س1: ما الذي يجعل هذه الملايين من الناس يقطعون هذه المسافات الطوال، ويتجشمون عناء السفر، ويأتون من كل فج عميق؟
ما الذي يجعل كل منهم ينفق آلاف الريالات (أو الدولارات أو الجنيهات...) كي يقضي سويعات معدودات في العمرة والطواف والصلاة في المسجد الحرام؟
إن كل إنسان يفكر بعقله ويبحث عن مصلحته وبخاصة في الأمور المادية، إذن لا بد أن هناك متعا تمسح عنهم عناء السفر، ومشاعر وقيما أحلى وأغلى عندهم من المال الذي أنفقوه.
ألا تتفق معي على ذلك؟
س2- لعلك تلحظ أن بعض الناس يكونون قريبين من الحرم ولا يذهبون إليه إلا نادرا،
وبعضهم يقطع الأميال الطوال، ليحظى بهذ الثواب الجزيل، وفريق ثالث يزرف الدموع ويدخر النقود تطلعا لزيارة البيت الحرام وليكون من ضيوف الرحمان، فمن الذي يتحكم في هذا الإدناء والإقصاء؟
يرى الكثيرون أن الأمر لا بد له من دعوة ربانية وتأشيرة سماوية، فهل رأيتم أحدا ينزل ضيفا على أحد دون أن يدعوه؟
وهل سمعتم أن أحدا في الظروف الطبيعية يدخل بيت أحد دون أن يستأذنه؟
3- ما المغزى من هذه التسمية العجيبة (العمرة)؟
نحن نقوم بعمرة لمحرك السيارة حين نريد صيانته وإصلاحه (عمرة موتور) ونقوم بعمرة للمبنى حين نريد ترميمه وتحسينه (عمرة للبيت)
فلأي شيئ نقوم بالعمرة في البيت الحرام؟
هل هي عمرة لأرواحنا، أم لقلوبنا، أم لنفوسنا، أم لقيمنا ومعتقداتنا، أم لسلوكياتنا، أم لترتيب أولوياتنا، أم هي عمرة شاملة لذلك كله؟
4- ثم ما السر في هذا الزي اللافت (الإحرام)؟
هل هو دعوة للتجرد من الدنيا حتى من ثيابها وكل منا ذاهب إلى البيت الحرام؟ أم هو إيذان بولادة جديدة؟ وهو يذكرنا بلحظة الولادة حين يخرج الإنسان من رحم الأم إلى رحم الحياة وليدا ضعيفا ؟ ويرتدي هذه اللفافات البيضاء الصغيرة، وما أشبهها بثياب الإحرام.
أم تذكير بأكفان الموت؟ حين تطوى الصفحات وتسكب العبرات ويخرج كل منا من هذه الدنيا وحيدا فريدا متجردا من كل شيئ أيضا إلا من عمله وما قدم؟
أم هو رسم لمشهد مصغر ليوم القيامة حين يبعث الناس من قبورهم ويحشرون إلى ربهم حفاة عراة متجردين من كل حطام الدنيا ومتعها؟ أم هو تأكيد للمساواة الإنسانية التي أعلنها النبي (ص) ومن العجيب أن يكون هذا الإعلان في حجة الوداع : والناس جميعا يرتدون الإحرام:( يا أيها الناس : ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر ، إلا بالتقوى ... ) ( صحيح مسند )
فقد تساوت الرؤوس وتوارت المناصب والمراسم والطقوس، خفت صوت المال والثروة وتوهجت جزوة الإيمان والتقوى، وصفت القلوب وزكت النفوس، وخشعت الأرواح لخالقها ، ورفعت أكف الضراعة لبارئها.
أم أن ارتداء لبس الإحرام هو ارتداء لثياب الجندية والفداء، وترديد لأنشودة التلبية والتوحيد أسوة بما فعله جدانا إسماعيل وإبراهيم؟ (عليهما السلام) ، فالثياب واحدة وهيئتها لافتة، ودلالاتها عميقة وإيحائاتها عديدة و فريدةتستلفت النظر وتستدعي التوقف والبصر.
5- وإذا كان ذي الإحرام يشير إلى التجرد والطهارة فإن كل إجراأت الاستعداد للعمرة والحج تؤكد على هذه المعاني وترسخها في جميع جوانب شخصية الإنسان:
-فالاغتسال للإحرام طهارة للجسد من الأدران،
-ولبس ذي الإحرام طهارة للثوب وتجرد من أبسط مظاهر الدنيا
-والاستغفار والتوبة طهارة للنفس من الذنوب والآثام،
-واشتراط حلال المال لقبول العمرة أو الحج هو اشتراط لطهارة المال ونظافة اليد.
-والنهي عن الرفس والفسوق والجدال هو تطهير لتصرفاتنا وسلوكياتنا الفعلية والقولية (...فلا رفس ولا فسوق ولا جدال في الحج وماتفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب ) (البقرة: 197 )
وأن يترك الإنسان ماله وعمله وأهله وأولاده ووطنه،هي دعوة وتدريب للقلب والذهن على التجرد ولو لسويعات معدودات عن كل ما سوى الله تعالى، ملبياً نداءه ومصححا مساره ،فهو الجدير وحده بالعبادة والتوحيدلأنه هوالمستحق للحمد، وهو المستحق بالحمد لأنهه المتفضل بالنعمة، وهو المتفضل بالنعمة لأنه هو صاحب الملك وحده لا شريك له: (لبيك اللهم لبيك،لبيك لا شريك لك لبيك ،إن الحمد والنعمة لك والملك
لا شريك لك)
وإذن فهي خواطر تتراقص، وأفكار تتعانق،ذنوب تتساقط، وفرحة تطفو، رؤى تتضح، آفاق تتسع، صغائر تتضائل، ومرايا تصفو.
ونسأل الله العفو والقبول.
وللحديث بقية.
بقلم:
د.أحمد مصطفى شلبي
Email : dr,a,[email protected]
ساحة النقاش