الأسلوب الإنشائي بين تحديد المفهوم و تأصيل المصطلح
بقلم : د الوارث الحسن*
- مقــــدمـــة :
يكتسي التصرف في بناء الجملة أو العبارة، أهمية بالغة في فن التعبير، وهو الذي يجعل الأساليب المعتمدة من لدن المبدعين متباينة، فترى بعضهم مثلا، يستعملون التشبيه أو الاستعارة أو الكناية، ويتفننون في إيراد صورها، بأسلوب موجز مقنع، بينما ترى آخرين يعتمدون على أساليب إنشائية تنقل ما في نفوسهم من تحير وشك وتعجب وحنين ورجاء وأمنيات...
وانطلاقا من هذا الشاغل البلاغي بالعبارة أو الجملة، ظهرت دراسات في علم الكلام (التفسير، الفقه، الأصول...) اهتمت بهذا الجانب. وكان للقرآن الكريم دور كبير في ظهورها، لما يتميز به الأسلوب القرآني من تنوع وغنى، كما ظهرت دراسات مماثلة في علم الوسائل (النحو، الصرف، البلاغة...)، وقد كان كلام العرب، شعره ونثره، مصدر الاهتمام في هذا الصدد، لما يحويه من أساليب تعبيرية نادرة.
وفي نفس الإطار، حاول المهتمون، وخصوصا منهم النحويون والبلاغيون والأصوليون، رصد معالم ظاهرة الإنشاء في الكلام، وقدموها لنا في صور نحوية إجرائية تبحث في القواعد، وحلل بلاغية منطقية تبحث في المعاني، وقضايا فقهية تهتم بالمقاصد.
و للتعرف على معالم هذه الظاهرة، باعتبارها الجانب الذي يهمنا في كتابنا، رأينا من المفيد، أن نقوم بجولة مركزة في الدرس اللغوي، حتى نقف على آراء اللغويين العرب، وقواعدهم في هذا المجال، وذلك لاعتبارين هامين:
أولهما : أن دراسات أولئك اللغويين تتضمن مفاهيم نظرية مفيدة لنا في مناقشة وتحليل بعض ظواهر الأساليب الإنشائية، من جهة، ومفيدة جدا، من جهة أخرى، في معرفة أهمية التعبير بالإنشاء في القول الشعري، ولاسيما من حيث قيمته الأسلوبية والإيحائية والدلالية.
ثانيهما : الرغبة في الاستئناس بآرائهم، والاستناد إلى هذه الآراء في البحوث الأدبية و النقدية.
وبناء عليه، سنقسم حديثنا عن الأساليب الإنشائية إلى ثلاثة أقسام، وذلك كما يلي:
- أولا : الأسلوب الإنشائي عند الـنـحـاة
- ثانيا : الأسلوب الإنشائي عند الـبـلاغيين
- ثالثا : الأسلوب الإنشائي عند الأصوليين
1- الأسلوب الإنشائي عند النحاة:
أ- فـي الـتـحـديـــد :
نظر النحاة إلى الكلام، فلم يجدوه على ضرب واحد. وعندما حاولوا تصنيفه اختلفوا اختلافا بينا. وهكذا، اعتبر البعض منهم : «أن الكلام ينقسم إلى خبر وطلب وإنشاء»([1])، «فإما أن يقبل الكلام التصديق والتكذيب أولا، فإن احتملهما، فهو الخبر نحو: قام زيدٌ، ما قام زيدٌ، وإن لم يحتملهما، فإما أن يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه أو يقترنا، فإن تأخر عنه، فهو الطلب نحو: اضرب، ولا تضرب، وهل جاءك زيد؟، وإن اقترنا فهو الإنشاء، كقولك لعبدك : أنت حرٌّ، وقولك لمن أوجب لك النكاح : قبلتُ هذا النكاح»([2]).
وقال بعضهم : «الكلام ينقسم [...]، عند بعض أصحاب المعاني، إلى أربعة أقسام: خبر، واستخبار، وطلب، ودعاء. فالخبر أوسعها : وهو أن يخبر المتكلِّم المكلَّم بما يفيد معرفته. والاستخبار : أن يطلب المستخبِر من يكون لمن دونك، أو لنظيرك، أو لمن هو أعلى منك، فإن كان لمن دونك سمّيته طلبا، وإن كان لله سبحانه سميته سؤالا، ودعاء، وطلبا. وإنما اختلفت التسمية لاختلاف المخاطبين بهذه اللفظة، لأنك تستقبح أن تقول : أمرت والدي، كما تستقبح أن تقول : سألت غلامي»([3]).
وقال بعضهم : «إن الكلام خمسة أقسام: خبر، وأمر، وتصريح، وطلب، ونداء. واعتبره البعض ستة أقسام وهي محيطة بالكلام : خبر، واستخبار، وهو الاستفهام، ودعاء، وتمن، وأمر، وطلب، فالأمر لمن هو دونك، والطلب إلى من أنت دونه»([4]).
وقال غيرهم : «معاني الكلام ستة : خبر، واستخبار وهو طلب الخبر، ونداء، وتمن، وعرض. وقال آخرون : وإباحة، وندب»([5]).
وادعى قوم أن أقسام الكلام تسعة : «نداء، ومسئلة، وأمر، وتشفع، وتعجب، وقسم، وشرط، ووضع، وشك. وقالوا عشرة : نداء، ومسئلة، وأمر، وتشفع، وتعجب، وقسم، وشرط، ووضع، وشك، واستفهام»([6]).
وكثرت التقسيمات إلى أن وصلت ستة عشر قسما([7]). لكن بعضهم جمع هذه التقسيمات كلها في أصلين اثنين هما : الخبر والإنشاء، كما في قول جلال الدين السيوطي، الذي أكد فيه أن الحذاق من النحاة وغيرهم من أهل البيان قاطبة، نصوا على انحصار الكلام في الخبر والإنشاء([8]).
ولعل أهم ما نستخلصه مما سبق :
أولا : إن بعض الأقوال خلطت بين الإنشاء من جهة، ومعانيه المتولدة عنه، من جهة ثانية. والمؤكد أن النحاة العرب قد وقعوا هنا ضحية النزعة النظرية الصورية، حيث أن اهتمامهم كان منصرفا للتشابه الشكلي في الصيغ والتراكيب، متناسين الاختلافات الدلالية بينها([9]).
ثانيا : إن الكلام، ورغم تعدد التعريفات، مرده عند النحاة إلى أصلين : خبر إذا احتمل التصديق والتكذيب، وإنشاء إذا لم يحتمل التصديق والتكذيب، سواء اقترن التلفظ بالمعنى في الكلام، أو تأخر التلفظ عن المعنى فيه، على حد سواء.
و يـمكن إجمال تلك الاجتهادات في الرسم البياني التالي :
([1]) الكافية في النحو، ابن الحاجب، 2/311.
([2]) شرح شذور الذهب، ابن هشام، ص : 31.
([3]) أمالي ابن الشجري، 1/424. همع الهوامع، جلال الدين السيوطي، 1/12.
([4]) أمالي ابن الشجري، 1/388.
([5]) أمالي ابن الشجري، 1/388.
([6]) همع الهوامع، جلال الدين السيوطي، 1/12.
([7]) راجع : نفس المصدر، 1/12.
([8]) راجع : نفس المصدر، 1/12.
([9]) وذلك نابع من انصراف النحاة العرب في الغالب إلى دراسة الأدوات والمفردات من جهة الإعراب، دون إلمامهم بما تخرج إليه هذه الأدوات من معان مجازية.
ساحة النقاش