بقلم : د. جمال عبدالجواد
سبب الظهور الصريح للتيار السلفي علي سطح المجتمع والسياسة في مصر صدمة للكثيرين, رغم أن البعض منا يرون في قصة السلفيين بجملتها حيلة جديدة من حيل فلول النظام السابق والثورة المضادة لترويع الشعب وتخويفه من الديمقراطية ومخاطرها,
وللوصول بالمصريين إلي حد الندم علي أيام النظام السابق, لم أكن من بين المصدومين بالظهور السريع والكبير للسلفيين, ولا بالربط بينهم وبين حوادث عنف وقعت ضد مواطنين عزل مسالمين, وضد مساجد ومقدسات دينية تخالف معتقدات السلفيين, فقد لاحظت النمو السريع للتيار السلفي منذ سنوات سابقة علي الخامس والعشرين من يناير, كما لاحظت ارتباط عناصر من السلفيين بحوادث الفتنة والعنف الطائفي التي حدثت في السنوات الأخيرة تحريضا أو تنفيذا, فالتيار السلفي موجود في مصر وليس من صنع الثورة المضادة, وإن كنت لا أستبعد أن هناك من يسعي لتوظيف السلفيين لتحقيق مآرب سياسية, وهي مقامرة شديدة الخطورة أتمني لو أن القائمين بها, والمستهدفين منها يدركون مخاطرها ومغزاها, ليعيدوا حساباتهم علي أساسها.
في كل الأحوال فإن التيار السلفي هو تيار موجود في المجتمع المصري, وأنه ينوي الخوض في ميدان السياسة في الفترة القادمة مستفيدا من مناخ الحرية الذي انفتح منذ الخامس والعشرين من يناير, وأن بعض الأحزاب السياسية التي ستظهر في الأسابيع القادمة ستكون أحزابا سلفية الهدف والفكر والممارسة, وأنه سوف يكون مطلوبا منا جميعا اتخاذ التدابير والسياسات اللازمة لاتاحة الفرصة للسلفيين للمشاركة, مثلهم في هذا مثل غيرهم, دون تعريض مستقبل الديمقراطية والاستقرار في مصر للخطر.
لا يوجد حل لهذه المعضلة سوي عبر القانون, أولا بتطبيق القوانين القائمة, وثانيا بسن قوانين جديدة مناسبة للحالة والظروف المصرية. وأهم ما لدينا في هذا المجال هو قانون الأحزاب الجديد الذي أظنه يحتاج تعديلا, فقانون الأحزاب يمنع تكوين الأحزاب علي أساس ديني منعا لتمزيق المجتمع علي أساس طائفي, ورغم أن هذا النص يسهل الالتفاف حوله عبر صياغة أهداف الحزب وبرنامجه بطريقة فيها القليل من التصريح والكثير من المعاني المضمرة, إلا أن لهذه الحيلة في حد ذاتها قيمة كبيرة, فما يفرضه القانون من تهذيب للخطاب الحزبي, وتدوير ما فيه من زوايا حادة مدببة هو أحد المكاسب الكبري التي تجنب المجتمع كرات اللهب التي يطلقها خطاب تيارات متطرفة مغلفة بغلالة من الدين المخلوط بالسياسة.
غير أن منع قيام الأحزاب علي أساس ديني يجب ألا ينصرف فقط إلي برنامج الحزب الذي يحصل بمقتضاه علي الترخيص, الذي أصبح عن طريق الاخطار, وإنما ينصرف أيضا إلي كل الانتاج الفكري والسياسي والدعائي للحزب, كما ينصرف إلي ممارساته, وكلها أشياء تأتي في مرحلة لاحقة علي التأسيس, وهي مرحلة يجب أن تظل مشمولة بقانون الأحزاب وولايته, وهو ما يحتاج القانون بشأنه إلي تعديلات تفسر وتنطق بما جاء مبهما في النص الحالي.
في قانون الأحزاب نص يمنع تكوين أجنحة ومنظمات عسكرية تابعة للأحزاب, الهدف من هذا النص هو الحفاظ علي السياسة نشاطا سلميا بعيدا عن العنف, وإلا أدت إلي تدمير البلاد, غير أن العنف في المجال السياسي أكبر كثيرا من مجرد وجود أجنحة عسكرية تابعة لأحزاب, فالسلفيون ليس لديهم أجنحة عسكرية, ومع هذا تورطت جماعات وأفراد منهم في استخدام العنف, وهي الممارسة التي يجب أن تكون مشمولة بالتجريم من جانب قانون الأحزاب.
أيضا فإن العنف الذي تورط فيه بعض السلفيين مؤخرا لم يكن بحاجة لأسلحة نارية أو ما شابه من أنواع التسليح المستخدمة في المنظمات العسكرية, وإنما كان كل ما احتاجوه هو أسلحة بيضاء ومواد سهلة الاشتعال, وهي مواد شائعة الاستخدام بين الناس, ولكنها تكتسب خطورة خاصة عندما تستخدمها منظمات لها أغراض سياسية, وعلي القانون ان يشمل مثل هذه الممارسات بنصوصه مغلظا العقوبة عليها, بعد أن ثبت أن أثرها السياسي والترويعي والارهابي لا يقل خطورة عن الأسلحة النارية التي ينصرف لها الذهن عادة عندما يدور الحدث عن المنظمات والأجنحة العسكرية والأسلحة.
الاقتصار في تعريف الأنشطة العسكرية علي حيازة الأسلحة النارية والتدرب عليها واستعمالها, يعكس انشغالا بمخاطر التنظيمات المسلحة علي الدولة, فمن يريد محاربة الدولة لن يحاربها بالسنج والمطاوي وزجاجات المولوتوف, غير أن هذه الأدوات نفسها أكثر أثرا في ترويع المجتمع والمخالفين فكريا وسياسيا من الأسلحة النارية, وهو ما يجب أن يلتفت له المشرع, ويضع نصوصا واضحة بشأنه في القانون مواصلة لدوره في تحصين الديمقراطية وحماية للمجتمع من بعض مخاطرها المحتملة.
العنف المادي أيا كانت أدواته, إذ يجب ان يكون مجرما بشكل واضح في قانون الأحزاب, ويجب أن يشمل التجريم أيضا العنف اللفظي, ومع أن العنف اللفظي هو تعبير مطاطي يمكن ان يحمل أوجها متعددة, لكن في إطار الكلام عن الأحزاب والأنشطة السياسية, فإن العنف اللفظي يشكل كل ما يمكن تصنيفه باعتباره خطاب كراهية وتحقير ضد شركاء في الوطن, من ناحية لأن خطاب الكراهية يؤجج الفتنة والانقسام, وهو ما يجب للديمقراطية أن تحمي منه لا أن تزيده, ومن ناحية أخري لأن خطاب الكراهية هو المسوغ الفكري والمقدمة الطبيعية للعنف الذي ثبت أن جماعات دينية سياسية ليست محصنة ضده, بل إنها قد تسوغه وتمنحه بعض الشرعية, أو علي الأقل تقدم له الأعذار.
قانون الأحزاب ليس هو التشريع الوحيد الذي يتوقع منه وضع ضوابط كافية لمقاومة التطرف والعنف, ولكن هناك تشريعات أخري يجب أن يتم تعديلها لاستكمال المنظومة التشريعية الكفيلة بحماية المجتمع. وبشكل خاص فإن قانون العقوبات عليه أن يميز بين جرائم العنف المختلفة, وارتكاب عنف بدافع الكراهية السياسية والدينية. فآثار العنف الجنائي العادي لا تنتشر كثيرا فيما وراء ضحاياها المباشرين, لكن آثار العنف المدفوع بكراهية موجهة ضد فئة معينة تمتد لتشمل قطاعات واسعة في المجتمع, ويمكن لها أن تدمر المجتمع بأكمله, ولهذا فإن جرائم عنف الكراهية يجب أن تنالها عقوبات أكثر شدة بكثير من جرائم العنف الأخري, ويمكن للتشدد إزاء هذا النوع من الجرائم أن يشمل شروطا أكثر تشددا فيما يتعلق بتفسير عقوبة السجن المؤبد, وإمكانيات الافراج المبكر قبل اكتمال مدة العقوبة.
لقد انفتح لمصر باب كبير للدخول إلي عالم الديمقراطية الرحب, ويجب ألا نهدر هذه الفرصة بسبب البعض منا الذي يرفض الديمقراطية فلسفة وفكرة وممارسة, ولكنهم لايتورعون عن استخدام آلياتها لتدميرها والانقضاض عليها, أو بسبب ترددنا في وضع القواعد الضامنة لديمقراطية فعالة تحمي المجتمع من العنف والفوضي والتقلبات المفاجئة.
ساحة النقاش