كتب : د. أحمد عمر هاشم 232
لقد كان أول لقاء لي في البيت الحرام, في رؤيا منامية ـ لكنها رؤيا حقيقية, لأن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: من رآني في المنام فقد رآني حقا, فإن الشيطان لايتمثل بي.
وكانت هذه الرؤيا وأنا في السنة النهائية في كلية أصول الدين, وكنت قد رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم يطوف حول الكعبة المشرفة ورأيتني أطوف خلفه وكان المكان قريبا من الحجر الأسود, ورغم مرور السنين الكثيرة علي هذه الرؤيا إلا أنها مازالت ماثلة في ذهني كأنها بالأمس القريب.
واستيقظت بعدها من نومي فرحا مستبشرا, وذهبت إلي الوالد ـ رحمه الله رحمة واسعة, ورحم الله الوالدة رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ـ وقصصت رؤياي علي الوالد وكان التعبير للرؤيا هو: أن سيري في الطواف خلف رسول الله صلي الله عليه وسلم يفيد اتباعي لمنهجه وتخصصي في دراسة سنته المشرفة وأن وجودي في البيت الحرام ودخولي فيه, يفيد الأمان لأن من دخله كان آمنا, كما يفيد أداء فريضة الحج لكني كنت أتساءل بيني وبين نفسي وأني لي أداء فريضة الحج وأنا لم أزل طالبا؟!
فليس لدي من الإمكانات المالية ولا العملية مايتيح لي أن أقوم بأداء الفريضة, فقلت في نفسي: لعل هذا يكون بعد حين, وماكنت أظن أن الخير قادم وأن الرؤيا ليست علي هذا النحو السريع في تحققها, إذ لم يمض أسبوع واحد حتي استدعاني الاستاذ الدكتور محمد أحمد سليمان, وكان هو القائم بأعمال رئيس الجامعة ـ آنئذ ـ فبشرني بأن طالبا من كل جامعة سيذهب لأداء فريضة الحج هذا العام وأنت الذي تم اختيارك, فحمدت الله كثيرا وكانت هذه هي المرة الأولي في حياتي, وكان سفرنا بطريق الباخرة, وكنت لأول مرة أركب الباخرة وانتابني ماينتاب كل إنسان يركب البحر لأول مرة, لكن ما إن مضت بعض ساعات إلا وتلاشي شعور الخوف وحل محله شعور التوكل علي الله, وأخذت أردد وأنا فوق سطح الباخرة ولاشيء أمامي إلا البحر ولاشيء فوقي إلا السماء:
رب إن شئت فالفضاء مضيق
وإذا شئت فالمضيق فضاء
فاجعل البحر عصمة
وابعث الرحمة فيها الرياح والأنواء
أنت أنس لنا إذا ذهب الأنس
وأنت الحياة والأحياء
يتولي البحار مهما ادلهمت..
منك في كل جانب لألاء
فإذا ماعلت فذاك دعاء..
وإذا مارغت فذاك بكاء
وإذا راعها جلالك خرت..
هيبة فهي والبساط سواء
وكانت رحلة الباخرة رحلة تأمل وتدبر في كتاب الكون المفتوح
فإذا جاء وقت فريضة الصلاة أذن المؤذن وأقوم بإمامة المصلين وفي اليوم التالي كانت الجمعة فخطبت في الباخرة خطبة الجمعة وصلينا, إلي أن شاء الله تعالي لنا أن نصل بسلام إلي الأراضي السعودية في فرح وسرور, وغبطة وحبور, الكل يكبر الله ويحمد حمدا كثيرا, ونذكره جميعا ونشكره أن هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وعندما وصلنا البقاع المطهرة وكنا محرمين بنية التمتع بالعمرة إلي الحج فبعد أداء مناسك العمرة والتحلل منها كانت أشواقنا تسبقنا إلي منازل الوحي ومهبط الملائكة كنت مشتاقا أن أري غار حراء الذي نزل الوحي فيه علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وإلي غار ثور الذي كان فيه ليلة الهجرة وكنت مشتاقا إلي أماكن كثيرة..
ووافقني من معي علي الذهاب إلي تلك البقاع المباركة التي قرأنا عنها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المشرفة وفي السيرة العطرة.
ووفقنا الله تعالي إلي رؤية تلك البقاع المباركة وبهذه المناسبة أذكر كل قادر علي أداء فريضة الحج وهو في شبابه, أو وهو في صحته ألا يؤجل:حجوا قبل أن لاتحجوا فأداء فريضة الحج في الصحة والشباب له طعم خاص واستمتاع بأماكن الدعوة الاسلامية ومهبط الملائكة.
لقد ذهبت إلي جبل النور, وإلي غار حراء وصعدت الجبل ووصلت الغار, وحين هممت بدخول الغار انتابني شعور بالهيبة والخشية والحب والوقار حيث تذكرت نزول رسول الله صلي الله عليه وسلم الغار ومكثه فيه ونزول الوحي عليه فنزلت الغار وقبل أن أخطو فيه تبت إلي الله واستغفرته وبرئت من كل اثم وجهرت بكلمة التوحيد وبالصلاة علي رسول الله صلي الله عليه وسلم.
دخلت وانا علي وضوئي وصليت فيه وأخذت ادعو الله واستغفره وأذكره وأصلي وأسلم علي خاتم الأنبياء والمرسلين فانهمرت عيناي بالدموع وشعرت بشعور روحي لامثيل له في هذه الحياة الدنيا.
كما غمرني هذا الشعور أيضا من قبل عند وقوع نظري لأول مرة علي الكعبة المشرفة علي بيت الله الحرام وعندئذ أحسست بتدفق ذكريات الإسلام وماكنا نعرفه ونقرأ عنه نري الآن مواقعه المباركة.
وعندما وقفت أمام المواجهة الشريفة للسلام علي سيد الخلق صلي الله عليه وسلم قال لي أحد شيوخنا الأجلاء ـ رحمه الله ـ كنت تقول وتناجي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأنت عن بعد, فماذا ستقول الآن له وأنت أمامه قريب منه؟
فسجلت خواطري في قصيدة طويلة نشرت في ديوان أصحاب الجنة وعنوانها: لبيك ياالله قلت فيها:
قد زرت بيت الله يالسعادتي..
وهناءتي يافرحتي يامنيتي
لما دعاني من هتفت بحبه..
قد قلتها: لبيك واهب نعمتي
إلي أن قلت:
يارب جئتك خاشعا متذللا
ودموعي الحري حروف مذلتي
وبرئت من دنيا المآثم والأسي
وأتيت أخلص ياإلهي وجهتي
خالقي, ولدي رحابك خالقي
بوركت بل شاهدت نور الجنة
فاقبل بجودك توبتي وشكايتي
وأقل بفضلك ياإلهي عثرتي
عودتنا عفوا واحسانا وقد
ناديتنا: لاتقنطوا من رحمتي
ثم انتقلت الخواطر بعد ذلك أمام الحجرة النبوية الشريفة وانهمرت الدموع, وانطلقت الضراعة, وشعرت بالسعادة الغامرة, وأنا أمام باب الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه فقلت:
ونعمت حين أتيت باب المصطفي
باب الشفاعة والهدي والرحمة
هو رحمتي وسعادتي وهناءتي
هو بغيتي هو مقصدي ووسيلتي
كم كربة ناديته فتفرجت
من بعد ما ضاقت وقلت حيلتي
مامنية قد رمتها ودعوته
إلا وحقق لي إلهي منيتي
وإذا ذكرت المصطفي في وجهة
فالله ربي لايخيب وجهتي
إنها الذكريات الغالية التي لاتنسي والتي تستدعي حقائق التاريخ ومواقعه وعبره ودروسه.
ساحة النقاش