العقل العلمى.. من البساطة إلى الجسارة

  بقلم   د. عمرو الزنط    ١/ ١٠/ ٢٠١١

عند حدوث الخسوف القمرى، يمر القمر فى نطاق ظل الأرض، التى تقع فى هذه الحالة بينه وبين الشمس، فتحجب عنه نور الشمس، ليغيب فى الظلام جزئياً أو كلياً حتى يعبر منطقة ظل الأرض. من هذه الملاحظة البسيطة يمكن حساب المسافة بين الأرض والقمر، فالزمن الذى يأخذه القمر لعبور ظل الأرض يعتمد على حجم الأرض، والزمن الذى يأخذه القمر للدوران حول الأرض، وهو الشهر القمرى، يعتمد على طول مداره حول الأرض، أى على المسافة بين القمر والأرض. هكذا يمكن استنتاج علاقة بسيطة تربط بين حجم الأرض والمسافة بين الأرض والقمر.. هذه حسبة كانت معروفة للقدماء، وعندما استطاع «إيراتوسثينس»- المدير الثالت لمكتبة الإسكندرية القديمة- أن يحدد حجم الكرة الأرضية بدقة، صارت المسافة إلى القمر محددة هى الأخرى.

الطريقة التى حدد من خلالها هذا العالم الإسكندرانى القديم حجم الأرض كانت غاية فى الأناقة هى الأخرى. فقد لاحظ أن ظلال العصيان والعمدان فى الإسكندرية تختلف عن مثيلتها فى أسوان، وأن ذلك معناه أن الأرض لا يمكن أن تكون مسطحة، وأن أبسط الفروض إذن أن تكون كروية.. فى هذه الحالة يمكن تحديد النسبة بين طول المسافة بين الإسكندرية وأسوان (التى قام بقياسها) ومدار الأرض ككل. هكذا استطاع «إيراتوسثينس» أن يستنتج (ومنذ أكثر من ألفين ومائتى عام!) حجم الأرض بدقة.

اللافت للنظر هنا بساطة الملاحظات المتعلقة بظلال العصيان والعمدان.. ولنلاحظ أيضا بساطة الافتراضات- كفكرة كروية الأرض- وأخيرا عمق ونطاق الاكتشافات الناتجة عنها.. لآلاف السنين استخدم الإنسان العصى فى سياق عدوانى، فى سبيل إخضاع الآخر والسيطرة عليه، أما مدير مكتبة الإسكندرية الثالث فقد استخدمها، واستخدم عقله، لمعرفة حجم الكوكب الذى نعيش على سطحه والمسافة التى تفصله عن قمره.. ويعتقد بعض المؤرخين أنه تمكن كذلك من حساب المسافة بين الأرض ونجمها (الشمس) بدقة فائقة.

أما أول حساب دقيق فى العصر الحديث للمسافة بين الأرض والشمس، فكان للعالم «كاسينى» فى سنة ١٦٧٢، وكانت الطريقة التى استخدمها هى نفسها التى يستخدمها المقاولون فى استنتاج طول الأضلاع المحيطة بالأراضى، وذلك عند قياس ضلع واحد، ثم استنتاج الباقى عن طريق قياس الزوايا بين أطراف الأضلاع الأخرى باستخدام المنظار المخصص لذلك، وأعتقد أن معظم القراء قد شاهدوا تلك العملية بالفعل فى مواقع البناء.. لكن لأن المسافة إلى المريخ كبيرة، فإن «الضلع المعلوم» الذى استخدمه «كاسينى» كان يجب أن يكون متناسباً معها.

استخدم «كاسينى» المسافة بين باريس وجزر جويانا الفرنسية، ورصد موقع المريخ من هذين المكانين فى نفس الوقت، ومن الفرق بين زوايا الرصد استطاع استنتاج المسافة بين الأرض والمريخ.. وبحسبة مثلثية أخرى، تضمنت مثلث الأرض - المريخ - الشمس هذه المرة، استطاع أن يحدد المسافة بين الأرض والشمس.

لكن ماذا عن المسافة إلى النجوم؟ يمكن تحديد المسافة للنجوم بنفس «طريقة المقاولين».

لكن لأن المسافات إلى النجوم أكبر، فإن «الضلع المعلوم» يجب أن يكون أطول، فلا يمكن استخدام المسافة بين باريس وجويانا هذه المرة، إنما يمكن استخدام المسافة بين الأرض والشمس، ولأن الأرض تدور حول الشمس فإن الزاوية التى تحدد مكان النجوم تتغير على مدار السنة، وهذا التغير يحدد المسافة بيننا وبينها. تم تطبيق هذه الطريقة فى بداية القرن التاسع عشر، فوجدنا مسافات شاسعة تقاس بالسنين الضوئية، واستنتجنا أن النجوم «شموس» مثل شمسنا، وأن الضوء الآتى منها يبدو خافتا، نظراً لبعدها عن مجموعتنا الشمسية.

والسؤال البديهى، الذى تبع هذا الاكتشاف تعلق بالطبع بإمكانية أن تكون لهذه الشموس كواكب تدور حولها، مثلما تدور الأرض حول شمسها. وكان اعتقاد معظم علماء الفلك منذ حين أن الرد على هذا السؤال يجب أن يكون موجباً. رغم ذلك، فإن أول رصد مؤكد لكوكب يدور حول شمس غير شمسنا تم فقط فى عام ١٩٩٢، ومنذ ذلك الحين تم رصد ما يقرب من ٧٠٠ كوكب خارج المجموعة الشمسية.

بالفعل، فإن الفكر العلمى نشأ مع محاولة فهم مكاننا فى الكون، فحركة الكواكب بدت أكثر بساطة من معظم الظواهر الأرضية، فالتنبؤ بها أسهل بكثير من التنبؤ بحالة الطقس مثلا، وكانت محاولة فهمها أكثر جاذبية لفضول الإنسان.. وبين الفضول والنضوج الفكرى والفروض البسيطة، والاختبارات الصعبة لتلك الفروض وتداعياتها، نشأت منظومة غاية فى الفاعلية من الناحية العملية التكنولوجية ومثيرة فى تداعياتها الفكرية.

[email protected]

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 71 مشاهدة
نشرت فى 1 أكتوبر 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,687,312