم تعاوني معه، لن يكون على أساس كونه ليبراليا أو اسلاميا أو اشتراكيا….الخ، بل سيكون موقوفا على مدى التزامه بالقيم المجتمعية ـ كما أسلفنا ـ وكذلك مدى تمسكه بما تفرضه عليه الأيدلوجية التي يعتنقها.
فأنا حين أؤدي ما تمليه علي الأيدلوجية ـ التي أتبناها ـ لا أخضع لأي قوة خارجية أيا كان سلطانها، وإنما أقوم بحق معتقد شرعته لنفسي بنفسي، مؤمنا بأنه الوسيلة الأمثل لتحقيق المصلحة المجتمعية، وهنا أكون حرا بقدر التزامي به، وأصبح صادقا مصدقا بقدر تطابق ممارساتي العملية مع معتقدي النظري ذاك.

وهذا يعني أننا إذا ما الفينا شخصا لا يلتزم بالقيود التي ارتضاها عندما اعتقد في ايدلوجية معينة، فهذا يدلل على أنه مجرد دجال مشعوذ، لا ينتمي إلا لذاته، وما كلمات مثل المصلحة العامة ـ لديه ـ إن هي إلا تعاويذ يرددها لسانه، ويطلقها في أوجه الناس ابتغاء تضليلهم.

وهذه دعوة ٌ. لنلفظ جميعا ـ سواء أكنا إسلاميين أو ليبراليين أو يساريين ـ كل أولئك الدجالين والمشعوذين الذين يحيون بيننا، لنلفظ ذلك الاشتراكي الذي يبشر بالعدالة الاجتماعية، معلنا انحيازه للطبقات الفقيرة والمعدمة، ليحيا حياة الأمراء والملوك إن استطاع لذلك سبيلا. لنلفظ هذا الليبرالي الذي ما فتق يدعو لإطلاق الحريات وتطبيق الديمقراطية، وإذا ما أستقدمت أحدا غيره ليتصدر المشهد السياسي، كان أول المنقلبين عليها. لنلفظ ذلك الإسلامي الذي ما برح يحشو فمه بأحاديث القيم والأخلاق والمثل العليا، وإذا ما جد الجد أبصرت أمامك ميكافيليا خالصا، لا يقيم وزنا لأي قيمة أو مُثل. لنلفظ كل هؤلاء من حياتنا السياسية، وما أكثرهم!!. ولنتعاون ـ بعد ذلك ـ  فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. وحينها لن يكون هذا عسيرا كل العسر، بل سيصبح يسيرا كل اليسر، لأنه ـ عندئذ ـ سيكون تعاون بين أُناسٍ وإن كانوا ينتمون إلى أيدلوجيات متباينة، فهم عندها أبناء قيمة عظمى، يدين جميعهم لها بالولاء، قيمة الحرية ـ بحسب الطرح الذي قدمناه ـ وهذه رابطة وصلة نسب لا تنفصم.

محمد السيد الطناوى   

 

[email protected]

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 419 مشاهدة

ساحة النقاش

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

293,032