المستشفى بجوها الهادىء الرتيب ,لايعكر صفو هذا الهدوء سوى عربات الجيش المسلحة ,فرغم أنها لاتحدث صوتا بالمرة إلا أن مشهدها يثير في النفس الرهبة والخوف وهو شعور كفيل وحده أن يسبب إزعـاجا
غرفة منفردة بالمستشفى ذات نوافذ لاترى النور بينما يسدل عليها ستائر داكنة اللون , ويكتفى فقط باضاءة غير مباشرة تبعث ضوءا أبيض خافت وحامل معدني يحمل حقنة الجلوكوز أما السرير فكأنما لم يقربه بالمرة الغطاء والملاءة البيضاء والوسادات لازالت وكأنها معدة منذ دقائق لاستقبال هذا المريض المعتقل , حرس مدجج بالسلاح لايراه الرئيس المريض حيث يقف خارج الغرفة كأنه في حراسة صاروخ نووي قابل للانطلاق في أي وقت !!
يجلس على كرسي متحرك وثير نوعا ما أعد خصيصا له في الغرفة وقد رفض الرقود حتى على السرير , رغما عن نصح الأطباء بينما يرتدي روب أسمر فوق بيجامة لايرى لونها ويرى منه بصعوبة عينان زائغتان تلمح فيهما على الفور حيرة لاتتوقف عن السؤال لكنها لاتنطق , مع وجه مائل للاصفرار
وهناك نموذج لطائرة يحمل شعار مصر للطيران بالقرب من ركن قريب في الغرفة, تسمرت عيناه على الطائرة كأنه يسترجع تاريخا طويلا طويـلا و طال نظره الى الطائرة بينما يدخل المحقق لا شاب في منتصف الثلاثينات ربما كان يحبو حين تولى الرئيس الحكم ! دخل ومعه إثنان من مساعديه الى الغرفة فلم يشعر الرئيس بهما مطلقا كأنه لم يسمع حتى صوت الباب
تقدم اليه المحقق الشاب بأدب وهو نفسه لايصدق أنه آلان يبدأ التحقيق مع الرئيس أو الذي كان رئيس , إلا أنه أحس رباطة الجأش حين رد عليه الرئيس التحية بمجرد ايماءة , و تنفس المحقق الصعداء وعاد يستشير مساعديه عن المكتوب في أوراق التحقيق السؤال الأول والذي يليه وهكذا ثم بدأ المحقق سؤاله :
ـ ماذا تقول عم حدث يوم 28 يناير ؟!!
نظر اليه الرئيس برهة ثم عاد ينظر لاحقا الى نموذج الطائرة بشدة , ربمالايود النظر في وجه المحقق حتى لاتقع عيناه على عينه , ويبتلع ريقه بصعوبة ورغم ماعرف عن صحته الرياضية من قبل لكن مامن أحد يقاوم تجاعيد الوجه لسنوات والتي إزدادت وضوحا وكأن نسيجها اختلطت خيوطه مع بعضها ثم عاد يريد الاجابة على سؤال المحقق فقال :
يوم 28 يناير انا كنت في مكتبي كالعادة وجات لي اتصالات كثيرة من الداخلية , فوجئت باللي حصل , ازفهمت من حبيب إن الحالة عبارة عن شوية مظاهرات بسيطة و ها تنتهي في الحال , بعدها عرفت إن الحالة متأزمة وتأزمت أكثر لما كلمني حبيب قال أنا هاستخدم القوة أكثر .. ساعتها ... ساعتها ..
توقف الرئيس فجـأة عن الاسترسال في الاجابة ولم تتوقف عيناه عن النظر الى الطائرة النموذج , التي لم يفارق نظره اليها لحظةوكأنها تشده الى ماض قديم لايمكنه حتى صرف النظر عنه , ربما تمنى في نفسه أن تصبح هذه الطائرة حقيقية ليصعد اليها وتخفف عنه وطأة ما هو فيه
أحس المحقق وكأن الرئيس يحاول أن يأخذ نفسه لكن بصعوبة هذه المرة وقد تصبب العرق من جبينه بكثرة , فقام المحقق من مكانه محاولا استدعاء الاطباء شعر الحرس الخارجي للغرفة بالقلق فوضعا سلاحيهما أمام المحقق الذي طلب في عجــالة الطبيب أي طبيب
هرع الى غرفة الرئيس في الحال جمع من الاطباء وليس طبيبا واحدا , كان من بينهم طبيب ملتح هو من اقترب من الرئيس وحاول أن يضع سماعته الى صدره وبدى الرئيس فجأة عصبيا ضاربا بيده سماعة الطبيب وحامل حقنة الجلوكوز و مطلقا صوتا بعصبية شديدة :
ـ أوعـى انت كمــان .. ابعد
توقف كونسلتو الاطباء قليلا عن الاقتراب منه ولم يتقدم أحد سوى أنهم تكلموا بصوت واحد ليطمئنوه , وتحدثوا مع المحقق هل كانت هناك اسئلة مستفزة هل ؟ هل ؟ أجاب المحقق بثقة القاضي :ـ
لاشيئ .. لاشيئ ابدا أسئلة عادية مافيش استفزاز ثم عاد الرئيس الى كرسيه هادئا يحاول أن يسترد ثباته كما كان بينما الاطباء يعيدون في الحال تركيب الحقنة الجلوكوز التي أطاح بكاملها الى الارض
مرت لحظات قلق وتوتر عبئت المكان وكأنه دخان ملأ الغرفة كلها , ولم يسعف جهاز التكييف أو فازة الزهور الوحيدة أن تعكس حتى شيئا من الاطمئنان
و عاد المحقق بثبات أكثر وأعاد السؤال نفسـه :
ماذا تقول عم حدث يوم 28 يناير ؟؟ فأجاب الرئيس بحدة وكأنه لم يفقد توتره بعد :
انا مش جاوبت على السؤال ده قبل كده .. قلت لكم ميت مرة اجابته مع حبيب مش معايا مش معايا.... وكرر النفي أكثر من مرة .في هذه اللحظات بدى للمحقق أن ينصرف ومساعدوه ليعودوا في وقت آخر مناسب , وكان قرار بتأجيل التحقيق لليوم التالي وبينما المحقق ومساعدوه يستعدون للخروج يتحرك الرئيس بكرسيه المتحرك ببطء نحو الطائرة النموذج محاولا العبث بهـا محاولا أن يحركها بأصابعه أو يفتح بابها وبعد يأس من تحريك الطائرة توجه الى النافذة بكرسيه المتحرك ليفتح الستارة الثقيلة التي تكسوها شيئا فشيئا
التقت عينه و الشمس في أفق المغيب ويحاول بصعوبة أن يشهد مغربها الجميل فكم كان يسترعيه هذا المشهد الحاني الرقيق خاصة حينما تتدثر بين جبال شرم الشيخ الشامخة الأبية ذات اللون البني الجميل لكن عربات الجيش المسلحة المنتشرة والمحيطة بالمستشفى والمكان لاتكد تمنحه فرصة الاستمتاع بهذا المشهد الطبيعي الخلاب حيث حجبت معها خط الأفق البعيد , لحظات واختفت الشمس ولا يعرف أهي اختفت بين عربات الجيش الثقيلة أم بين الجبال ؟! وقد كان مشهد أليف يروق اليه كل يوم فقط قبل شهور قليلة !!
ساحة النقاش