بقلم: فاروق جويدة 2659
ما بين الضغط الإعلامي المكثف وقضايا الحبس والإفراج والمحاكمات يقف الشارع المصري الآن في حالة ارتباك شديدة
وإذا كانت المظاهرات تهدأ أحيانا ثم تشتعل مرة أخري فإن حالة الغليان داخل كل بيت وبين أفرد كل أسرة تتجاوز في حرارتها ما كان يحدث طوال أيام الثورة منذ شهور مضت..
الشارع المصري حائر الآن بين أكثر من جهة حيث تدور التحقيقات مع رموز النظام السابق.. والحيرة الأكبر أن هناك تناقضات كثيرة بين أجهزة الدولة تنعكس علي حركة هذا الشارع وتلقي به هنا أو هناك خاصة أنه يقف في حالة سؤال دائم عن مستقبل ثورة25 يناير وأمام كل هذه المتغيرات.. تبدو الآن أمامنا تساؤلات كثيرة..
< لا نستطيع حتي الآن أن ندعي أن التحقيقات الجارية مع رؤوس ورموز النظام السابق قد وصلت إلي شيء أمام التضارب الشديد بين جهات التحقيق والتعارض في إصدار قرارات الحبس أو الإفراج أو العفو أو الإدانة.. نحن أمام أكثر من جهة في التحقيقات وجميعها تتعرض لضغوط شديدة داخلية وخارجية.. نحن أمام النائب العام وتقع عليه أعباء ومسئوليات ضخمة وأمام المحاكم الجنائية.. وأمام جهاز الكسب غير المشروع وهناك محاكمات عسكرية أمام القضاء العسكري وهناك أيضا قضاة التحقيق الذين تقررهم وتختارهم وزارة العدل.. ثم هناك لجنة كان من المفروض أن تسافر إلي الخارج لكي تبحث مصير ومستقبل أموال مصر الهاربة في حسابات رموز النظام السابق.. فلا اللجنة سافرت ولا المحاكمات انتهت ولا شهداء الثورة استراحوا في قبورهم..
لكل جهة من هذه الجهات ملفاتها وقضاياها ورغم مرور أكثر من مائة يوم علي قيام الثورةa إلا أن النتائج التي تحققت لا تتناسب مع ضخامة الجرائم وإصرار الشارع علي استكمال المحاكمات وهنا دخلت جهات التحقيق في أزمة مع بعضها.. وربما مع الجهات المسئولة لتجد نفسها في النهاية في مواجهة مع الشعب لا أحد يعرف مداها.. وقبل هذا كله هناك أزمة حادة مع الشارع المصري ربما لبطء في الإجراءات أو أحساس عام بعدم الجدية أو نتائج لن يستريح لها المواطن المصري..
في وسط هذه الأجواء تبدو صورة الشارع المصري في حالة من الفوضي والارتباك بحيث انها تمثل تهديدا خطيرا للثورة نفسها بل انها تحمل مخاطر كثيرة لمستقبل هذا الوطن..
< حاولت أطراف كثيرة أن تنسب الثورة لنفسها بالحق والباطل رغم أن أعظم ما كان في هذه الثورة أنها ابنة الملايين من الشعب المصري بشبابه وشيوخه ونسائه وحتي أطفاله الصغار لأن من بين الشهداء أطفالا في عمر الزهور ماتوا وهم يحملون علم مصر.. كانت محاولات اختطاف الثورة أول التجاوزات لأن الجميع كان شريكا فيها: الشعب والجيش والبسطاء وسكان العشوائيات وخريجو الجامعات المصرية والأجنبية..
< أفرجت الثورة من خلال مجلسها العسكري عن المعتقلين السياسيين في السجون المصرية وكانت أعدادهم بالالاف.. وخرج هؤلاء يحملون مرارة القهر والاستبداد وليالي البطش الطويلة.. وكنا نتصور أن ترفرف في أيادي هؤلاء أعلام الحرية ويأخذون مكانهم في مسيرة البناء لمصر المستقبل ولكن للأسف الشديد وجدنا بعض هؤلاء وقد عادوا إلي الساحة يحملون معهم أمراض التشدد والتعصب وتصفية الحسابات والرغبة في الانتقام متناسين حالة مصر الوطن الذي يمر بفترة نقاهة ويحتاج منا أن نقف معه ونسانده لا أن نلقي عليه المزيد من الأحمال..
لم يكن من الحكمة أن نشهد مظاهرة تحمل اسم الإسلام أمام مقر البابا شنودة في العباسية.. ولم يكن من العقل أن يقتل15 مواطنا مصريا من أجل فتاة أسلمت في كارثة امبابه ولم يكن من الحكمة أن تقتحم مظاهرة من الاخوة الأقباط مبني التليفزيون وتحطم أبوابه.. ولم يكن من العقل أن يتبادل المتظاهرون رمي الحجارة وإطلاق الرصاص في ماسبيرو وأن يسقط مئات المصابين أمام مبني السفارة الإسرائيلية.. كل هذه المواقف تتعارض تماما مع أبسط مطالب الحرص والخوف علي هذا الوطن وإذا كان البعض يطالب بالحرية والديمقراطية فنحن نبدأ الدرس الأول في ظل أخطاء تهدد كل ما يتعلق بالحرية ان مسئولية حماية هذه الثورة تقع علينا جميعا كشعب وليست فقط مسئولية الجيش والمجلس العسكري..
< كان الاخوان المسلمون من أكثر التيارات التي شاركت بقوة في نجاح ثورة25 يناير وكان شهداؤها في مقدمة الصفوف.. واستطاعت الجماعة أن تلم فصائلها وتجمع صفوفها وتعلن تشكيل حزب سياسي لتؤكد أنها ستخوض الانتخابات التشريعية مشاركة بنسبة50% في الدوائر الانتخابية.. وفي الأيام الأخيرة عقد الامام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر اجتماعا مع د.محمد بديع المرشد العام للاخوان المسلمين.. كان الواضح أن جماعة الاخوان تحاول ترتيب البيت الأصغر من الداخل ولكن يبدو أن إغراءات السياسة والثورة وفوضي الشارع جعلتها تفضل ترتيب البيت الأصغر علي ما يجري في البيت الأكبر.. كان ينبغي أن يكون للأخوان المسلمين دور أكبر في أحداث الفتنة الطائفية لأنهم بكل المقاييس يمثلون الحشد الأكبر للتيار الإسلامي في مصر.. كنت اتصور أن يكون لهم مواقف أكثر حسما وتأثيرا فيما يجري من صراعات دينية بين السلفيين والأصوليين والصوفية والتجمعات الإسلامية الأخري.. إننا نعلم الدور الذي قام به مكتب الإرشاد في اتفاق المصالحة بين حماس وفتح وعودة الوفاق إلي الصف الفلسطيني.. وهذا إنجاز عظيم للثورة المصرية.. ومجلسها العسكري ووزير خارجيتها نبيل العربي وجهاز الأمن القومي.. وإذا كانت مصر الثورة والظروف والأزمات تحتاج جهودنا جميعا فأنا لا أجد مبررا لأن نترك البيت وفيه كل هذه الحرائق ليذهب وفد اخواني إلي بيروت.. كان الأولي أن نفض اعتصامات ماسبيرو وأزمات امبابة ومظاهرات السلفيين أمام مقر البابا في العباسية.. لأن الشارع المصري الآن يحتاج إلي جهودنا جميعا في هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ الوطن..
< كنت ومازلت من معارضي كامب ديفيد والسلام مع إسرائيل منذ السبعينيات وحتي الآن.. ومازلت اعتقد أن إسرائيل تراهن علي الزمن ولا تراهن علي السلام.. ولكن رغم موقفي الواضح من اتفاقية السلام إلا أني لا أتصور أنه من الحكمة أو العقل أن تتجه مظاهرة مليونية يطالب بها البعض إلي سيناء والحدود المصرية مع إسرائيل.. مثل هذه الدعوة الغريبة يمكن أن تفتح أبوابا ومشاكل وأزمات ليس هذا وقتها علي الإطلاق.. إن هناك معاهدة سلام مع إسرائيل والمجلس العسكري أعلن منذ البداية أن مصر تحترم كل معاهداتها والتزاماتها الدولية وهنا لا ينبغي أن تكون هناك دعوات أو مواقف قد تضر بمصالحنا القومية والأمنية والاستراتيجية في هذا الوقت..
هناك هواجس كثيرة وحالة انزعاج شديدة لدي الإسرائيليين منذ قيام الثورة وقد تأكدت لإسرائيل بعض هذه الهواجس مع المصالحة التي شهدتها القاهرة بين فتح وحماس بعد فرقة دامت أربع سنوات.. فهل من الحكمة أن يطالب البعض بمظاهرة مليونية في سيناء.. إذا كنا بالفعل نطالب ونؤيد هذه المظاهرة فلنجعل منها غزوا حضاريا زراعيا بحيث تذهب الملايين لزراعة أرض سيناء والحياة فيها.. ليتنا نحول هذه المظاهرة المليونية إلي رحلة بناء واستثمار لأراضينا الخالية..
لنا أن نتصور أن سيناء التي يسكنها360 ألف مواطن سوف تجد بين ربوعها ثلاثة ملايين شاب يزرعون أرضها خاصة أن ترعة السلام التي حملت مياه النيل إلي سيناء مازالت تبحث عن أرض ترويها.. من حق الجماهير أن تغني للقدس وقد غنينا لها زمنا طويلا ومن واجبنا أن نساند أشقاءنا في غزة ولكن الأوطان لا تعيدها المظاهرات والشعوب لا تحررها الشعارات ويجب أن نكون علي وعي كامل بظروفنا ومشاكلنا في هذه اللحظة الحرجة من تاريخنا..
< أمام شعب يعاني فيه أكثر من20 مليون مواطن من الأمية حيث لا يقرأون ولا يكتبون ينبغي أن يكون للكلام حسابات خاصة تتناسب مع درجة الوعي.. وحين يتحدث البعض عن الخلافة الإسلامية وخليفة المسلمين من عاصمة الخلافة كما حدث في مليونية يوم الجمعة الماضي في ميدان التحرير.. فهذه أفكار غريبة لا ينبغي أن نثير بها عقول شباب لم تكتمل رؤاه..
هذا كلام يدغدغ مشاعر البسطاء ويخاطب عقولا لا تستطيع أن تستوعب كل هذه الشعارات مظاهرات لتحرير القدس وأخري لاقتحام سيناء.. وثالثة لإقامة الخلافة الإسلامية.. وإعلان خليفة المسلمين.. كل هذه الدعوات أمام ثورة وليدة لم يستطع شعبها حتي الآن أن يوفر لها كل مظاهر الأمن والحماية أمام قوي داخلية من النظام السابق مازالت تتربص بها.. وأمام قوي خارجية مازالت تنتظر لحظة الانقضاض عليها وقبل هذا كله هناك شعب يريد الأمن والحياة الكريمة والمستقبل الذي يتمناه..
< لا أدري أين ما بقي من النخبة المصرية في هذه اللحظة التاريخية لقد غابوا قبل الثورة وغابوا أثناء الثورة وهاهم يغيبون والثورة تواجه تحديات ضخمة.. أين النخبة من أهل الفكر والثقافة ولماذا انسحبوا وابتعدوا عن الساحة رغم أن وجودهم اليوم يعني الكثير..
أيا كانت التيارات والرؤي الفكرية والسياسية التي تحتشد الآن في مصر الثورة وأمامها فراغ فسيح فإن كل ما نرجوه منها أن تكون مصرية الهوي وطنية الغايات وألا تحركها أياد خفية سواء كانت هذه الرؤي تعكس فكرا دينيا أو فكرا ليبراليا أو تجمع النقيضين..
إن أخشي ما أخشاه هذا العدد الرهيب من الأجندات الخارجية التي تعبث في أمن مصر الآن سواء كانت غربية أو عربية أو إسرائيلية أو بقايا نظام رحل.. كان موقفا غريبا أن يحاول عدد من الشباب اقتحام السفارة الإسرائيلية ولا يفضون مظاهرتهم ألا بعد أن تدخلت الشرطة..
وكان غريبا أيضا الا يفض شباب الأقباط مظاهرتهم أمام مبني التليفزيون في ماسبيرو رغم بيان قداسة البابا وإصراره علي إخلاء المكان..
< إذا كان المطلوب من الشارع المصري أن يهدأ وأن يعود المواطنون إلي أعمالهم وتعود الحياة إلي طبيعتها لنتجه جميعا إلي المستقبل فإن المطلوب من الحكومة والمجلس العسكري ومؤسسات الدولة البدء في تصفية آثار الماضي بقدر أكبر من الحسم والجدية والالتزام بما وعدوا به هذا الشعب من حيث الشفافية والحرص علي مصالحة.. يجب أن يكون التنسيق بين أجهزة العدالة أكثر سرعة وحسما وأن تتجاوز كل جوانب الخلاف أو الاختلاف لكي يكون هدفها إعادة حقوق هذا الشعب وأمواله المنهوبة..
لاشك أن أحوالنا الداخلية هي الأولي والأحق الآن بكل جهودنا هناك ملفات خارجية كثيرة سوف يجيء وقتها ولكن بعد أن تتجاوز الثورة ما تواجه من عقبات وتحديات ومصاعب وفي مقدمتها محاكمات عادلة للنظام السابق ورموزه الفاسدة..
.. ويبقي الشعر
من قصيدة هذا عتاب الحب للأحباب سنة2009
لا تغضبـي من ثـورتي.. وعتــابـــي
مازال حبــــك محنتي وعــــــــذابي
مازالت في العين الحزينــــة قبلـــــة
للعاشقين بسحـــرك الخـــــــــــلاب
أحببت فيك العمر طفــــلا باسمــــا
جاء الحيــاة بأطهـر الأثـــــــــواب
أحببت فيك الليل حيــــن يضمنـــــــا
دفء القلــوب.. ورفـقــة الأصحاب
أحببت فيـك الأم تـسكـــن طفلهــــــا
مهما نأي.. تلقــاه بالتـــــرحـــــاب
أحببت فيك الشمس تغسل شعــــرها
عنـد الغروب بدمعها المنـســــــاب
أحببت فيك النيل يجــري صاخبــــا
فـيهيم روض.. في عنـــــاق رواب
أحببت فيك شموخ نهــر جامـــــــح
كم كان يسكرنــي بــغيـر شــــراب
أحببت فيك النيل يسجــد خاشعــــــا
لله ربــــــــا دون أي حســــــــاب
أحببت فيك صلاة شعــب مؤمــــن
رسم الوجـود علي هدي محـــراب
أحببت فيك زمان مجـــد غابـــــــــر
ضيـعتـــه سفهـــــا علي الأذنــــاب
أحببت في الشرفـــاء عهدا باقيــــــا
وكرهـت كل مقـــــامر كـــــــذاب
إني أحبــــك رغــــــم أني عاشــــق
سئم الطواف.. وضـاق بالأعـتـاب
كم طاف قلبي في رحابــــك خاشعا
لم تعرفي الأنـقـي.. من النـصـــاب
أسرفت في حبــــي.. وأنت بخيلـــــة
ضيعت عمري.. واستـبحت شبابي
شاخت علي عينيك أحلام الصبـــــا
وتناثرت دمعـــا علي الأهــــــــداب
من كان أولـي بالوفاء ؟!.. عصابة
نهبتك بالتدليـــــس.. والإرهـــــاب ؟
أم قلب طفـل ذاب فيــــك صبابـــــة
ورميته لحمـــا علي الأبــــــــواب ؟!
عمر من الأحزان يمـرح بيننــــــــا..
شبح يطوف بوجهـــه المرتــــــــاب
لا النيل نيلـك.. لا الضفاف ضفافه
حتي نخيلـك تاه في الأعشـــــــاب!
باعوك في صخب المزاد.. ولم أجد
في صدرك المهجور غير عـــذابي
قد روضوا النهر المكابـر فانحنــــــي
للغاصبيـــــــن.. ولاذ بالأغــــراب
كم جئت يحملني حنين جــــــــــارف
فأراك.. والجلاد خلـف البــــــــاب
تـتـراقـصين علـي الموائـــــد فرحة
ودمي المراق يسيل في الأنخــــاب
وأراك في صخب المزاد وليمــــــة
يلهو بها الأفـاق.. والمتصـــــــابي
قد كنت أولي بالحنان.. ولم أجـــــد
في ليل صدرك غير ضـوء خــاب
المزيد من مقالات فاروق جويدة
ساحة النقاش