في انتظار القطار - تاريخ الأسطورة أم أسطرة التاريخ
قراءة الأديبة: وداد معروف
"يا أولادي إياكم أن تشعلوا الحروب, وإذا اشتعلت فلا تشاركوا فيها, فالحرب لا تنتج إعمارا ولا بناء في أي زمن من الأزمان, وكل من خاض حربا جائرة اخترع لنفسه مبررا, ليخفي خطأه أو قناعا يستر خطيئته, فالإنسان هو صانع القبائح على وجه هذه الأرض, لكنه مهما اجتهد فلن يصنع وجها أقبح من وجه الحرب"
بهذه السطور التي أنطق بها د. عمر فضل الله الشيخ الأمين الراوي - الذي يشبه الشاعر "أبو ربابة" – الذي كان يغشى المقاهي في بداية القرن العشرين ويحكي الحكايات والأساطير للناس فكان جهازا إعلاميا متنقلا, يساهم في تثقيف العوام ووصلهم بالتراث والتاريخ, هكذا كان الشيخ الراوي الذي جعله عمر فضل الله سمير قارئه طوال رحلته في رواية (في انتظار القطار) التي هي حلقة من سلسلة مشروعه الروائي الكبير الذي أسماه: الرواية المعرفية، أو الرواية العرفانية, الرواية صادرة عن دار البشير للنشر, هذا العام 2021م, في 271 صفحة, وقد اقتنيتها من معرض الكتاب, ألزم كاتبنا نفسه بهذا المشروع الروائي المعرفي, بعد ما نظر حوله فوجد الكتاب السودانيين قد كتبوا عن تاريخ منطقة شمال وشرق وغرب السودان لكنه شعر بفجوة معرفية لم تسد بعد في سرد تاريخ منطقة وسط السودان, التي ينتمي إليها كاتبنا فأخذ على نفسه أن يدرس تاريخها منذ آدم وحتى الآن, فأنتج لنا روايات ترجمان الملك، وتشريقة المغربي، وأنفاس صليحة، ورؤيا عائشة, وأطياف الكون الآخر، وكلها سعدت بقراءتها والكتابة عنها, في ترجمان الملك تحدث عن هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة، وفي تشريقة المغربي تحدث عن رحلة لرجل من بلاد المغرب إلى أفريقيا، أما في أنفاس صليحة فكانت رحلة عجائبية لفتاة هاجرت من بلاد المغرب إلى الحجاز إلى بلاد سوبا, واستعرضت رواية رؤيا عائشة الثورة المهدية مالها وما عليها, أما روايتنا هذه في انتظار القطار فهي تسلط الضوء على دخول الأتراك غزاة إلا بلاد السودان إلى مدينة بربر والمذابح التي أقاموها للسكان, ووصف فضل الله المذابح كأنك تقف عليها وتعاينها, من خلال هذه المعاينة تبدو لك الحروب بشعة مدمرة, كيف أن الغزاة يدخلون البلاد يحولون حياة الناس الوادعة إلى جحيم يأكل الأخضر واليابس, بطلا الرواية هما سعد وسعدية , فتى وفتاة أعلنت خطبتهما, واحتفل بهما الأهل وذهب سعد للدراسة في الأزهر, لكنه ضل طريقه وأخفق في حساباته وظن أن الأزهر قد ضعف مكانه فعاد معترضا على ضعف تلك المكانة, لكنه عاد في رحل الغزاة دليلا لهم على طريق وطنه, ودخل معهم, فتأملت كيف يظن الإنسان نفسه على صواب وتغيم رؤيته فلا يرى الحق حقا, ويظل هكذا دليلا لأعداء وطنه حتى يصحو ضميره على مذابح أهله, فيفنى فيها أهل قريته كلهم بما فيهم أبوه وأمه, وتتشرد خطيبته وتخرب البلاد, حينها يعرف أنه ضل الطريق, فيثوب إلى رشده, وقد وفق د. عمر في اختيار مهنة سعد فقد جعله ملاحا يهدي الغزاة إلى الطريق بينما هو في حقيقة الأمر ضل الطريق إلى وطنه, في لحظة تنوير كاشفة يتبرأ من الغزاة ويكون مع القلة المقاومة (نمر وقبيلته وشيعته) ويتصدى للغزاة, لكن القوى ليست متكافئة, فهذه البلاد الطيبة لا تعرف السلاح الآلي, ولا القنابل, لذلك كان الفناء والدمار.
استطاع عمر فضل الله أن ينقل لنا الحياة الاجتماعية في بلاد بربر بتفاصيلها, بدفئها وبساطتها, فهو أستاذ فن التفاصيل, لا يخفى عليك وأن تطالع سرده أنه عاشق لهذه الأرض إلى حد ربما التحيز, فحينما يسلبنا نحن المصريين بنوة سارة أم العرب وينسبها للسودان, فهو هنا متحيز, واغفر لي يا دكتور عمر, فهذه حقائق تاريخية لا جدال فيها,
اللغة عند دكتور عمر بطلة, تمضي جنبا إلى جنب مع أبطاله, لغة ناصعة تمتعك وتسحرك, ولا عجب فهو متحدث مفوه لسِن, أيضا أعجبنى تقسيمه للرواية وتسمية فصولها أحيانا بأسماء شخصيات وأحيانا أخرى بأسماء أماكن وأحيانا بسؤال, كفصل عنونه بــ (أين سعدية؟)
كان السؤال الملحاح دائما على الراوي أو الكاتب الذي يتخفى خلف الراوي هو: كيف لمسلمين أن يقتلوا مسلمين؟ في إشارة إلى الغازي التركى جنود محمد علي وجنود الدولة العثمانية أن يقتلوا إخوانهم المسلمين في بلاد بربر.
نسج عمر قصة حب رهيفة شفيفة بين سعد وسعدية, خففت من غلواء الدماء ولصم الآذان وسمل الأعين وبشاعة القتل, إنها وداعة الوطن وبرد السلام, وبراءة الأرض البكر, وأبدع الكاتب في ترقيق العبارات التي تصف بها سعدية سعد ويصف بها سعد سعدية, وذكرتني قصة غزل سعدية لسعد الطاقية والمنديل بأغانينا الجميلة – غزلاله يا اما بإيدي الطاقية- نفس العفوية والبكارة الجميلة,
في الختام أحيى الكاتب الكبير على هذه الوجبة المعرفية الشيقة التي أمدنا بها وأسعدنا بالإبحار معه في تلك البلاد الطيبة, مع أمنياتي له بمزيد من الإبداع المتفرد الذي تعودناه منه.
وداد معروف
ساحة النقاش