الثورة والتنمية الإنسانية المستقلة‏(2‏ ـ‏2)‏
د‏.‏ نادر فرجاني 134 

تناولنا في المقال السابق المبادئ الأساسية الناظمة لمفهوم التنمية المستقلة وذكرنا منها تحرير القرار التنموي من السيطرة الأجنبية والرفاه الانساني وأثر الحرية فيه ثم ضرورة انتاج المعرفة وضرورة التكامل العربي‏,‏ كما تعرضنا إلي أهمية الانفتاح الايجابي علي العالم المعاصر‏,‏ ونتناول في هذا المقال‏:‏

 

الغاية الأسمي للتنمية الإنسانية المستقلة هي المساهمة في تأسيس مسار النهضة بما يحمي الكرامة الإنسانية للمصريين كافة ويصون حرية الوطن. فقيام بنيان إنتاجي ضخم وراق ودائب التطور, يتطلب قيام قدرة تقنية مطردة الترقي, ويحقق نهاية مستوي كريم من الرفاه الانساني للجميع في مصر, لهو مكان مركزي لدولة منيعة, ومواطنين لها أعزاء.
والغاية الأساسية للتنمية المستقلة في مصر, علي مستوي الفرد, هي تحقيق أعلي مستوي ممكن من الرفاه الانساني بالمعني المتقدم, واطراد ترقيته علي الدوام.
ويتفرع عن هذه الغاية غايات فرعية عديدة تشكل دالة هدف مجتمع التنمية المستقلة ــ مع الاشارة إلي أن تعيين معالم هذه الدالة, أو تحديد زمرة الغايات الفرعية, يجب اعتباره متغيرا في الزمن, بحيث يجري إعادة النظر فيه, في السياق الديمقراطي للحكم الصالح استجابة لتغير الظروف ولتنامي رغبات الشعب وتغيرها ان تحظي الغايات الفرعية التالية بأولوية.
ــ إتاحة السلع العامة الأساسية للشعب كله, خاصة تلك المرتبطة بالأمن القومي, مثل الأمن المائي والغذائي والعسكري, مما يعين علي الاعتماد علي الذات ومقاومة الضغوط الخارجية الهادفة إلي تحقيق مصالحها في المنطقة, ومما يصب في تدعيم الاستقلال التنموي ومنافحة استباحة الأمن من خارجها.
ــ محاربة أدواء المسار التنموي العربي العاجز الراهن, مثل الأمية والبطالة والفقر, وتدهور عدالة توزيع الدخل والثروة, والفساد, وتدهور الأمن الانساني الناجم عن تكريس هذه المثالب في المسار التنموي الراهن. والتي تتطلب بدورها:
ــ ترقية الكفاءة الانتاجية للمواطن وللاقتصاد المصري, بما يدعم تنافسية الاقتصاد, وبما يتطلبه ذلك من تحسين اكتساب المعارف والقدرات البشرية, من خلال التعليم والتدريب, راقي النوعية والمستمرين مدي الحياة, وإقامة التنظيم المجتمعي السليم للانتاج والحكم الصالح للمشروعات الانتاجية, في عموم الوطن.
{ إقامة نظم الحماية الاجتماعية, أو شبكات الأمان الاجتماعي, الحكومية والأهلية, الكفيلة بانتشال ضحايا اقتصاد السوق المنفلت والحكم الفاسد من وهدة الإفقار, من خلال ضمان العيش الكريم وتمكينهم من التغلب علي الفقر عبر اكتساب القدرات البشرية وتوظيفها. وتوجيه الإنفاق العام لخدمة هذه الأغراض من خلال التشغيل في القطاع العام والحكومة, عند الحاجة, وتقديم الخدمات العامة, راقية النوعية. وإعادة الاعتبار للعمل الأهلي في هذا المضمار بإحياء مؤسسات الزكاة والأوقاف وتشجيعها.
ــ تبني أساليب تحقيق العدالة في توزيع الدخل والثروة من خلال آليات الضرائب, مع محاربة التهرب الضريبي الذي يستفيد منه, في الأساس, المتنفذون, بفعالية. وتعديل بنية الضرائب بالتركيز علي الضرائب المباشرة علي الدخل التي تؤسس لإمكان محاسبة دافعي الضرائب لسلطة الحكم باعتبارهم مموليها, خلافا للنمط الذي ساد في مصر بالتركيز علي الضرائب غير المباشرة التي يتحمل الفقراء ومحدودو الدخل عبئها الأثقل.
{ السعي الحثيث, نحو تكامل الاقتصادات القطرية العربية في جميع المجالات, خاصة التعاون في ترقية الانتاجية في البلدان العربية وإقامة سوق عمل قومية نشطة وكفء, ما يمكن أن يساهم في مواجهة مشكلة البطالة المستشرية في البلدان العربية.
ــ ضمان التناغم مع الطبيعة, حرصا علي دوام التنمية, خاصة في منظور ضمان حقوق الأجيال التالية, من ناحية وتحقيقا لجانب مهم من الرفاه المعنوي للانسان( التمتع ببيئة سليمة وصحية).
ثالثا ـ وسائل بناء التنمية الانسانية المستقلة:
الوسيلة الأساسية هي إقامة التنظيم المجتمعي الذي يمكن ان يحمل غايات التنمية المستقلة في الوطن العربي. وتتمثل, كما اسلفنا في تضافر قطاعات المجتمع الثلاثة: الدولة والمجتمع المدني وقطاع الاعمال, مع خضوعها لمعايير الحكم الصالح.
فقد تبين بما لايدع مجالا للشك ان إقامة التنمية بالاعتماد أساسا علي قطاع خاص منفلت ليس إلا سرابا خادعا يحمل في طياته خدمة مصالح القوي المهيمنة علي الاقتصاد العالمي, وامتداداتها في بلدان المحيط النامي, ويجر تبعات ليست إلا معوقات للتنمية كما نفهمها.
والجانب الثاني لهذه العملية, هو ضرورة قيام دور مركزي لدولة فاعلة وقادرة في مسيرة التنمية المستقلة. اذ حتي في التنظيم الرأسمالي الكفء, يتعين علي الدولة ان تقوم بكفاءة بمهام ضبط نشاط قطاع الاعمال, لاسيما شقه الهادف للربح, بما يحقق المصلحة العامة, وأن تضطلع بوظيفة العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع عوائد النشاط الاقتصادي لخدمة التنمية المستقلة, وعلي وجه الخصوص في القيام بمهام التنمية المستقلة التي قد يحجم عنها قطاع الاعمال, بالذات شقه الخاص, بسبب تمسكه باعتبارات تعظيم الربح في الاجل القصير, وفي تمكين الفقراء من انتشال انفسهم من وهدة الافقار الذي هو نتيجة حتمية لنشاط السوق المنفلت.
ومن ثم, يتكامل مع وجود قطاع خاص مضبوط بالمصلحة العامة, من قبل الدولة, والمجتمع المدني. قطاع أعمال عام يكون هو الآخر, قادرا, كفئا ومجددا, ومضبوطا بالمصلحة العامة.
لقد آن الأوان للقضاء علي حالة الترويع التي خلقتها برامج إعادة الهيكلة الرأسمالية في البلدان العربية, تحت المسمي الخادع الاصلاح الاقتصادي, من قيام قطاع اعمال عام في الاقتصادات العربية.
بل يقتضي تعظيم فرص التنمية المستقلة العدول عن تحويل الملكية العامة الي الملكية الخاصة في ظل برامج التكيف الهيكلي, والذي تم بتسرع وإفساد منذ سبعينيات القرن العشرين, ولم يفلح في ترقية الانتاجية أو خلق فرص العمل كما كان يدعي, ولكن ساهم في خلق فئة رأسمالية تابعة للمصالح الخارجية ولرأس المال العالمي, وفي انشاء تزاوج خبيث بين وجهي القوة( الثروة والسلطة) في البلد, وفي تعميق الاستقطاب الاجتماعي واستشراء الفساد. ويعني ذلك التوجه علي وجه الخصوص, وتأميم المشروعات الاحتكارية التي أضحت مملوكة للقطاع الخاص, المحلي والاجنبي, والتي اقتنصت بثمن بخس في حمي الخصخصة, وافضت الي مثالب مجتمعية عديدة من دون ان تسهم في خلق فرص العمل أو تعظيم الناتج أو ترقية الانتاجية.
ولكن حيث عاني قطاع الاعمال العام فيما مضي, في سياق سياسات اقتصادية واجتماعية غير رشيدة, من سوءات تردي الانتاجية والبطالة المستترة وضعف العائد الاقتصادي, يصبح من الواجب تبني أشكال جديدة من الملكية العامة في توسع نطاق الملكية من الحكومة الي الشعب, وتكرس الملكية التعاونية, وتنافح ضعف الانتاجية والبطالة المستترة وتسمح, لتحقيق هذه الاهداف, بقيام نسق من الحكم الصالح في مشروعات قطاع الاعمال, يتميز باتساع التمثيل والشفافية والافصاح والمساءلة والمسئولية المجتمعية.
إذ في مشروع قومي للتنمية المستقلة يمثل قطاع الاعمال العام, مع القطاع الخاص الهادف للربح, ذعامتي قطاع قوي وقادر للأعمال, يتكاملان في بنية انتاجية تدعم بناء الطاقات الانتاجية بشرط ان يتحلي المكونان بمبادئ الحكم الصالح. وبحيث يتخلص قطاع الاعمال العام من سوءات حقبة مضت, كان فيها مرتعا للبطالة المقنعة وتردي الانتاجية وللتعمية علي خطايا القرار السياسي والاقتصادي غير الرشيد, ويبرأ القطاع الخاص من سوءات الانفلات والركض وراء الربح السريع في عصر العولمة الرأسمالية المنفلتة الذي عايشناه منذ الربع الأخير من القرن الماضي, وسبيل ذلك ضبط الدولة للاسواق وقيامها بدور العدالة التوزيعية.
ويتفرع عن ذلك النمط من الاقتصاد المختلط الحاجة لقيام جهد تخطيطي كفء, من الصنف التأشيري, تسانده قواعد بيانات شاملة ودقيقة ودائبة التحديث, والذي ترسم فيه الدولة الموجهات العامة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي وتتيحها لجميع وحدات النشاط في قطاعات المجتمع الثلاثة.
والوسيلة الثانية للتنمية الانسانية المستقلة هي بناء الطاقات الانتاجية الذاتية, ما يستلزم تعبئة الادخار المحلي وضمان اقصي استفادة من رأس المال البشري المصري في الداخل, مع العمل علي توظيف الامكانات الهاربة من خلال المسيرة التنموية الحالية, سواء كانت في صورة رءوس اموال( مالية), أو وهو الاهم رأس المال المعرفي الذي تحمله الكفاءات المصرية المقيمة بالخارج.
والوسيلة الثالثة: هي بناء آليات فعالة للتكامل العربي في جميع مجالات النشاط الاقتصادي, وبوجه خاص في اكتساب المعرفة, وترقية الانتاجية, وتعظيم التنافسية. فعلي الرغم من كثرة الآليات القائمة حاليا في ميدان العمل العربي المشترك فهي تشترك جميعا في سوءات البيروقراطية الدولية من بطء وعقم, بل فساد في أحيان أخري.

 

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 132 مشاهدة
نشرت فى 9 مايو 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,795,566