كتاب تزكية النفس في الإسلام وفي الفلسفات الأخرى

"دراسة تحليلية" (6)


معنى التزكية:

أ) معنى التزكية لغة:

"زكا: الزكاء ممدود: النماء والريع، زكا يزكو زكوًا، وفي حديث علي - رضي الله عنه -: المال تنقصه النفقة، والعلم يَزْكُو على الإنفاق.

 

والزكاة: الصلاح، ورجل تقي زكيّ؛ أي: زاكٍ من قوم أتقياء أزكياء، وقد زكا زكاءً وزكوًا، وزَكِي وتزكَّى وزكَّاه الله، وزكَّى نفسه تزكية؛ أي: مدحها.

 

وزكَّى الرجلُ نفسَه إذا وصفها وأثنَى عليها.

 

والزكاة: زكاة المال معروفة، وهي تطهيره، والفعل منه: زكَّى يزكِّي تزكية: إذا أدَّى عن ماله زكاته، وقوله - تعالى -: ﴿ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، قالوا: تطهِّرهم بها.

 

قال أبو علي: الزكاة: صفوة الشيء... وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 4]، قال: هم الذين للزكاة مُؤتُون، وقال آخرون: الذين هم للعمل الصالح فاعلون، وقوله - تعالى -: ﴿ خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً ﴾ [الكهف: 81]؛ أي: خيرًا منه عملاً صالحًا، وقال الفراء: زكاة صلاحًا، وكذلك قوله - عز وجل -: ﴿ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ﴾ [مريم: 13]، قال: صلاحًا.

 

قال أبو زيد النحوي في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ﴾ [النور: 21]، وقُرِئ: ﴿ ما زكَّى منكم ﴾، فمَن قرأ: ﴿ ما زكا ﴾؛ فمعناها: ما صلح منكم، ومَن قرأ: ﴿ ما زكَّى ﴾، فمعناه: ما أصلح، ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ أي: يصلح، وقيل: لما يخرج من المال للمساكين من حقوقهم زكاة؛ لأنه تطهير للمال، وتثمير وإصلاح ونماء.

 

وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة، والنماء، والبركة، والمدح"[1].

 

"زكا الرجل إذا كان ذا فضل؛ فهو زاكٍ، وزكى يزكي زكًا، أو زكى الغلام كان زكيًّا؛ أي: حسن النمو، صالح الحال، ذا فضل، رفيع الشأن.

 

والزكي هو: الحسن النمو، الصالح، الرفيع الشأن، النامي على الخير، والأزكى هو الأنفع والأدعى إلى الخير والبركة"[2].

 

لقد وردت هذه المادة في نحو تسعة وعشرين موضعًا من القرآن الكريم، دون عد (الزكاة)، والتي ذُكِرت في نحو اثنين وثلاثين موضعًا، ويلحظ المتدبِّر للآيات في المادة المذكورة ما يلي:

1- أن فعل التزكية يأتي مسندًا إلى الله - تعالى - تارة، وإلى العبد تارة؛ وهذا لأن تحصيل التزكية يحتاج إلى جدٍّ ومثابرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يحتاج إلى مزيد لطف وعون، وفضل منه - سبحانه وتعالى - فلا يعتمد على نفسه دون طلب العون من ربه.

 

2- أن معظم الأفعال الواردة هي من باب الفعل المضارع؛ دلالة على أن التزكية عملية قائمة بذاتها على صاحبها، قلبًا وقالبًا، وعملاً وسلوكًا، وأنها عزيمة متجددة ومتكررة لا تتوقف، تشمل الدنيا والآخرة.

 

3- تشير الآيات إلى عمق هذا المصطلح؛ إذ له أهمية في صياغة الشخصية المسلمة"[3].

 

ومن المعاني اللغوية السابقة للتزكية ما يلي:

1) الزيادة والبركة والنماء.

2) الصلاح والإصلاح.

3) التطهير.

4) التثمير.

5) التعديل وهو الثناء والمدح.

6) السمو والرفعة والفضل.

7) صفوة الشيء: الصفوة خيار الشيء "خلاصته"[4].

 

معنى التزكية الاصطلاحي:

لقد بيَّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معنى تزكية النفس بقوله: ((أن يعلمَ أنَّ الله - تعالى - معه حيث كان))؛ كما جاء في الحديثِ عن عبدالله بن معاوية الغاضري - رضي الله عنه - حدَّثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث مَن فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان، مَن عبد الله - تعالى - وحدَه، بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيِّبة بها نفسُه في كل عام، ولم يعطِ الهَرِمة، ولا الدَّرِنة، ولا المريضة، ولكن من أوسط أموالكم؛ فإن الله - تعالى - لم يسألْكم خيرَها، ولم يأمركم بشرها، وزكَّى نفسه))، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: ((أن يعلم أن الله - تعالى - معه حيث كان))[5].

 

و"هي: مداومة الإنسان الراغب في الخير على تعهُّد نفسه بالترقية، وتنزيهها وتنقيتها من المعاصي والرذائل والعيوب، ومجاهدتها وحملها على طاعة الله - عز وجل - واكتساب العلم النافع، والعمل الصالح، والتحلّي بجميع الأخلاق والأفعال والأقوال، وإرادة الخير للنفس، ولمن معها في وجودها"[6].

 

• كما أن "التزكية؛ هي: عملية تطهير وتنمية شاملين، هدفها استبعاد العناصر المُوهِنة لإنسانية الإنسان، وما ينتج عن هذا الوهن من فساد وتخلُّف وخسران، وتنمية كاملة للعناصر المحققة لإنسانية الإنسان، وما ينتج عن هذه التنمية من صلاح وتقدم وفلاح في حياة الأفراد والجماعات.

 

فالتزكية حسب هذا التعريف نوعان:

1) تزكية معنوية، ميدانها العقيدة والقيم والثقافة.

2) تزكية مادية، مادتها النظم والتطبيقات[7].

 

• كما أنها "هي تطهير النفس وتربيتها وتزكيتها، من الشرك وما يتفرع عنه، وتخلُّقها بأسماء الله الحسنى، مع العبودية الكاملة، وكل ذلك من خلال متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم"[8].

 

كما أن "التزكية عملية ومنهج، وأسلوب بناء الذات الحرة المختارة، التي تحكَّمت في نفسها، فيسهل عليها أن تَحكُم العالم وتَقبَل الآخر، وتبنِي دون تهدم، وتدفع بالتي هي أحسن، وتنشد الحكمة، وتخالف الهوى والشطط، وتقاوم الظلم؛ فهي في النهاية تحب لأخيها ما تحب لنفسها"[9].

 

وتعرف بأنها "العلم الذي يتكفَّل بتزكية النفس وتهذيبها، وتحليتها بالفضائل، وتخليتها من الرذائل النفسية والخلقية، والدعوة إلى كمال الإيمان، والحصول على درجة الإحسان، والتخلق بأخلاق النبوة، واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفاته الباطنة وكيفياته الإيمانية"[10].

 

وتعرف بأنها "تطهيرها من أمراض وآفات، وتحققها بمقامات، وتخلُّقها بأسماء وصفات؛ فالتزكية في النهاية تطهر وتحقق وتخلق"[11].

 

إذًا؛ فالتزكية هي: إدراك حقيقة لا يعرف مداها إلا مَن عَرَفها معرفة تامة، فهي عبارة عن معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتصديق به عقدًا، والإقرار به نطقًا، والانقياد محبة وخضوعًا، والعمل به ظاهرًا، والقيام بالدعوة لما جاء به بحسب الإمكان، والمحبة في الله، والبغض فيه، والعطاء في الله، والمنع فيه، وأن يكون الله وحدَه المعبود، ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا وباطنًا، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى  ما سوى الله ورسوله؛ "فالتزكية شيء زائد عن العلم؛ إذ العلم يعطي القواعد والبيان لكل شيء، فالتزكية تطبيق لهذا العلم على النفس البشرية وأمراضها وأغراضها، ومعرفة التطبيب وطرقه، ومعرفة بالكمال، وكيفية النقل إليه، وأدوات ذلك فراسة خاصة بكل نفس؛ لنقلها من حال إلى حال، وهذا شيء للكسب فيه نصيب، ولكن عطاء الله هو الأساس"[12].

 

قال الله - تعالى -: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، "ولولا اللهُ ما زَكَى منهم أحدٌ، ولا تطهَّر ولا ارتفع، ولكنه أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليطهِّرَهم، يطهِّر أرواحهم من لوثة الشرك، ودنس الجاهلية، ورجس التصوُّرات، التي تثقل الروح الإنسانية وتطهّرها، ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات، فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة، والذين لا يطهِّر الإسلامُ أرواحَهم في جنبات الأرض كلها قديمًا وحديثًا، مرتكسون في مستنقع آسن وَبِيء من الشهوات والنزوات، تزوي إنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة، وهي أنظف كثيرًا مما يَهبِط إليه الناس بدون الإيمان، ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش، والسلب والنهب.. وهي كلها دنس تلوث الأرواح والمشاعر، وتلطخ المجتمع والحياة، ويطهر حياتهم من الظلم والغي، وينشر العدل النظيف الصريح الذي لم تستمتع به البشرية كما استمعت به في ظل الإسلام، وحكم الإسلام ومنهجه، ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف"[13].

 

لذا قال الله - تعالى -: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 14]، والله عندما أمر رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - بأخذ صدقةٍ من أموالهم؛ لكي يطهرهم ويزكيهم، ويزكي أموالهم، فقال - تعالى -: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]؛ "أي: تطهِّرهم من الذنوب، أو حبِّ المال المؤدي بهم إلى مثله، وقُرِئ "تُطْهِرهم" من أطهر، بمعنى طهرة، "وتطهِّرْهم" بالجزم جوابًا للأمر، ﴿ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾، تنمِّي بها حسناتهم وترفعهم إلى منزلة المخلصين"[14].

 

• فصاحب النفس المزكاة يُظهِر حسن الأدب، والمعاملة مع الله؛ قيامًا بالحقوق التي أمره الله بها، والنهي عما نهى عنه، بما في ذلك بذل النفس جهادًا في سبيله، ومع الناس على حسب ما يقتضي المقام، وعلى التكليف الرباني.

 

والإسلام "جعل أساس التزكية التهذيب لا الكبت، والإسلام يعترف بالطاقات الحيوية في الإنسان، ولا يعطِّلها عن الممارسة، ولا يلغيها، ولكنه ينظِّم عملها بما يحقق الخير والإيجابية، ويؤدِّي إلى إقامة المجتمع الصالح من غير عدوان من إنسان على حق إنسان.

 

وهو في ذلك يجمع ضرورات الجسد وأشواق الروح، ويعطي كلاًّ نصيبه المعقول، ويُقِيم للمزاوجة بين ذلك ضوابط وحدودًا"[15].

 

فلم يأمرْ إلا بوسطية تحقِّق للإنسان ما يُرِيد؛ ليعيش كريمًا عفيفًا مؤديًا لأوامر الله، مُشبِعًا لرغبته الفطرية، في ضوء كتاب الله وسنة نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم.



[1] محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت، ص64 65.

[2] حسن سعيد الكرماني، الهادي إلى لغة العرب، دار لبنان لطباعة والنشر، بيروت، 1411هـ -1991م، ج 7، ص370.

[3] إبراهيم محمد العلي، مرجع سابق، ص9 بتصرف.

[4] محمد بن مكرم بن منظور، مرجع سابق، ص7، ص370.

[5] سليمان أحمد الطبري، المعجم الصغير، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ 1983م، ج1، ص201.

[6] سمر محمد العريفي: صلاحية مصطلح التزكية الإنسانية، جامعة الملك سعود، الرياض، 1423هـ 2003 م، ص7.

[7] ماجد عرسان الكيلاني، مناهج التربية الإسلامية، عالم الكتب، بيروت 1416هـ 1995م، ص142.

[8] إبراهيم محمد العلي، مرجع سابق، ص9.

[9] نشأت جعفر: الحرية في الإسلام، د. ن، 1424هـ 2003م، ص175.

[10] أبو الحسن علي الندوي، مرجع سابق، ص10.

[11] سعيد حوى: المستخلص في تزكية الأنفس، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، 1427هـ 2006م، ص3.

[12] سعيد حوى: الأساس في التفسير، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، 1412هـ 1991م، ج1، ص322، 323.

[13] سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، 1400هـ 1980م، ط9، ج 1، ص138.

[14] عبدالله بن عمر البيضاوي، تفسير البيضاوي، دار الكتب العلمية، بيروت 1408هـ 1988م، ج1، ص320.

[15] أنور الجندي: التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1392هـ - 1975م، ص158.

 



   


 


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/53454/#ixzz2RWXw6s84

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 57 مشاهدة
نشرت فى 26 إبريل 2013 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,624,394