الاتجار بالبشر.. عبودية القرن الواحدوالعشرين
د. سماح محسن أبو الليل
إن الاهتمام بحقوق الإنسان قد أضحى يمثل ولا شك إحدى السمات الأساسية المميزة للنظام الدولي المعاصر، والذي أرسيت دعائمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبدت الحاجة ملحة إلى وضع قواعد وآليات حماية دولية لحقوق الإنسان، وأضحى لازمًا أن يخطو القانون الدولي في هذا المجال خطوات واسعة من أجل تدعيم هذه الحقوق، ووضع الضمانات اللازمة لتمتع الفرد بها في شتى بقاع الأرض.
تعد ظاهرة الإتجار بالبشر أحد أنشطة الجريمة المنظمة، والتي أضحت من بين أكثر المشكلات خطورة في عالم اليوم. وواحدة من أهم القضايا التي تعاني منها دول العالم كافة، خاصة في ظل تنامي الإدراك والوعي بخطورة هذه الظاهرة، وفهم واضح للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تؤدي إلى تنامي هذه الظاهرة، والعواقب المترتبة على ذلك، خاصة في ظل هذا الربط بين مفاهيم حقوق الإنسان وقضايا التنمية المستدامة من جانب، والقضايا الأمنية من الجانب الآخر، حيث ينظر إلى ظاهرة الإتجار بالبشر على أنها إحدى قضايا الأمن القومي والدولي، وليس فقط انتهاكاً لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
اتفقت الأدبيات المتعلقة بالإتجار بالبشر أو الإتجار بالأشخاص (Human Trafficking- Trafficking in Persons) على أنه يعتبر من أهم التحديات التي تواجه المجتمع المحلي والمجتمع الدولي على حد سواء في القرن الحالي. وترى كثير من الأدبيات أنه يعد نوعًا من العبودية الحديثة[1] Modern day Slavery ، كما يعد من أكبر مظاهر الاعتداء على حقوق الإنسان وحرياته. وتوصف جرائم الاتجار بالبشر بأنها وصمة عار وخزي للجميع وهي أيضًا أكبر نشاط غير قانوني في الوقت المعاصر[2].
ولقد اعتبر الاتجار بالبشر من أهم مصادر الدخل غير المشروع والاقتصاد الخفي بعد تجارة السلاح وتجارة المخدرات، من حيث الأرباح، ولكنه في الآثار والخطورة على مستقبل الإنسانية، يحتل المرتبة الأولى. فالاتجار بالبشر هو في واقع الأمر جريمة بكل المعايير ضد الإنسانية [3]Crime against Humanity.
أولاًـ مفهوم الاتجار بالبشر:
يمثل المفهوم الدقيق للاتجار بالبشر في المخالفة الواضحة والصريحة للطبيعة الإنسانية Human Nature إذ ينظر للإنسان- طبقًا لجريمة الإتجار بالبشر- من مخلوق كرمه الله عز وجل إلى سلعة يتم تداولها في الأسواق بين التجار العاملين في الصور المختلفة من أنشطة الإتجار بالبشر، حيث يصبح الإنسان ذاته محلاً للنشاط التجاري، شأنه شأن السلع المادية، التي تكون محلاً للانشطة التجارية اليومية.
ولذلك فجريمة الإتجار بالبشر جريمة ذات طبيعة خاصة باعتبار أن موضوعها سلعة متحركة ومتجددة هي فئة خاصة من البشر يعانون من الفقر الشديد والبطالة وعدم الأمان الاجتماعي، وهو في الغالب الأعم من النساء والأطفال، ومن ثم فإن لهذه الجريمة آثارًا اقتصادية واجتماعية وأخلاقية مدمرة.[4]
وهذه الظاهرة تمس بتأثيرها جميع البلدان والمناطق في العالم ، ولا تقف عند أي حدود جغرافية أو ثقافية أو سياسية أو دينية، كما أن ضحايا هذه الجريمة ومرتكبيها على حد سواء ينحدرون من جميع أنحاء العالم، لأنه ليس ثمة منطقة تتمتع بحصانة تحميها منه.[5]
ونظرًا لانتشار ظاهرة الإتجار بالبشر وتزايد أثارها الوخيمة على المجتمعين الدولي والداخلي، فقد أنشئت الكثير من الدول لجان وطنية، للرصد الظاهرة والعمل على مكافحتها واقتراح سبل القضاء عليها، ووضعت برامج للتوعية والمكافحة والتدريب.
ولكن من أهم الصعوبات التي تواجه الجهود على الصعيدين الدولي والداخلي، هي الصعوبة المتعلقة، بأن هذه الظاهرة تتم في الخفاء وبعيدًا عن أعين المجتمع، وتأخذ مظاهر قانونية، الأمر الذي يجعل كشفها ورصدها من الصعوبة بمكان. ويزداد الأمر صعوبة، إذا ما عرفنا أنها أصبحت الآن تتم في إطار الجريمة المنظمة، والعابرة للحدود. ولذا فمكافحة الاتجار بالبشر، بحاجة إلى اعتماد استراتيجية للتعاون الداخلي والدولي في المقام الأول.
ثانيًاـ الاتجار بالبشر في القانون الدولي:
جاء تعريف الإتجار بالبشر في المادة الثالثة من بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال، حيث عرفت المادة الثالثة من بروتوكول الأمم المتحدة ضد الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية لعام 2000 والخاص بمنع الاتجار بالأشخاص على النحو التالي:تجنيد أشخاص أو نقلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم بواسطة التهديد والقوة، أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو إساءة استعمال السلطة، أو إساءة استغلال حالة استضعاف، أو بإعطاء أو تلقي مبالع أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال، ويشمل الاستغلال كحد أدنى، استغلال بغاء الغير أو سائر أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسراً أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو نزع الأعضاء[6].
ويوضح الشكل رقم (2) أشكال الإتجار بالأشخاص وفقًا لبروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وخاصة النساء والأطفال:
وبخصوص موافقة ضحية الاتجار فإن البروتوكول المذكور لم يعط لتلك الموافقة أي اعتبار عندما يتم الإتجار بالضحية بواسطة استخدام أية وسيلة من الوسائل المبينة في التعريف، والتي تتمثل في التهديد بالقوة، أو استخدام تلك القوة ، أو غير ذلك من أشكال القسر، أو الاختطاف، أو الاحتيال، أو الخداع، أو إساءة استعمال السلطة، أو إساءة استغلال حالة استضعاف، أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية، أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر[7].
ثالثًاـ عناصر الإتجار:[8]
يتضح من التعريف الوارد في بروتوكول مكافحة الاتجار بالأشخاص ثلاثة عناصر، شكل رقم (3) :
ويعتبر هذا التعريف هو التعريف النموذجي الذي اتخذته الكثير من التشريعات المتعلقة بشأن مكافحة الإتجار بالبشر كنموذج لها، مع بعض الاختلافات.
وعلى الرغم من أن البروتوكول حدد هذه العناصر الثلاثة (الفعل والوسيلة و الغرض) مجتمعة لتحديد جريمة الاتجار بالبشر، مع أنه يمكن القول أنه لا يشترط توافر الثلاث عناصر مجتمعة للقول بأن هناك جريمة اتجار ولكن من شأن كل عنصر من هذه العناصر أن يكون كافيًا لوجود فعل إجرامي مستقل.[9]
وخلاصة القول.. إن تعريف الوارد في بروتوكول الاتجار بالبشر بين بإجمال عدد من الأغراض الاستغلالية، فهي أغراض منصوص عليها كحد أدنى وتنطوي على إمكانية إدراج أشكال أخرى من الاستغلال، ولذلك فإنه يجوز للدول أن تدرج أشكالاً إضافية من الاتجار، حسبما يكون ويتفق مع ظروفها على الصعيد الوطني، كما يجوز لها أن تعرف على نحو أكثر تحديدًا تلك الأشكال من الاتجار التي يحددها البروتوكول.
رابعًاـ أهم ملامح تطور مفهوم وإطار الإتجار بالبشر:
1ـ حدوث تحولات دولية لتعريف مصطلح الاتجار بالبشر، من العبودية Slavery إلى الاستغلال Exploitation، ولذا صار الاستغلال هو العنصر المحدد لقيام جريمة الإتجار بالبشر، لذا اشترطت المادة (2) من مكافحة الاتجار بالبشر في مصر أن يكون التعامل بقصد الاستغلال أيًا كان صوره…) وجاء أيضًا في نص المادة (3) أنه لا يعتد برضاء المجني عليه على الاستغلال.[10]
2ـ اتساع صور حالات قيام الإتجار بالأشخاص لتتمثل في (التسول ـ الخدمة المنزلية القسرية ـ التبني ـ السياحة الجنسية ـ استخدام الاطفال في المواد الإباحية ـ الاستغلال في النزاعات المسلحة ـ الاستغلال الجنسي… إلخ).
3ـ اتساع نطاق حركة مكافحة الاتجار بالبشر، فبعد أن كانت هذه الحركة مقصورة على الجهود الفردية، أصبح الإتجار بالبشر يكافح من قبل مؤسسات الدولة، وكذلك منظمات المجتمع المدني، باعتبار أن الاتجار بالبشر قضية مرتبطة بقضية حقوق الإنسان[11].
وتتمثل الأطر الرئيسية لمشكلة الاتجار بالبشر على المستوى العالمي والمستوى الاقليمي والداخلي فيما يلي:
ـ الطبيعة الخاصة لجرائم الإتجار بالبشر، فهي قضايا بحكم طبيعتها تكون عابرة للحدود الوطنية أو تحمل في طياتها عنصراً أجنبياً يتمثل في كون الجريمة قد تم الإعداد والتخطيط لها في دولة أخرى، وكون الضحايا والشهود ينتمون إلى دولة أجنبية، أو أن أحد العناصر المادية للجريمة قد تم في إقليم دولة أخرى، أو أن الجاني قد فر إلى دولة خلاف التي ارتكبت فيها الجريمة. مما يؤثر على صعوبة اكتشاف حالات الإتجار بالبشر.
ـ عدم وضوح رؤية المجتمع العالمي بالنسبة لمفهوم الاتجار بالبشر، حيث لم يتم الاهتمام به إلا مؤخرًا خاصة في المنطقة العربية، والجدير بالذكر أن أول تشريع وضع في مكافحة الاتجار بالبشر في الدول العربية هو قانون مكافحة الإتجار بالبشر الموريتاني (عام 2003) وتوالت التشريعات عمومًا على أثر صدور القانون الأمريكي بشأن (ضحايا الإتجار والعنف- قانون الحماية عام 2000، ومن ثم وضع القانون الأردني والقانون السوري والقانون العماني والقانون المصري.. وأخيرًا القانون العراقي 2012
ـ تأخر مواجهة الإتجار بالبشر وعدم تضامن مؤسسات المجتمع المدني مع الجهات الرسمية في مواجهتها، وهو أيضًا الأمر الذي تنبهت إليه أخيرًا الكثير من التشريعات المتعلقة بمكافحة الاتجار بالبشر وكذلك اللجان الوطنية التي شكلت لمكافحة الظاهرة.
ـ تنوع أدوار الدول بما فيها الدول العربية العربية بالنسبة لظاهرة الاتجار بالبشر، ما بين دول مصدرة (مصر- الجزائر- لبنان)، ودول مستوردة (بلدان الخليج- لبنان) ودول تقوم بأدوار مزدوجة مثل مصر ولبنان.
ـ توافر الغطاء القانوني للكثير من صور الاتجار بالبشر، الأمر الذي يؤدي إلى صعوبة تحديد حالاته بدقة، فالاتجار بالعمالة Labor trafficking يتم عن طريق عقد عمل، والاتجار بالنساء Trafficking in Women وهو متعدد المظاهر يتم عن طريق عقود عمل وعقود زواج.
ـ ضرورة التركيز على عنصر الاستغلال Exploitation كأحد العناصر الأساسية لقيام جريمة الإتجار بالبشر، مع ضرورة الاهتمام بإيضاح مفهومه، لأنه يعتبر من أحد عناصر قيام جريمة الاتجار بالبشر[12].
ـ تعدد أسباب ارتكاب جرائم الإتجار بالبشر ما بين ظروف اقتصادية وسياسية ودينية وأمنية، متمثلة في مجموعة من العوامل مثل التفاوت الاقتصادي وانتشار الفقر، وانتشار الفساد وعدم الاستقرار، وانتشار الحروب.. وغيرها.
ـ فداحة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والأمنية المترتبة على جريمة الإتجار بالبشر، الأمر الذي يستوجب ضرورة مكافحتها ونظرًا لفداحة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تترتب على جريمة الإتجار بالبشر، فقد وقف المجتمع الدولي والمجتمع المحلي لمواجهتها مواجهة فعالة، ولكن ما زال خطواتهما في هذا الصدد غير كافية لتخفيف منابع هذه الجريمة النكراء ومواجهة آثارها.
ونخلص القول أنه ـ كما ذكر سابقًا ـ بأن جريمة الإتجار بالبشر تعد تهديدًا للسلامة الشخصية على المقاييس الدولية القانونية التقليدية، إلا أنها بالمفهوم الأشمل تعد تهديدًا للأمن الإنساني بأكمله، حيث يتماشى ذلك مع بروتوكول الأمم المتحدة لمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص خاصة النساء والأطفال، ويعرف الرق والممارسات الشبيهة بالرق، أنهما شكلان فقط من أشكال عدة للاتجار بالبشر، وبالتالي التعريف الأوسع للاتجار بأنه الاستغلال والتي تشمل المواقف التي يتعرض فيها أحد الأشخاص للسيطرة أو التأثير غير المستحق من شخص آخر ولكن دون أن يستعبده.[13]
هذا لسان حال 27 مليون إنسان حسب إحصاءات عام 2009، 80% منهم من النساء والأطفال يعيشون في ظلّ العبودية الحديثة أو ما يعرف بتجارة البشر. ويتعرض حوالي 3 ملايين إنسان في العالم للاتجار بهم سنوياً، بينهم 1.2 مليون طفل. حيث يتمّ الإتجار بطفلين على الأقل في الدقيقة للاستغلال الجنسي أو العبودية. كما يتنقل ما يتراوح بين 45 ألف – 50 ألف من الضحايا إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنويا. وتقدّر منظمة العمل الدولية في آخر تقرير لها أرباح استغلال النساء والأطفال جنسيًا بـ28 مليار دولار سنويا، كما تقدر أرباح العمالة الإجبارية بـ32 مليار دولار سنويًا، وتؤكد المنظمة أن 98% من ضحايا الاستغلال التجاري الإجباري للجنس هم من النساء والأطفال. فعلى سبيل المثال تمثل عائدات الدعارة من 10 إلى 14% من إجمالي الناتج المحلي في اليابان حيث تحقق هذه التجارة 400 مليون دولار سنوياً، أي ما يعادل 4 تريليون ين ياباني.[14]