ولا تركنوا إلى الذين ظلموا 01/08/2010 من جملة إعجاز القرآن الكريم أن الآية الواحدة فيه لا تفهم حق الفهم إلا من خلال السياق والسباق الذي وردت فيه، وهي في الوقت نفسه يمكن أن تشكل بناء موضوعياً مستقلاً، يمكن أن يُكتب فيه كتاب.. | |||||
|
|
قراءة : 13848 | طباعة : 870 | إرسال لصديق :: 9 | عدد المقيمين : 18 |
من جملة إعجاز القرآن الكريم أن الآية الواحدة فيه لا تفهم حق الفهم إلا من خلال السياق والسباق الذي وردت فيه، وهي في الوقت نفسه يمكن أن تشكل بناء موضوعياً مستقلاً، يمكن أن يُكتب فيه كتاب برأسه. ولا عجب في ذلك، فهو كتاب الله المفتوح، الذي تتولد بقراءته المعاني على مر الدهور، وتُنتج بتأمله الأفكار على مدى العصور.
وتأسيساً على ما تقدم، نتجه في هذا المقال إلى الوقوف عند آية كريمة تشكل بذاتها منهجاً للمسلم، ونبراساً للمؤمن، يُستضاء به في دروب هذه الحياة المليئة بالفتن والمحن والمغريات والملهيات، والمقدمات والمؤخرات. يقول عز من قائل مخاطباً عباده المؤمنين: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} (هود:113).
هذه الآية الكريمة تستدعي العديد من الوقفات، نقتصر منها في هذا المقام على الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: فسر أئمة اللغة (الركون) بمطلق الميل والسكون إلى الشيء. وذكر القرطبي أن حقيقة الركون في اللغة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به. ولعله مأخوذ من الركن، وهو دعامة كل بناء، قال تعالى: {أو آوي إلى ركن شديد} (هود:80).
وللسلف أقوال في المقصود من هذا النهي القرآني؛ فالمنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما قولان: أحدهما: النهي عن الركون إلى أهل الشرك. ثانيهما: النهي عن مداهنة أهل الظلم، على معنى قوله تعالى: {ودوا لو تدهن فيدهنون} (القلم:9)، والمداهنة نوع من النفاق والمصانعة، ومداهنتهم تكون بالرضا على ظلمهم وعدم الإنكار عليهم.
وروي عن أبي العالية، قوله: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}، يقول: لا ترضوا أعمالهم.
وروي عن قتادة، قوله: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}، يقول: لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه.
وقال الطبري في معنى النهي: ولا تميلوا، أيها الناس، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم، وترضوا أعمالهم. قال ابن كثير تعقيباً على قول الطبري: وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنكم قد رضيتم بصنيعهم.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، تفيد النهي عن الرضا والقبول بما يفعله أهل الكفر والظلم.
وقد استخدم القرآن الكريم لفظ (الركون) وهو مطلق الميل، ما يفهم منه من باب أولى المنع من موالاة أهل الظلم ومناصرتهم. فالتعبير بـ (الركون) يحمل دلالة أبلغ على المراد من هذا النهي، على حد قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (المائدة:90). فالتعبير بـ (الاجتناب) أبلغ من التعبير بقوله: (لا تشربوا الخمر، ولا تتعاطوا الميسر...).
وعلى الجملة، فإن لفظ (الركون) دال على النهي عن الميل إلى الذين جعلوا الظلم شعارهم، وتخطوا حدودهم، وجاوزا خط الاعتدال، وداسوا كرامة الحقوق، وجعلوا الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وتجردت قلوبهم من خشية الله.
الوقفة الثانية: قوله تعالى: {الذين ظلموا} للمفسرين قولان مشهوران في تحديد المراد بـ {الذين ظلموا}، الأول: أن المراد أهل الشرك تحديداً، فتكون الآية خطاب للمؤمنين باجتناب أهل الشرك والبعد عنهم. الثاني: أن المراد أهل الظلم من المشركين والمسلمين، فيكون اللفظ عاماً، يشمل كل ظالم سواء أكان مؤمناً أم كافراً. وقد رجح القرطبي أن المراد من الآية أهل الظلم عموماً، فقال: وهذا هو الصحيح في معنى الآية؛ وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة.
وقال الشوكاني: وهذا هو الظاهر من الآية - أي أن ظاهرها العموم -، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون، لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وكلمة (ظلموا) في الآية ليست قاصرة على أولئك يظلمون الناس من منطلق وضعهم السياسي والسلطوي، بل يشمل أيضاً أولئك الذين يظلمون الناس من منطلق وضعهم الاقتصادي والمادي، حيث يضيقون على الناس في لقمة العيش، ويحاصرونهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم ومسكنهم ومتجرهم، ويشمل أيضاً أولئك الذين يظلمون الناس من منطلق وضعهم الاجتماعي، وذلك بالتفريق بينهم على أساس العرق واللون والمعتقد.
وبحسب هذا الفهم الواسع للآية، فإن الآية لم تنهنا عن مبايعة من بيده مقاليد الأمور والخضوع لسلطانه، بل نهتنا عن الركون والميل القليل إلى أولئك الذي جعلوا الظلم سمتهم وشعارهم في مناحي الحياة كافة.
الوقفة الثالثة: رتبت الآية الكريمة نتيجتين على الركون إلى أهل الكفر. أولهما: دنيوية، وهي عدم النصر والمعونة من الله. ثانيهما: عذاب النار في الآخرة. وهاتان النتيجتان مستفادتان من قوله تعالى: {فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}، فكأنه سبحانه يقول لنا: إنكم إن رضيتم بمسلك أهل الظلم، ومشيتم في ركابهم، وناصرتموهم في باطلهم، مستكم نار جهنم في الآخرة، ولم ينصركم الله في الدنيا، بل يخلِّيكم من نصرته، ويسلط عليكم عدوكم، ويخذلكم. وهذا ما عليه حال الأمة اليوم.
الوقفة الرابعة: قال المحققون من أهل العلم: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة. أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم، ومشاركتهم في شيء مما هم عليه من المخالفات والمنهيات؛ فأما مداخلتهم لرفع ضرر، واجتلاب منفعة عاجلة، فغير داخلة في الركون. وإنما يكون هذا من طريق تدبير أمر المعاش والرخصة، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية؛ إذ إنه سبحانه كاف عباده عن جميع خلقه: {أليس الله بكاف عبده} (الزمر:36).
الوقفة الخامسة: قال ابن عاشور: هذه الآية أصل في سد ذرائع الفساد المحققة أو المظنونة. وسد الذرائع دليل شرعي معتبر، تبنى عليه العديد من الأحكام، فكل ما أدى إلى تعطيل فرض شرعي فلا يجوز قربانه، وكل ما أدى إلى تحريم ما أحل الله فلا يجوز إتيانه، وكل ما أدى إلى تحليل ما حرم الله فلا يجوز تناوله.
ولا يحسن بنا أن نختم الحديث عن هذه الآية من غير أن نذكر قول الحسن البصري المتعلق بهذه الآية الكريمة، حيث قال: جعل الله الدين بين لاَئين: {ولا تطغوا}، {ولا تركنوا}. فقد لخص الحسن الدين كله بأمرين: النهي عن الطغيان، والنهي عن الركون إلى الظالمين. وفي هذا دلالة على أهمية تجنب الركون إلى أهل الظلم؛ لما في ذلك من توهين لأمر الدين، وإضعاف لشأنه.
ساحة النقاش