بقلم: د.أحمد ابوزيد 250
حين أطلق نيتشة منذ أكثر من قرن صرخته المدوية عن موت الإله, وأعلن فرويد إن الدين وهم, صدرت أعمال واحكام كثيرة عن تراجع الدين ودوره المؤثر في الحياة.
إلي أن قامت الفيلسوفة الإيرلندية مارجريت نايت في خمسينات القرن الماضي بإلقاء سلسلة أحاديث في البرنامج الرابع للإذاعة البريطانية عن أخلاق بدون دين مؤكدة أن الأخلاق الوضعية لاتسترشد بالدين وأن الدين ليس مصدر الأخلاق, علي عكس ماكان يدعو إليه الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون.
وثارت تساؤلات كثيرة حول ماهية الدين ووظيفته في المجتمع الإنساني الذي يمكنه أن يتحكم في الاخلاقيات دون الرجوع إلي تعاليم ونصوص دينية محفوظة منذ آلاف السنين ومادام الأمر لايستدعي الرجوع إلي شئ خارج العقل الإنساني موضع كل ماهو وضعي وعقلاني. وساعد علي انتشار هذه النزعة تقدم العلم وما وصل إليه من اكتشاف الشفرة الوراثية وإمكان استنساخ البشر بمواصفات معينة مما يضع فكرة الخلق موضع تساؤلات عديدة. وقد وجدت هذه التساؤلات وغيرها صدي عكسيا واضحا في انصراف عدد كبير من المسيحيين وبخاصة في أمريكا عن الكنيسة التي يتبعونها. وتدل بعض الإحصائيات علي أن مالا يقل عن42% من السكان يغيرون انتماءتهم المذهبية مرة واحدة علي الأقل أثناء حياتهم, أو يهجروا انتماءهم للمسيحية كلية. كما أن بعض الشواهد تدل علي أن جميع الأديان تفقد باستمرار اتباعها ماعدا الإسلام لدعاوي ليس هنا موضع الخوض فيها.
ولكن الأمر لم يقتصرعلي ذلك. ففي الوقت الذي تصاعدت فيه حدة الآراء والتشكك في الدين ظهر كتاب عام2009 للأستاذ الأمريكي نيكولاس ويد يحمل عنوانا كاشفا هو(غريزة الإيمان) وفيه يرد الدين إلي مكون أساسي في الجينات البشرية, وهي جينات الدين, والإنسان علي هذا الأساس محكوم بطبيعته الدينية التي لا مهرب منها. ولكنه لم ينس أن يشير إلي ظهور مشكلة أخري مهمة نعاني نحن منها في مصر, وهي ظهور فئات من( المتدينين المتشددين) الذين يطلق عليهم اسم مقاولو الأديان, الذين يرفعون شعارات دعائية طنانة يطلقونها من بعض المحطات الفضائية, ويعلنون عنها في الصحف والمجلات لبث دعاواهم الخاطئة باسم الدين. ويرد إلي هذه الحركات معظم السبب في تبلبل الآراء حول الدين, والتوترات الموجودة بين الكنائس المختلفة. وأصبحت غاية الدين هي كسب الأصوات والأتباع حول هدف دنيوي معين بصرف النظر عن الرسالة السامية التي يهدف إليها الدين في الأصل. لقد أصبح الدين في مجتمع مادي رأسمالي سلعة تعرض في التليفريون, وتلعب دورا خطيرا في تشتيت الفكر وإثارة النعرات بدلا من أن توفي الدين حقه في التقريب بين الأفكار والتأليف بين القلوب والدعوة إلي التفاهم والاحترام. ولقد شهد المجتمع الإنساني حقبة طويلة من الزمن سيطرت فيها الحروب الدينية حتي بين أصحاب الدين الواحد لاختلاف الآراء حول بعض المشكلات العقائدية, ولكن تلك مرحلة مضت من التاريخ والمفروض أن يسود الوئام والتفاهم بتطور المجتمع الإنساني وتقدم الوعي. ولكن يبدو أن الإنسان جبل علي اختلاق أساب الانشقاق توكيدا لإثبات هويته والدفاع عنها وليس هناك ماهو أبسط وأسهل في هذا الصدد من إثارة الخلافات الدينية.
ولقد كان الاختلاف بين الثقافات في المعتقدات الدينية من أهم المشكلات التي شغلت بال الأنثروبولوجيين بوجه عام لما سببته من أضرار جسيمة لا زالت شعوب العالم الثالث تعاني منها في المستعمرات السابقة رغم انحسار الاستعمار إلي حد كبير ولو ظاهريا. وقد فتحت مساحات كبيرة من أفريقيا باسم المسيحية وإنقاذ الرجل الأسود, وما حروب القبائل الإفريقية في الوقت الحالي إلا استمرارا لهذه الغزوات التي بدأتها أوربا منذ عهد الاستعمار وأفلحت في إيقاظ النعرات القبلية باسم الشخصية الثقافية, وهذا مايتعرض له السودان في الوقت الحالي من إثارة المشكل بين الشمال والجنوب تحت دعاوي مختلفة وان كان من وراءها الدين.
ولما كانت الثقافة الغربية تتمحور حول ذاتها باعتباها مركز الكون ومحور العالم الذي تدور في فلكه كل الثقافات, تصدي لهذا الزعم فريق من الأنثربولوجيين, وأجروا دراسات ميدانية مركزة لفهم الأديان, من منطلقات مختلفة أفلحت في إزاحة الثقافة الغربية عن التمسك بأولوياتها, حين درسوا التجربة الدينية التي كانت مصدر استعلاء الغرب علي المستعمرات, وذهبوا إلي أن الوضع السليم لفهم الدين هو اعتباره نسقا رمزيا يتسامي علي التأويلات الجزئية التي تؤدي إلي الاختلاف والتفرق. وكان ظهور كتاب( عوالم إفريقية) الذي أشرف علي تحريره أحد أساطين الفكر الأنثربولوجي الأفريقي وهو داريل فورد الذي شغل منصب مدير المعهد الأفريقي الدولي وهو من العلامات البارزة, وطلب من المشاركين أن يحيطوا في إسهاماتهم بالموقف الكوني( الكوزمولوجي) ككل وأن يعطوا صورة متكاملة عن تصور الأهالي للكون في المجتمعات التي درسوها. وكانت النتيجة أن اكتشف هؤلاء الباحثون أن الفروق ضيقة للغاية وأن العقل الإفريقي لايختلف عن العقل الأوروبي إلا في القدرة علي التجريد, فما يعبر عنه الرجل الأوروبي بألفاظ مجردة يستخدم له الرجل الأفريقي صورة لفظية أو بصرية نتيجة لاختلاف الظروف التي مر بها المجتمع في مراحل تطوره. ولكن الأخيلة واحدة والعلاقات الكونية واحدة والتدرج في المنزلة واضحة بل إن البعض ذهب إلي أن تعدد الألوهية بكل بساطة صفات للإلة يعبر عنها بتعبيرات لفظية مختلفة نتيجة لاختلاف المراحل التي مر بها المجتمع الغربي عن المجمتع الإفريقي وأن الوحدانية هي البدء. وذهب المفكر الفرنسي الشهير ميشيل فوكو إلي أن الفكر الغربي تكشف عن عجز في استيعاب أنماط فكر الحضارات اللاغربية, ومنها التصورات المختلفة للنظام الطبيعي للكون التي تشكل الفكر الديني مما يجعل من الصعب وإن لم يكن من المستحيل تلاقي المبادئ التي يقوم عليها الحكم علي القيم الإنسانية.
د. ديفيد ليفي أحد أشهر أساتذة تاريخ الأديان المقارن يذهب إلي أن الإنسان لايعيش بعيدا عن الكون الذي هو جزء صغير فيه, وإنما هو يتفتح خلاله طيلة الوقت في عالم مألوف لديه بفضل الرموز والرمزية وأن تاريخ الأديان يمكن أن يلعب دورا أساسيا في إتمام وإقامة النزعة الإنسانية( الهيومانزم) التي تتجاوز النزعة في المجمتع الأوربي القديم التي كانت قاصرة علي الثقافة الأوربية, وأن المادة وفيرة عند مؤرخي الأديان بشرط أن يؤخذ في الاعتبار الاحكام الدينية البدائية التي هي مصدر ثري لإثراء الكيان الإنساني والوجود البشري لو أحسن استخدامها ووصلنا فيها إلي درجة معينة من الفهم العميق.
ونصل الآن إلي نيكولاس ويد الذي بدأنا به هذا الحديث. فهو يرفض تماما علي أسس علمية تجريبية المقولة التي تنص علي أننا كائنات متدينة لأننا كائنات اجتماعية وأن الأحري أن نقول إننا أصبحنا كائنات اجتماعية لأننا متدينين بالطبيعة والفطرة. فالدين هو الأصل وما وجد في الأصل لايسبب هذه الخلافات التي تنشب بين الشعوب والفئات داخل الدين الواحد لو خلصت النيات وتحررت العقول.
المزيد من مقالات د.أحمد ابوزيد<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش