تتفق آراء الكثيرين على أن المدخل الحقيقى للتنمية فى مصر لابد أن يعتمد على التعليم، بوصفه الأداة الفاعلة فى تنمية القوى البشرية وإطلاق طاقاتها وإبداعاتها وتحويلها من عبء - كما أدخله فى روعنا النظام السابق – إلى عنصر إنتاج رئيسى، بل أهم عناصر الإنتاج جميعها.

ومما لاشك فيه أن تطوير التعليم بالنظرة التقليدية ذاتها التى عشنا بها طوال السنوات السابقة لن يحملنا للأمام أكثر مما نحن عليه الآن، وسنظل محلك سر طول العمر، وسنكتفى بالحديث عن الأمر دون أن نملك الجرأة والخيال على تحقيقه...

ودعونى أقلها بصراحة وبوضوح، إن تطوير التعليم من خلال النظرة الضيقة نفسها المرتبطة بإنشاء مدارس ضخمة وكبيرة يتولى إداراتها والتدريس بها تربويون مطحونون بلا هدف ولا غاية هو الكارثة بعينها.. ويجب أن يتم تطوير التعليم فى إطار نظرة إلى المستقبل وليس من خلال استحضار الماضى!!!

«جين هيلى»، أستاذ التربية بجامعة هاواى يقول فى دراسة حول أنماط التعليم فى القرن الحادى والعشرين: «إن العالم الذى صنعنا وشكل حواسنا قد ولّى، وبدأ عالم جديد لم نتفهمه بعد، وهذا العالم يحتاج إلى فكر جديد وأنماط جديدة فى التعليم والتعلم».

 الدراسة الهائلة التى أجرتها الجامعة - واستمرت أكثر من 4 سنوات وتكلفت 45 مليون دولار- أكدت تغير النمط الإدراكى للجيل الجديد نتيجة تعرضه المبكر لكميات غير مسبوقة من التدفقات المعلوماتية والمعرفية، وأن هذا الكم قد بدأ ينشّط عمل المخ فى مراحل سنية صغيرة جدا، ليتعامل مع حجم معلومات ومعارف لم يكن يتعرض لها حتى أكبر المثقفين والمتعلمين، كما أكدت الدراسة أن أسلوب التلقى قد اختلف جذريا، حيث عشنا حتى نهاية القرن العشرين نعتمد على السمع كأساس لتلقى المعلومات، بينما تعتمد حضارة القرن الحادى والعشرين على المشاهدة والتفاعل كأساس لتلقى المعلومات.

الدراسة التى كشفت النقاب عن تغيرات كبيرة فى نشاط المخ فى سنوات العمر الأولى انتهت إلى أن تغير النمط الإدراكى للجيل الجديد يعد تحديا لكل التربويين للوصول إلى فكر جديد وأنماط جديدة للتعليم والتعلم، وأن تعليم الجيل الجديد يجب أن يرتكز على التركيب العقلى الجديد لهذا الجيل!!!

الجيل الجديد يُعرف بجيل القفزات الفكرية (Hyper links) ويصعب عليه التسلسل المتلاحق (Sequential) وهى ظاهرة عشناها طوال القرون الماضية، فنحن نقلب صفحات الكتب، صفحة وراء صفحة، بينما يقفز أولادنا على النت من موقع لموقع آخر، ربما لا علاقة له من قريب أو بعيد بالموقع الأول، وقد يولد الموقع الجديد أفكارا جديدة لموضوع جديد ربما لم يكن مطروحا.

الجيل الجديد يُعرف أيضا بكونه الجيل الرقمى (Digital generation) الذى يتعامل من خلال الضغط على الأزرار (Clicks) – لاحظ تعامل التليفونات الحديثة والريموت كنترول- بينما عاشت حضارتنا القديمة كأجيال تماثلية (Analog) تتعامل من خلال لف البكرات – لاحظ تليفوناتنا القديمة وضبط محطات الراديو والتليفزيون. وأوضحت الدراسة أن هذا الجيل يحتاج لوجود أداة فى يده بها أزرار ليضغط عليها طول الوقت. الجيل الجديد هو جيل التفاعل النشط، والذى يقتضى أن يكون تعليمه من خلال أدوات يتفاعل معها وليس من خلال الإنصات والاستماع. تلك الدراسة للجيل الجديد تقول ببساطة إننا نحتاج أن نقلب نظمنا التعليمية لتكون أكثر فاعلية، وإننا نحتاج أن نفكر بطرق مختلفة عما تعودنا عليه...

التعليم الجديد مختلف فى شكله ومضمونه وأساليبه وطرائقه ... هو مدرسة جديدة ومدرس جديد ومنهج مختلف وأدوات ووسائل مختلفة وطرق وأساليب مختلفة ...فهل يمكن أن نحققه

التعليم الجديد (٢)

  بقلم   د. رأفت رضوان    ١٥/ ٦/ ٢٠١١

استعرضت فى مقالى السابق، دراسة أستاذ التربية جين هيلى التى انتهى فيها إلى أن الجيل الجديد هو جيل مختلف فى نمطه الإدراكى عما سبقه من أجيال، نتيجة التدفق المعرفى غير المسبوق الذى يتعرض له منذ لحظة ولادته من خلال وسائل الإعلام (التليفزيون أساسا)، ووسائل المعلومات (الإنترنت والشبكات الاجتماعية فى مراحل عمرية لاحقة)، وقلت إن الدراسة قد انتهت إلى أن تعليم أولادنا يجب أن يختلف فى المضمون وفى الشكل عن تعليمنا إذا أردنا بحق أن نعلمهم لا أن ندعى (كما نفعل نحن) أننا نعلمهم!!!!!!

من حيث المضمون، فالتعليم الجديد لا يجب أن يتوقف عند ملء عقول أولادنا بالمعارف (حتى مع التسليم بأهميتها)، فالمعارف أصبحت متاحة للجميع من خلال مصادر المعرفة المتشابكة على الإنترنت والتى تمكن الطلاب فى العصر الحالى من أن تكون معظم المعارف (إن لم يكن كلها) عند أطراف أصابعهم. وتلك حقيقة يدركها جميع الباحثين، ففى جيلنا كانت مشكلتنا الكبرى هى تجميع المادة العلمية والمعارف السابقة، وكنا ندور على المكتبات بحثا عن الأوراق العلمية والمجلات المتخصصة لنصور بتعب ومجهود كبير بعض صفحاتها لنستعين بها فى إجراء بحوثنا، أما باحثو هذه الأيام فمشكلتهم هى كثرة المادة العلمية والمعارف السابقة وصعوبة المفاضلة بين مصادر تلك المعارف!!!!

بمعنى آخر، التعليم الجديد يجب أن يركز على الفهم والإدراك والتحليل والاستنتاج وتوظيف المعرفة لحل المشاكل وهو ما لا يتأتى من خلال نصوص جامدة، مطبوعة فى كتب عفا عليها الزمان، ولكنه يتحقق من خلال أهداف تربوية ونواتج تعلم متراكبة ومتكاملة لبناء منظومة فكرية قادرة على البحث عن المعارف وتحليلها واستخلاص النتائج منها لتوظيفها فى حل المشاكل.

التعليم الجديد لا يعرف شكل المدرس التقليدى الذى يرى نفسه المصدر الوحيد للمعرفة والتعلم بالنسبة للطالب، ولا يقبل الاختلاف معه لكونه «المعلم الأوحد» فى صورة لديكتاتورية تعليمية تربى أجيالا لا تعرف الاختلاف ولا تقبل النقد. العكس من ذلك، هو أساس التعليم الجديد، فهو تعليم يعتمد على «ميسر» لا «مدرس»، يعاون الطلاب فى تعليم أنفسهم من مصادر تعلم مختلفة، ويساعد طلابه على العمل الجمعى والتشاركى ليؤكد على فكرة ديمقراطية التعلم التى تركز على أن أساس التطور العلمى جاء من الاختلاف مع السائد، ونقده، والخروج على الخاطئ منه لتصويبه وتصحيحه.

التعليم الجديد يعرف أن هناك فوارق فى المستويات بين الطلاب بصورة تتطلب أن يكون لكل طالب برنامجا تعليميا يتناسب مع ما خصه الله به من مزايا وقدرات ليصل إلى أقصى درجات التعلم الممكنة له، ووفقا لسرعة وقدرة الاستيعاب التى تميزه، لا أن يكون هناك برنامج تعليمى وحيد متوسط لا يفيد المتفوق ولا ينفع الأقل تميزا، ويكتفى فى النهاية بنواتج تعلم متوسطة لا تنفع ولا تفيد. فالتعليم الجديد يطلق طاقات الكل ويؤمن بأن وجود الفوارق طبيعى، لكنه لا يمثل عائقا للوصول بالمتعلم إلى المستوى التعليمى المطلوب، وبالتالى يعظم الاستفادة بالموارد البشرية المتاحة.

التعليم الجديد مع قناعته بالتخصص، إلا أنه يعرف أنه لا توجد فواصل وحدود بين المواد التعليمية المختلفة، وهو هنا يركز على النمط الإدراكى الجديد الذى يشكل عقل ووجدان الجيل الجديد الذى يتمثل فى القفز بين الموضوعات (على غرار القفز بين مواقع الإنترنت المختلفة، وفتح أكثر من صفحة وأكثر من موضوع فى نفس اللحظة: hyper links) ولذا تتشابك الموضوعات وتتداخل حدود المعارف، فلا يوجد مانع من تشابك تعليم الصحة العامة، أو التاريخ، داخل حصة اللغة العربية، ويسمح للطلاب فى هذه الحصة المتخصصة جدا بأن يتفرعوا لمناقشة موضوع الصحة العامة أو التاريخ.

بمعنى آخر، التعليم الجديد يركز على خلق بيئة تعلم تنساب فيها المعارف والمهارات إلى المتعلم بصورة تكاملية وتركيبية، تربى فيه النظرة الكلية للموضوعات وتؤكد على مهارات التفكير الكلى، وتحقق مبدأ التفكير المنظومى الذى قاد البشرية لتحقيق الطفرة التنموية التى هزمت نبوءات العديد من الاقتصاديين حول نضوب الموارد أو عدم قدرتها على إشباع حاجات المليارات المتزايدة من السكان!!!! هذا هو التعليم الجديد من حيث «بعض» المضمون، أما من حيث الشكل فللحديث بقية...
[email protected]

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 99 مشاهدة
نشرت فى 15 يونيو 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,686,945