بقلم: السيد يسين 534
هناك إجماع من الباحثين علي أن ثورة25 يناير لم تكن ثورة قام بها الجياع من فقراء المصريين الذين يعيشون أساسا في العشوائيات التي تحيط بالقاهرة الكبري,
والذين ضاعت حياتهم سدي نظرا لسياسات الإثراء للقلة, والإفقار للغالبية التي طبقها النظام السابق بقيادة الرئيس المخلوع, ولكنها في المقام الأول ثورة قامت من أجل السعي لتحقيق قيم غير مادية, تتمثل في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وهذه الثورة الرائدة التي قامت بها طلائع الشباب المصري الثائر سرعان ما تحولت إلي ثورة شعبية حين التحمت بها الملايين من كل فئات الشعب.
ولو أردنا أن نحدد بدقة طبيعة ثورة25 يناير في ضوء التحولات الكبري التي لحقت بالمجتمع العالمي, لقلنا إنها تطبيق خلاق لاتجاه الانقلاب الحضاري العالمي الذي يتمثل في الانتقال من القيم المادية إلي القيم ما بعد المادية, التي تسعي الجماهير في كل أنحاء العالم لتحقيقها في الوقت الراهن, وبخاصة جماهير الشباب الذين ينتمون إلي ثقافات متعددة, وإن كانوا يعيشون في ظل حضارة واحدة تهيمن عليها الثورة الاتصالية الكبري, وفي مقدمتها البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت. وهي التي أوجدت الفضاء المعلوماتي الذي تدور فيه الاتصالات غير المسبوقة بين بني البشر, مثل الرسائل الإلكترونية والمدونات والفيس بوك والتويتر.
ولا ننسي في هذا المقام أن هذه الوسائل المستحدثة في الاتصال هي التي مثلت البنية التحتية التي قامت علي أساسها ثورة25 يناير, والتي استطاع قادتها حشد مئات الألوف من الأنصار من خلال موقع كلنا خالد سعيد وغيره. وكان الشعار الأساسي الحرية السياسية وتحقيق الكرامة الإنسانية.
وقد رصد هذا التحول الحضاري الكبير من القيم المادية إلي القيم ما بعد المادية عالم الاجتماع الأمريكي الشهير رولاند انجلهارت صاحب المسح العالمي للقيم, والذي في إطاره قام بقياس اتجاهات عينات قومية من البشر ينتمون إلي43 دولة في مختلف أنحاء العالم, ويمثلون70% من البشرية المعاصرة.
وقد صاغ إنجلهارت نظريته الشهيرة عن التحول من القيم المادية إلي القيم ما بعد المادية وخصوصا في المجتمعات الغربية المتقدمة. وقد أقامها في ضوء فرضين صاغهما, هما فرض القدرة وفرض التنشئة الاجتماعية. أما الفرض الخاص بالندرة فيقوم علي أساس افتراض ان الأفراد في أي مجتمع يسعون لتحقيق أهداف مختلفة وفقا لنظام تدرجي. وإذا كان الناس في كل مكان يسعون إلي تحقيق الحرية والاستقلال, فإن ضغط الحاجات المادية مثل الجوع والعطش والأمن الفيزيقي لابد من تحقيقها أولا لأنها تتعلق مباشرة بالبقاء علي قيد الحياة.
وهكذا قرر هذا العالم الاجتماعي الكبير أنه ما دامت حالة القدرة قائمة فإن القيم المادية ستكون لها الأسبقية بغرض إشباعها أولا علي حساب القيم ما بعد المادية, مثل قيم الانتماء وتقدير الذات والإحساس بالكرامة. غير أنه يقرر أنه حالما تشبع الحاجات الخاصة بالبقاء, فإن التحول تجاه القيم ما بعد المادية سيسود سلوك البشر.
أما الفرض الثاني الخاص بالتنشئة الاجتماعية فيقوم علي أساس أن البحوث أثبتت أن القيم الأساسية غالبا ما تستقر لدي الإنسان حين يصل إلي سن البلوغ ولا تتغير إلا قليلا بعدها.
وفي المجتمعات التي تسودها القدرة الاقتصادية فإن اهتمامات الناس ستتركز إلي حد كبير علي إشباع الحاجات الاقتصادية, مثل إعلاء النمو الاقتصادي علي حساب قيمة الحفاظ علي البيئة, أو التركيز علي أهمية الأمن, مما يدعو إلي تأييد الأساليب السلطوية في القيادة السياسية لقدرتها علي حفظ الأمن.
وعلي العكس من ذلك, فالمجتمعات التي حققت درجة عالية من الرخاء الاقتصادي هناك احتمالات كبيرة أن يتحول الناس إلي تبني القيم المعنوية مثل الحرص علي الحرية الشخصية والتنمية الذاتية والمشاركة في اتخاذ القرارات الحكومية. بعبارة أخري تحقيق نموذج المجتمع المبني علي المذهب الإنساني, والذي يذهب إلي أن الإنسان يستطيع بجهوده الخلاقة أن ينشئ مجتمعا متكاملا يقوم علي التعاون وليس علي الصراع.
هذه خلاصة موجزة للغاية لنظرية إنجلهارت في الانتقال من القيم المادية إلي القيم ما بعد المادية.
والواقع أن ثورة25 يناير قد يكون من إنجازاتها غير المباشرة دحض هذه النظرية العالمية التي لاقت قبولا كبيرا في عديد من الدوائر الأكاديمية في مختلف بلاد العالم.
ولو نظرنا نقديا إلي الفرض الأول الخاص بالقدرة والذي صاغه انجلهارت, فسرعان ما يتبين لنا أنه يقيم في الواقع تفرقة مصطنعة لا أساس لها بين القيم المادية والقيم المعنوية.
وذلك لأنه يزعم أن الشعوب إذا ما كانت منغمسة للحافظ علي بقائها- في الحفاظ علي تحقيق مطالب الحياة الإنسانية, فإنها لا تسعي بالضرورة لضمان الحرية السياسية أو تحقيق الكرامة الإنسانية.
وهذه المقولة تكذبها الانتفاضات الجماهيرية الواسعة المدي التي شهدتها بلاد متعددة كان يسودها الفقر, غير أن الناس في المرحلة الاستعمارية ثارت ضد المستعمرين لتحقيق الاستقلال الوطني, كما أنه في المرحلة ما بعد الاستعمارية ثارت الشعوب ضد النظم السياسية المستبدة, سعيا وراء الحرية السياسية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان.
وهكذا يتبين زيف هذه النظرية التي تقرر أن الانتقال من القيم المادية إلي القيم ما بعد المادية سيتحقق مادام المجتمع قد حقق مستويات عليا من النمو بحيث ترتفع معدلات الدخل الفردي.
كما أن الفرض الثاني الذي صاغه انجلهارت والخاص بالتنشئة الاجتماعية ينطلق أيضا من تصورات ميكانيكية عن الطبيعة الإنسانية ليس لها أي أساس.
وخلاصة القول إن ثورة25 يناير والتي قامت طلائع الشباب فيها بالدور الأساسي سرعان ما انضمت إليها فئات الشعب المختلفة فقراؤه وأغنياؤه علي السواء, مما يدل علي أن السعي للحرية السياسية وتحقيق الكرامة الإنسانية مطلب شعبي مصري جماهيري.
والدليل علي ذلك هو الانتفاضات السياسية والاحتجاجات الجماهيرية التي قامت في مصر في العقد الأخير علي وجه الخصوص, والتي كانت في الواقع مقدمات لثورة25 يناير.
وهكذا يمكن القول إن عبور الثورة إلي ضفاف الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, لم يكن مجرد حادث عارض بقدر ما هو استمرار لتراث الشعب المصري في الكفاح من أجل الاستقلال الوطني وتحقيق الديمقراطية.
وهذا الكفاح شاركت فيه عبر العصور المختلفة كل فئات الشعب المصري منذ ثورة أحمد عرابي حتي ثورة1919 وصولا لثورة23 يوليو.1952
المزيد من مقالات السيد يسين<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش