العلمانية والسلفية - رغم اختلافهما فهما لا يتعارضان -
أ. د. محمد كمال مصطفى ، استشارى إدارة وتنمية الموارد البشرية
أنت سلفى وأنا علمانى ، المعيار هو مجموعة المحددات التى يتم على أساسها القبول أو الرفض ، واستناداً إلى المعيار يتم تحديد المواقف ، فمعاييرك هى قيمك التى تقبل على أساسها سلوك الآخرين وأفعالهم ، وتقول استناداً إليها هذا معى وهذا ليس معى .
المعيار فى السلفية أو عند السلفيين أى الذى يتم على أساسه قبول الآخرين بالنسبة لهم هو ما كان يفعله السلف الصالح ، وهو أمر جميل ومقبول أن نستمد محددات وأسس قبولنا ورفضنا لسوك الآخر استناداً إلى معيار سلوك وأفعال السلف الصالح .. التى تبلورت فى الالتزام القائم على الإقتناع التام بأسس ومبادىء وقواعد الدين الإسلامى العظيم والتى تقوم على القيام بالتكليفات التى أمر الله بها المسلمون ، والالتزام عند التعامل مع الآخر بأخلاقيات الإسلام التى تقوم على التسامح والعدل والمساواة واحترام الآخر ، والأهم التكافل الاجتماعى (أن يدعم القادر غير القادر) والأكثر أهمية أن يكون السلوك التلقائى المعتاد للمسلم هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأن يكون النموذج الإنسانى قائم على زراعة وغرس ورعاية ونمو الضمير الحى ذلك الجهاز الداخلى الذى يجب أن يوجد فى كل مسلم يدفعه إلى فعل الخير ويمنعه عن الإقدام على أى ضرر بالآخر أيا كان هذا الآخر إنسان وحيوان ونبات وجماد ... كم هى معايير رائعة وجميلة وإنسانية ولا يمكن أن يختلف عليها أو معها أى إنسان فى أى مكان .
والمعيار فى العلمانية أى محددات القبول والرفض بالنسبة لها هى المعاصرة ، والمعاصرة تعنى التزامن ، والتزامن يعنى الارتفاع إلى مستوى معطيات الزمن الحالى من تقدم فى مختلف المجالات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ، المعاصرة تعنى الأخذ بكل أسباب التقدم أيا كانت ولكن تحت شرط مشروعية ما تأخذ به من هذه الأسباب ، والمشروعية هنا تستند إلى أخلاقيات المجال الذى تأخذ منه الأسباب (أسباب التقدم) ، فإذا كنت تأخذ من العلم فالعلم تحكمه أخلاقيات العلم وإذا كنت تأخذ من الفن فالفن أيضاً تحكمه أخلاقيات الفن .. ولكن هذه الأخلاقيات تتم بالاتفاق العام وتتسم بعدم الثبات فلا ثبات فى العلمانية كل شىء متغير لسبب بسيط وهو أن مضمون العلمانية هو تغيير الواقع نحو الأفضل ودفعه خطوات إلى الأمام بحيث يكون الغد أفضل من الحاضر ، وهو ما يعنى ديمومة التغيير نحو الأفضل ... العلمانية هى صناعة المستقبل ليس استناداً إلى أن الحاضر لا هو امتداد للماضى ولا أن المستقبل جنين فى رحم الحاضر ، وإنما هى الإيمان بأن المستقبل يمكن أن يكون لحظة فارقة شكلاً وموضوعاً ويمكن أن يكون تحولاً نوعياً يختلف كل الاختلاف عن الماضى والحاضر ..
فى العلمانية التاريخ لا يُصنع من الماضى وإنما يُصنع من المستقبل ، فى العلمانية لا سلطان على العقل إلا العقل ( وهى مقولة للفيلسوف الإسلامى ابن رشد ) ، فى العلمانية تعنى الاستنارة إزالة كل القيود التى يمكن أن تقف أمام التقدم .
فى العلمانية أنت أمام خيارين لا ثالث لهم إما أن تأخذ بالعلم كسبيل للتقدم ، وأن تتواءم مع العالم المتقدم وأن تدخل فى محيطه وأن توحد نظمك الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية معه أو أن تتخلف ، والتخلف معناه أن تكون وراء الزمن والوقوف وراء الزمن فى هذا الزمن معناه أن تكون مهدداً بالاندثار .
هذا هو معيار السلفية وهذا هو معيار العلمانية .. والسؤال هنا ما هو التعارض بين الاثنين فهل يرفض السلفيون التقدم ؟ ، وهل يرفض العلمانيون أن يمتلك الفرد حسن الخلق والضمير الحى ؟
وعلى الرغم من أن العلمانيون لا يعيشون فى الماضى ولا يقبلون أن يوجه الماضى لا الحاضر ولا المستقبل ، فإن هذا الاختلاف أيضاً لا يمكن أن يكون سبباً فى كل هذا العداء لأن التقدم أمر لا يمكن أن يختلف عليه عاقل كمطلب وهدف وغاية .. وأساس التقدم هو العلم .. وأعتقد أنه أمر لا خلاف عليه أيضاً .. والعلم هنا يعنى المناهج الشديدة التخصص والتعقيد المرتبطة بمختلف أنشطة الحياة والتى لا اجتهاد فيها إلا لطلبة العلم والعلماء .
إذا أين الاختلاف فيما بيننا ؟ .. أنتم السلفيون تلتزمون بالسلف الصالح خلقاً وسلوكاً وعملاً قائم على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. ولا خلاف فى ذلك ..
والعلمانيون يدعون إلى صناعة المستقبل استناداً إلى العلم ، وهم مهمومون بالتزامن والمعاصرة مع معطيات ومتغيرات التقدم العلمى والتكنولوجى ..
العلمانيون يسألون أنفسهم لماذا لا نحاكى كل التجارب التى أحرزت أعلى درجات التقدم والرفاهية لمواطنيها ؟ .. لماذا لا نبحث فى العلم عن كل أسباب القضاء على الفقر والجهل والمرض؟ ولماذا لا نقترب من الدول المتقدمة ومن مستوى تقدمهم ؟ ... العلمانيون يقولون لماذا لا نشاركهم إسهاماتهم فى تدعيم الحضارة الإنسانية ؟ ، ولماذا لا نسأل عن كل السبل والطرق التى تؤدى بنا إلى هذا ؟
فى العلمانية لا تدخل سبل وطرق التقدم التى تؤدى إلى التقدم لا بمبادىء ولا بقواعد موجودة فى الماضى ، ولكن بكل ما هو موجود فى العلم المعاصر .
والسلفيون مهتمون بماذا كان يفعل السلف الصالح وكيف نقتضى به فى كل الأمور، ولا غضاضة فى ذلك .
وهنا أقدم لك نموذجين واقعيين فى التفكير بين السلفية والعلمانية ، وعلى الرغم من اختلافهما فهما لا يتعارضان لا مع الدين ولا مع العلم ، فى السلفية يكون المطلوب مليون لحية ومليون منتقبة لإثبات الوجود والقوة ، وفى العلمانية يكون المطلوب مليون حاسب آلى لمليون طفل فقير للدخول إلى عالم التقدم .. فى السلفية يكون المطلوب مدرسة لتخرج الدعاة أو القضاة العرفيون لتدعيم الدين والإصلاح بين الناس ، وفى العلمانية يكون المطلوب مدرسة لرعاية الموهوبين لتدعيم العلم ، فى السلفية يكون المطلوب تجديد ألف مسجد لأنها بيوت الله وفى العلمانية يكون المطلوب تجديد ألف مدرسة لأنها بيوت العلم ، فى السلفية تكون الدروس الدينية بعد كل صلاة ، وفى العلمانية تكون دروس تكنولوجيا الحياة (الأساليب المادية فى تحسين جودة الحياة) بعد كل صلاة .
فى السلفية يكون هناك ملحق صغير لتحفيظ القرآن فى كل المسجد ، فى العلمانية يلتحق بالمسجد بجانب تحفيظ القرآن ركن لتدريس الرياضيات والكيمياء والطبيعة وكل العلوم الحديثة .. فى السلفية تكون الدعوة للتشبه بالمظاهر والسلوكيات الشكلية والموضوعية للسلف الصالح فى الزى واللحية والمأكل والحياة بشكل عام ، وفى العلمانية تكون الدعوة لنكون خير أمة أخرجت للناس بالعلم .
السلف الصالح قدم إلى العالم العديد من المنجزات العلمية التى أثرت البشرية فى زمانه لكن تذكروا دائماً من أن من قدم هذه الإنجازات هم أجدادكم من السلف الصالح وليس أنتم .. أنتم لم تكونوا امتداداً لهم فى هذا الشأن ولم تقدموا شيئاً .. وإذا تشبهتم بالسلف الصالح فى هذا ستقتربون من العلمانية لأنكم لن تقدمون إنجازات علمية للبشرية تشبهاً بالسلف الصالح إلا بالعلم والإيمان بالعلم .
هل تسمحوا لى دون غضب وانفعال أن أقول لكم أن مضمون خطابكم الذى يرفض ويكفر من ليس معكم لا يمكن أن يحدث تقدماً ، وأن قبول الآخر والمشاركة معه هو الذى سيحدث التقدم الذى نرجوه جميعاً .
واسمحوا لى أن أقول لكم إذا كان الهدف من دعوتكم هو السياسة والحكم وهو حق لكم فإن المشاركة فى الحكم لن تكون استناداً إلى تجارب السلف التى قامت على أساس واحد هو إما أن أحصل على كل المكاسب وإما القتال ( المكان لا يسع إلا لفريق واحد فقط ) تجارب السلف فى الحكم والسياسة لم تسمح للمشاركة بين الإمام على وبين معاوية، ولم تسمح إلا لفريق واحد أن يجلس فى الحكم فقط ، ولا يوجد فى تجاربهم مشاركة فى الحكم أو اتفاق وتواصل وحلول وسط إيجابية ، ولا يوجد فيها توزيع متوازن للقوة والنفوذ .. التجارب السياسية عند السلف قتلت الخلفاء ( سيدنا عثمان والإمام على ) وفرقت الأمة ( شيعة وسنة وخوارج .. ) وجلدت وسجنت الائمة العظام ( الإمام الأعظم أبو حنيفه والإمام مالك والإمام ابن حنبل ) .
لذلك لنُحكم العقل فيما ندعوا إليه ، ولنتفق على أمور محددة تكون أساس الاتفاق بيننا جميعاً أيا كانت اتجاهاتنا .
• أنه لا تخوين ولا تكفير للآخر فليس من حق أى واحد مهما كان تدينه أن يكفر مسلماً يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله .
• وأن دخول السياسة فى الدين والدين فى السياسة لم تكن تجاربه لا ناجحة ولا إيجابية عند السلف والتاريخ يؤكد ذلك .
• وأن نتفق على أنه لا بديل للعلم كسبيل للتقدم .
• وأننا كلنا سلفيون التزاماً بسلوك السلف الصالح فى العمل على جلب المنفعة للآخر ومنع الضرر عنه وغرس الضمير الحى الذى يدفعنا تلقائياً إلى فعل الصواب والابتعاد عن الخطأ .
أم لك رأى آخـــر ...