بقلم : د. علاء عوض 136
الدواء هو السلعة الوحيدة التي لايختارها مستهلكها, فهناك دائما العنصر الوسيط بين السلعة والمستهلك وهو جمهور الأطباء الذي ينوب بالضرورة عن المرضي في هذا الاختيار,
ومن المعروف أن تجارة وصناعة الدواء هي من أكثر الأنشطة الاقتصادية ربحية عالميا, وتهيمن عليها احتكارات اقتصادية عملاقة متعددة الجنسيات.
ويتضح ميل هذا النشاط الي الاحتكار في السنوات الأخيرة عبر العديد من عمليات الاندماج الاقتصادي بين الشركات الكبري في هذا القطاع علي المستوي الدولي. وانطلاقا من هذا فان الجهود الدعائية والتسويقية لهذه الشركات تتوجه بالأساس نحو جمهور الأطباء باعتباره الأكثر قدرة علي التأثير في حركة البيع والتسويق, وتنشأ عن هذه الوضعية حالة خاصة من العلاقة بين هذه الشركات والأطباء, وتتسم هذه العلاقة بعدة سمات اولها أنها علاقة مغلقة لها آلياتها الحاكمة الخاصة داخل مجتمع الأطباء وتسعي الي تكريس الابتعاد عن اية تداخلات لقطاعات مجتمعية اخري بالرغم من ان صناعة وتجارة الدواء هي من العناصر الهامة في معضلات الصحة التي هي بالقطع قضية تهم المجتمع بأسره.
وثانيتها أن علاقة شركات الأدوية بالأطباء تقوم علي اساس تصنيفهم الي مراتب مختلفة وفقا لوضعهم الوظيفي وقدرهم المهني والبحثي بالكيفية التي تخدم الأهداف التسويقية لهذه الشركات التي لا تكتفي فقط باقناع الأطباء بوصف أدوية بعينها لمرضاهم, ولكنها تتجاوز ذلك الي دائرة تمويل ورعاية البحوث الدوائية والاستعانة ببعض الكوادر الطبية كمستشارين وباحثين لهذه الشركات. والسمة الثالثة أن هذه العلاقة قائمة علي مزايا وعطايا تقدمها هذه الشركات للأطباء, وتختلف هذه المزايا حسب تصنيف الطبيب لدي الشركة وحسب حجم هذه الشركة علي المستوي الاقتصادي وحسب درجة أهمية منتجاتها في السوق المحلية وفقا لخريطة المشكلات الصحية وتوزيع المرض عالميا, وتتدرج هذه المزايا بدءا من وجبات غذائية تقدم للأطباء في ملتقيات علمية تنظمها هذه الشركات, الي تقديم هدايا عينية بقيم مالية مختلفة, ثم تمويل العديد من المؤتمرات وورش العمل لجمعيات طبية وعلمية, واخيرا تقديم مبالغ مالية بشكل مباشر وصريح للأطباء مقابل استشارات علمية او الاسهام في بحوث خاصة بهذه الشركات او غير ذلك من الأسباب.
ومن الجدير بالذكر أن هذه العلاقة متواجدة بشكل عالمي, وان كانت بدرجات متفاوتة, وقد بدأت المجتمعات الغربية في الاعراب عن قلقها من تأثيرات هذه العلاقة علي مخططات واستراتيجيات الصحة والدواء في بلادهم. وقام الباحثون بدراسة ورصد اشكال هذه العلاقة وطرح تصورات لتحجيم أية آثار سلبية تنشأ عنها.
ان العلاقة بين شركات الأدوية والأجهزة الطبية والأطباء في مصر تتخذ أشكالا متعددة بدءا من دعوة شباب الأطباء للقاءات علمية في أحد الفنادق الساحلية لإلقاء محاضرات عن منتجاتهم ومرورا بتمويل أعداد ضخمة من المؤتمرات وورش العمل وغيرها من الفاعليات التي تقوم بها الجمعيات العلمية بمصر, ووصولا بتمويل سفر كبار الأطباء الي أوروبا وأمريكا لحضور المؤتمرات الدولية بشكل دوري ومتكرر بالرغم من ان اغلب هؤلاء الأطباء لاتكون لهم مساهمات علمية في هذه المؤتمرات, ويتضمن التمويل تذاكر طيران كثيرا ماتكون بالدرجة الأولي والاقامة في أفخر الفنادق مع برنامج سياحي متكامل. وتمارس هذه الشركات دورا كبيرا في الترويج لمنتجاتها عبر كل الاشكال التسويقية ذات الغطاء العلمي. وقد نجحت الاحتكارات الاقتصادية العملاقة عن طريق وكلائها في مصر في السيطرة علي سوق الدواء المحلية ومحاربة صناعة الدواء الوطنية, تلك الصناعة التي كان لها الريادة الاقليمية لسنوات طويلة.
لقد استطاع نظام مبارك ان يخلق حالة من الفساد المؤسسي المتغلغل في كافة مؤسسات وهيئات الوطن, انتاجية وخدمية وتعليمية وصحية وأكاديمية, ووصل الأمر الي حد خلق غطاء تشريعي يحمي بعض أشكال الفساد. اننا بحاجة ماسة الي حزمة من الاجراءات والتشريعات التي تقتحم هذا العالم المغلق وترسي حالة من الشفافية الكاملة ازاء كل هذه التعاملات. ان شركات الأدوية حين تمول بحوثا طبية أو مؤتمرات علمية انما تنفق هذه الاموال من هامش ربح خرافي تحصل عليه من جيوب شعبنا المريض, وان هذا الشعب له كل الحق في الاستفادة من هذه البحوث وتلك الانشطة التي يجب ان تنفق مع احتياجاته الفعلية. وبالتالي فانني أطالب بإصدار تقارير دورية كاشفة لهذه العلاقة ومتاحة للجميع, وبخضوع كل الفاعليات العلمية والمؤتمرات الي الرقابة المجتمعية من خلال اعلان ميزانيتها لجميع المهتمين ومراجعتها من الجهات الرقابية المختلفة
ساحة النقاش