الحوار أشكاله وعناصره
د.سعيد إسماعيل صيني
استاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود كلية الدعوة سابقاً
========================================

يكاد يجمع الباحثون في الحوار على أنه المراجعة في الكلام بين طرفين حول موضوع محدد( ) . وثمة من يضيف بأنه يمكن أن يكون بين أكثر من طرفين( ) أو مع النفس( ) ، وأن الهدوء يغلب عليه( ) ، وأن موضوع المحاورة لا يشترط فيه أن يكون علمياً أو جادّاً( ) . ويشترط يلجن أن يكون الأمر منظماً( ) ، ويؤكد آخرون بأن الحوار مضمون وأسلوب( ) . ومع وجود الاتفاق على أن المحاورة تكون بالكلام فهناك من يضيف بأن المحاورة قد تكون بالكتابة( ) ، أو بالتعبيرات غير اللفظية مثل : السكوت وتعبيرات الوجه أو نبرات الصوت( ) .
وهناك عدد من المصطلحات كثيراً ما تُستخدم مع مصطلح المحاورة أو بديلاً لها ، ومن هذه : الجدل والمجادلة ، والمناظرة ، والمناقشة ، والمحاجة ، والمباحثة ، والمراء ، والمفاوضة .
وتختلف الآراء حول العلاقة بين هذه المصطلحات ومصطلح المحاورة حيث يفرق البعض بين الحوار والجدل باعتبار الجدل يتسم باللدد في الخصومة وما يتصل بذلك من معنى العناد والتمسك بالرأي والتعصب له ، أما الحوار فلا يتسم بذلك على وجه الضرورة( ) . ويرى الألمعي أن الجدل أكثر شمولية من الحوار أو هما متساويان ، حيث يصرح بأن المنهج الذي سار عليه في بحثه هو " اعتبار كل محاورة فكرية تحدث عنها القرآن الكريم داخلة في الجدل "( ) .
وعندما يأتي الحديث عن المناظرة فإن زيادة يقول " المحاورة أعم من
المناظرة ، وكل من المحاورة والمناظرة حوار . وإذا وُجد في الحوار محاجة أو مجادلة أو خصومة أو نزاع كان مناظرة "( ) . ويرى آخرون بأن الحوار والمناظرة متساويان من حيث كونهما يخلوان جميعاً من المنازعة والمخاصمة( ) .
ويفرق البعض بين المجادلة والمناظرة ، فالمناظرة حسب تصورهم لا تدل على الخصومة( ) بينما يرى آخرون أنهما سواء لأنهما جميعاً تتضمنان الخصومة والعناد( ) .
ويستعرض جريشة النصوص الواردة في المحاجة في القرآن الكريم و الواردة في المراء ، ثم يخلص إلى القول بأن الكلمات الثلاث مترادفات جاءت بمعان متقاربة وإذا أطلقت تعني الشيء المذموم . وهي من حيث كونها إلى الذم أميل تأتي بالترتيب التالي : المراء أولاً ثم المحاجة ثم الجدال( ) .
ويستعمل الراوي الجدل والحوار والمناظرة بطريقة توحي بأنها مترادفات( ) . ويذهب أبو الأنوار إلى استخدام الحوار بطريقة يندرج فيها الحوار بين طرفين انتصاراً لفكرة أو شجباً لها ، إضافة إلى المناقشات الهادئة( ) . أما اللبودي فتصرح في حديثها عن أشكال الحوار بأن الحوار يشمل : المحادثات الحرة ، والمناقشة ، والمجادلة ، والمناظرة ، والسؤال والإجابة ، والتفاوض( ) .
ويبدو من الاستعراض السابق أن العلاقة ليست بالوضوح الذي يمكن أن يستقر عليه الرأي . فهناك من يقول بأن المجادلة والحوار مختلفتان ، وآخرون يقولون بأنهما سواء ؛ وهناك من يجعل المجادلة مساوية للمناظرة وآخرون يفرقون . والذين يفرقون بينهما يجعلون المناظرة مساوية للحوار ، أما الذين يساوون بينهما فيجعلون المناظرة مختلفة عن الحوار . ويجعل بعضهم الحوار اسماً شاملاً يضم أشكالاً عديدة منها المجادلة والمناظرة والمفاوضة .
وهنا يبرز سؤال حول العلاقة بين هذه المصطلحات المتشابهة .
? هل هناك فرق بينها أو أنها مترادفات ؟ وما نوع الفروق بينها إن وُجدت ؟
وتتحدث الجهود السابقة عن خصائص المحاورة النموذجية ، أو صفات المحاور الناجح ، فتدرج هذه الخصائص أو الصفات تحت عناصر رئيسة ، مثل : أصول الحوار( ) ومنطلقاته( ) وأسسه( ) وقواعده( ) وآدابه( ) وأساسياته( ) وشروطه( ) وأساليبه( ) . وقد أمكن حصر أكثر من مائتي صفة عبر المؤلفات المختلفة بعد استبعاد المكرر منها . ويلاحظ أن كثيراً من هذه الصفات أو الخصائص تتكرر بعينها عبر العناصر أو المصطلحات المختلفة . وهنا يبرز السؤال التالي :
? ما طبيعة هذه العناصر مستقلة ؟ وما طبيعتها مضافة إلى الحوار ؟
للإجابة على التساؤلات السابقة روعي ما يلي :
1- 1- عدم الاقتصار على المدلولات الواردة في معاجم اللغة أو حتى في الكتابات السابقة ، ومحاولة استقراء مدلولاتها المستعملة في الكتابات الحديثة أيضاً . فاللغة كائن حي ، أو على الأصح المفردات كائنات حية تنمو وتزدهر ويطرأ على مدلولاتها التعديلات والإضافات . وقد تموت أحياناً . وهذه القاعدة صحيحة حتى بالنسبة لمفردات اللغة العربية ، وإن كانت بنسبة أقل ، وذلك لوجود معيار ثابت من أربعة عشر قرناً يتمثل في نصوص القرآن
الكريم وفي نصوص السنة النبوية( ) . ولهذا لابد من استقراء الواقع لتحديد مدلول المصطلحات بدلاً من الاقتصار على ترديد ما هو مسجل منها في معاجم اللغة .
2- الاعتماد على استعمالات هذه المصطلحات في الكتابات المتخصصة واليومية ، مع الاستعانة بتعريفات السابقين في توضيح العلاقة بين المصطلحات المتداخلة ، ومناقشتها للوصول إلى الرأي الراجح . ولهذا تم عمل استبانة خاصة بعناصر مصطلح " الحوار " ومشابهاته أو مشتقاته ، واستبانة خاصة بالحوار والمصطلحات ذات العلاقة . وتم توزيع الاستبانة على عدد من المتخصصين في اللغة أو كثيري القراءة .
3- عند الاستعانة بمعاجم اللغة تم الاقتصار على المدلولات ذات
العلاقة والمتسقة مع موضوع البحث . وتمت مقاومة الرغبة في تسويد
الصفحات بالنقولات التفصيلية أو شبه التفصيلية ، مثل إيراد كل أو جل المدلولات الواردة في معنى الكلمة بأدلتها التي وردت في معاجم اللغة أو بدون أدلتها.
فالأصل أن يعود القارئ إلى معاجم اللغة نفسها إذا أراد التفاصيل اللغوية حول أصول الكلمة ومدلولاتها المتعددة وتشعباتها وأدلتها إذا كانت لها صلة باهتماماته الخاصة .وكذلك تم تجنب تكرار المدلولات نفسها وإن وردت في مصادر أخرى ، والاقتصار على الإشارة إلى تلك المصادر .
ورد في معاجم اللغة العربية بأن كلمة المحاورة والتحاور تفيد المجاوبة والتجاوب( ) بيد أن هذا التعريف لا يكفي للإجابة على التساؤلات . لهذا تم استعراض مصطلح المجادلة وعلاقتها بالحوار ، ومصطلح المناظرة وعلاقتها بالجدل ، وبقية المصطلحات وعلاقتها بالحوار .
1-الجدل والمجادلة :
لعل مصطلح " الجدل " و" المجادلة " هو أكثر المصطلحات وروداً في الجهود السابقة وأقدمها في المؤلفات ذات العلاقة بالحوار . فقد حظي مصطلح " الجدل " بين علماء الإسلام على قدر كبير من الاهتمام ربما بسبب وروده في القرآن الكريم ، وبسبب علاقته بالصراع الدائم بين أصحاب المذاهب الفقهية المختلفة . ويقول حسن بضرورة التفريق بين الجدل باعتباره سجية وطبعاً ( ممارسة ) والجدل باعتباره علماً وفناً( ) . وباستعراض المراجع المتعددة نجد ما يؤكد هذا القول . وسوف تقتصر هذه الدراسة على تعريف مصطلح الحوار عموماً دون الخوض في تفاصيل علوم الجدل والمناظرة .
وتعني كلمة " الجدل " في معاجم اللغة الخصومة ، وأحياناً الخصومة الشديدة ، إضافة إلى مدلولات أخرى( ) . ويربط الجويني بين المدلولات الموجودة في معاجم اللغة وبين مدلوله في الاصطلاح فيقول( ) : " إن قلنا : إنه في اللغة للإحكام ، فلأن كل واحد من الخصمين إذا كان يكشف لصاحبه صحة كلامه بإحكامه ، وإسقاط كلام صاحبه – سميا متجادلين... وإن قلنا : إنه مأخوذ من الفتل ، كقولهم جديل ، فيكون ذلك واقعاً بين طاقي الحبل ، فقيل يقع بين الخصمين جدال ، لأن كل واحد منهما يفتل صاحبه عما يعتقده إلى ما هو صائر إليه " . ومن الدلالات اللغوية " الصرع " والرمي على الجدالة التي هي الأرض ، فإن كان في اللغة مأخوذ من هذا المعنى ، حيث يقال : " جدلته فا نجدل وتجدل ، إذا ضربته على الجدالة ، وهي الأرض المطمئنة الصلبة ، المحكمة وجهها . فيكون كل واحد من الخصمين يروم غلبة صاحبه بإسقاط كلامه ، بتقوية كلام نفسه عليه كالمتصارعين يروم كل إسقاط صاحبه بغلبته عليه وقوته عليه . " ولهذا يقول الجويني في تعريف الجدل هو " إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة "( ) . ويؤيده في ذلك العميرين( ) وحسن( ) . ويلاحظ هنا أن الجويني يدخل وسيلة التعبير غير اللفظية في الجدل .
ويعرف ابن حزم الجدل بأنه : " إخبار كل واحد من المختلفين بحجته أو بما يقدر أنه حجته... وقد يكون كلاهما مبطلا"( ) . أما الباجي فيعرف " الجدل " بأنه : " تردد الكلام بين اثنين ، قصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه " ( ) .
ويؤيد العكبري غيره في التركيز على عنصر المنازعة في الجدل بقوله " هو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو شبهة ، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره " ( ) . أما الجرجاني فيؤكد على عنصر المراء والتحدي بقوله :
" الجدل عبارة عن مراء يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها( ) . ويقول التومي : إن الجدل يطلق على المشادة الكلامية التي تهدف إلى تحقيق الغلبة وإلحاق الهزيمة بالمخالف فقد قيل : إن الجدل والجدال هو المفاوضة على سبيل المنازعة( ) . ويلاحظ على هذه التعريفات أنها تتحدث عن الجدل الفقهي بين المذاهب
المختلفة .
أما ابن وهب فيتوسع في تعريف الجدل ويخرجه عن دائرة الجدل بين أصحاب المذاهب فيقول : إن الجدل والمجادلة " قول يقصد به إقامة الحجة فيما اختلف فيه اعتقاد المتجادلين ، ويستعمل في المذاهب والديانات وفي الحقوق والخصومات والتنصل في الاعتداءات "( ) .
وعند مراجعة الآيات القرآنية التي وردت فيها استعمالات كلمة " الجدل " نجد أن جوهر مدلول كلمة " جادل " هي المعارضة على وضع قائم أو رد فعل لمعارضة سابقة( ) . وكما هو معلوم فإن الدفاع يندرج تحت المعارضة . ولهذا فإن كلمة جادل إذا أُطلقت تميل قليلا إلى أن تكون شيئاً سلبياً . وربما يؤكد هذه الحقيقة قوله تعالى : ? ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ?( ) . وقوله عليه الصلاة والسلام : ( ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل )( ) .
ومع هذا فهي قابلة لأن تكون في خدمة الحق، ويوجهها السياق الذي تأتي فيه. كما هو في قوله تعالى: ? ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.. ?( ) فالأصل أن يبدأ الرسل بالدعوة ، ولكن إذا جادلهم أحد فيجادلوهم بالحسنى .
2-الجدل والحوار :
هناك من يؤكد الاختلاف بين الحوار والجدل باعتبار الجدل يتسم باللدد في الخصومة وما يتصل بذلك من معنى العناد والتمسك بالرأي والتعصب له . أما الحوار - عند الإطلاق - فلا يتسم بالخصومة على وجه الضرورة . ويدعم مؤلف أصول الحوار هذا الرأي بقوله : إن مادة الجدال وردت " في تسعة وعشرين موضعاً في القرآن الكريم ، يغلب عليها جميعاً أن يكون السياق عدم الرضا عن الجدال ، وإما عدم جدواه"( ) مؤيداً بذلك قول ابن الحنبلي( ) . ويؤيد هذا القول ما خلص إليه العميرين في تعريفه للجدل لغوياً ، حيث يفيد بأن معناه يتضمن الفتل والقوة والصرع( ) . ويرجح الحسيني هذا الاختلاف بين الحوار والجدل للسبب نفسه( ) .
ومع أن موقف زمزمي متردد بين هذين الرأيين، فإنه يبدو أكثر ميلاً إلى إثبات الاختلاف بين الحوار والجدال ؛ لأن الأخير يدل على الشدة والمخاصمة( ) . ويقول في موضع آخر : إن الجدال نوع من المحاورة( ) . وتصرح اللبودي بالتفريق بينهما في تقسيمها الذي يجعل المجادلة نوعاً من أنواع المحاورة( ) .
وبالاحتكام إلى القرآن الكريم نجد شيئاً من الاختلاف بين الحوار والجدال عند الإطلاق . فأحد الطرفين فقط قد يكون مجادلاً والآخر محاوراً أو ناصحاً ، ولكن كلاهما يسمى محاوراً . ومثال ذلك قوله تعالى : ? قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ?( ) . فالآية تفيد بأن الحوار - عند إطلاقه - قد يضم حواراً وجدالاً في آن واحد . كما أن المجادلة إن أُطلقت تتسم بالإلحاح والإصرار ، أما الحوار إذا أطلق فلا يتسم بذلك . فهذه المرأة كانت تجادل ( تحاور بشدة ) الرسول وتشتكي إليه زوجها ، بينما كان هو عليه الصلاة والسلام يحاورها
( بلطف ) ليقنعها بالصبر والتسامح مع زوجها الذي هو ابن عمها( ) .
ويبدو أن من سمات الجدل المتفق عليه أن يكون الجدل بين طرفين ، وأن يكون لكل منهما موقف مخالف لموقف الآخر ، وأن يكون بينهما تدافع وتناف وإن كان بالإشارة التي تنوب عن العبارة( ) . أما في المحاورة عند إطلاقها فالتعارض والتدافع غير ضروري. فقد يكون تأييداً لقول الطرف الآخر بدون إضافة ، أو تأكيداً بإضافة . وبهذا يتأكد الاختلاف بين الحوار والجدل .
المتأمل في القرآن الكريم يجد أن مدلول كلمة " نظر " ومشتقاتها تنحصر في : النظر ، والتأمل، والتأكد ،
والاختيار( ) . ولم ترد كلمة " ناظر " أو " المناظرة " في القرآن الكريم أو في السنة النبوية بمعناها الذي يتسق مع موضوع البحث .
ويلاحظ أن كلمة المناظرة من المصطلحات التي يكثر استعمالها مع مصطلح الجدل والمجادلة ، ولكن يبدو أنه اشتقاق لم يظهر في القرن الهجري الأول . وربما لم يظهر إلا مع ظهور العناية بآداب الجدل والصورة المأمولة للجدل بين الفقهاء . فقد خصص معظم الذين كتبوا في الجدل جزءاً من كتبهم لآداب الصورة المثالية للمناظرة ، بل أفرد بعضهم لها مؤلفاً خاصاً( ) .
وهناك مصادر تشير إلى أن المناظرة من " النظير " بمعنى الند ، وبمعنى المقابل مثل: منزلي يناظر منزلك أي يقابله( ) . ويقول حسن عن المناظرة : " المناظرة بمعناها الاصطلاحي يوجد فيها معنى التناظر الذي هو التقابل ، سواء أكان بين الأشخاص في المجلس الواحد ، أو بين الأدلة والحجج... "( ) ويستبعد أن يكون من معاني المناظرة نظر الإنسان بالبصيرة مع نفسه ، وذلك لأن المناظرة لا تكون إلا بين طرفين ، مؤيداً في ذلك الجويني( ) . وهذا يعني أن النظر والمناظرة مختلفان ، فالنظر أكثر شمولية من المناظرة ، لأن الأول قد يكون من طرف واحد .
ويبدو أن المناظرة في الواقع وإن كان أساسها من النظر فإنها تطوّرت لتعني التناظر المشحون بروح التحدي . فكل واحد من الطرفين يعتبر نفسه عند المناظرة نظيراً للآخر أو نداً وقادراً على أن يتحداه . فالجويني مثلاً يقول : " فأما النظر فهو اسم مشترك بين معاني شتى : يقال للانتظار نظر... وللمقابلة نظر... وهذا الجبل ينظر إلى ذلك الجبل إذا تقابلا . ويضيف " فأما المناظرة فهو مأخوذ من النظر ولكن ليس كل نظر مناظرة من حيث إن المناظرة مفاعلة من النظر"( ) . ويقول أيضاً إن البعض حدد المناظرة بأنها " نظر مشترك بين اثنين " . وهذا باطل لأنهما يشتركان على التعاون والتوافق فيه وكل واحد على الانفراد ينظران فيه "( ) . وكأن الجويني بهذا القول يستبعد الصورة المثالية التي رسمها البعض للمناظرة ، ويؤكد ما يجري في المناظرة الواقعية من تنازع واختلاف . فهل هذا يعني أن الجدل والمناظرة متساويان ؟
هناك من يجعل الجدل مساوياً للمناظرة بصراحة ، وآخرون يتعاملون معهما بشكل يدل على أنهما كلمتان متساويتان . وهناك فئة ثالثة تفرق بينهما .
1-لا فرق بين الجدل والمناظرة :
يقول الجويني بصراحة " ولا فرق بين المناظرة والجدال ، والمجادلة والجدل في عرف العلماء بالأصول والفروع ، وإن فُرق بين الجدل والمناظرة على طريقة اللغة ، وذلك أن الجدل في اللغة مشتق عن غير ما اشتق منه النظر " ( ) . ويأخذ حسن برأيه ويجعله المعتمد عليه في كتابه( ) . ويستعمل الغزالي كلمة المناظرة بطريقة توحي بأنها مرادفة للمجادلة( ) . ويستخدم أبو زهرة الجدل والمناظرة في مواضع مختلفة بصفتهما مترادفتين( ) . ويوافقه في ذلك الألمعي( ) . ولكن موقف أبو زهرة ليس واضحاً بصورة كافية ، فهو أحياناً يفرق بينهما( ) . وكأن العميرين ينزع إلى ما ذهب إليه الألمعي فيرى صراحة أو ضمناً أن الجدال والمناظرة مترادفتين( ) .
ومع أن جريشة يتبنى الرأي الذي يقول : ن المناظرة لون من الجدال بالأحسن( ) ؛ هناك ما يشير إلى أنه يستعمل " تجادل " و" تناظر " بصفتها مترادفتين( ) ، مؤيداً في ذلك مؤلفي كتاب أصول الحوار( ) . ويقول زيادة " وإذا وُجد في الحوار محاجة أو مجادلة أو خصومة أو نزاع كان مناظرة "( ) .
2-هناك فرق بين الجدل والمناظرة :
يقول أبو زهرة : وإن كان الجدل والمناظرة أحياناً تطلق إحداهما في موضع الأخرى ، فإنهما يختلفان في الاصطلاح ، لأن الجدل يكون الغرض منه إلزام الخصم والتغلب عليه ، أما المناظرة فتكون للوصول إلى الصواب( ) . ويقول زمزمي : إن المناظرة تدل على النظر والتفكر ، والجدال والمحاجة تدلان على المخاصمة والمنازعة " ( ) . ويفهم من الميداني أنه يفرق بين المناظرة والجدال إذا أطلق ، حيث يقول : " قد تدعو حاجة البحث المشترك للتوصل إلى الحق... إلى استخدام وسيلة ( المناظرة ) ، وهي الجدال بالتي هي أحسن " ( ) .
3-الجدل والمناظرة بين المأمول والواقع :
لقد لاحظنا فيما سبق بأن البعض لا يفرق بين الجدل والمناظرة باعتبار المناظرة بحث ونظر والمجادلة خصومة وتنازع ، أما البعض الآخر فلا يرون فرقاً بينهما لاتصافهما جميعاً بالخصومة والتنازع .
ويبدو أن هذا الاختلاف منشؤه اختلاف الطرفين في نوع المناظرة التي يقارنها بالمجادلة ، وذلك لوجود صورتين للمناظرة : الصورة المأمولة والصورة الواقعية . فمن يثبت الفرق يضع في ذهنه المناظرة المأمولة التي تعادل البحث والنظر و التي وضع لها البعض شروطاً وقواعد يرون ضرورة التزام المتناظرين بها( ) . أما من ينفي الفرق بينهما فيضع في ذهنه السمات الغالبة على المناظرة في الواقع والتي تأخذ شكل التحدي المبطن أو السافر ويحتشد لها الجمهور من أتباع الطرفين أو المحايدين ، ولا تختلف عن المجادلة من هذه الناحية . فالألمعي مثلاً يشير إلى الصورة الواقعية فيقول : " مجالس المناظرة كان يكتنفها في معظم الأحيان اللدد والحجاج وتحزب كل فريق لرأيه وبذل الجهد في تأييده وتدعيمه ، مما دعا إلى توسع دائرة الخلاف وتشعب طرق النقاش" ( ) . ويؤكد آخرون هذه الحقيقة بجعلهم من صفات المناظرة : المصارعة والإفحام والإلزام( ) والانقطاع( ) .
والملاحظ أنه كلما زادت هوة الاختلاف والتعارض بين الطرفين كلما كانت المناظرة حامية أكثر ، وكلما زادت شعبية وجهة نظر الطرفين كلما كانت المناظرة أيضا أشد خصومة ، ومثال ذلك المناظرات التاريخية بين بعض المسيحيين وبعض المسلمين ، وبين بعض أهل السنة وبعض أهل البدع التي تخرج من الملة .
وهذا لا ينفي وجود بعض المناقشات الهادئة بين بعض المختلفين في الرأي الفقهي فتنطبق عليها الصورة المأمولة للمناظرة . وهذه عموماً حالات لا تمثل السمة الغالبة للمناظرات الواقعية .
وهكذا بدا واضحاً أن الذين لا يفرقون يقارنون بين الجدل والصورة الواقعية للمناظرة ، فهل يعني هذا عدم وجود أي اختلاف بين الجدل والمناظرة الواقعية ؟ على الرغم من أن التوجه العام يشير إلى عدم وجود فرق بين الجدل والمناظرة الواقعية ، فإن هناك أدلة تشير إلى وجود بعض الفروق بينهما في التفاصيل ، ومنها ما يلي :
1. المجادلة لا تقتصر على المناقشة العقلانية أو القضايا الفكرية ( مثل : العقائد ، أو المسائل الفقهية أو بين الأديان ) ولكنها تشمل أيضاً القضايا والأساليب العاطفية . فالمرأة التي كانت تجادل الرسول ? كانت تحاوره في مسألة عاطفية ، وتستخدم أساليب عقلانية وعاطفية( ) . أما المناظرة فتقتصر على الحوار في مواضيع فكرية ، وفي الغالب تستخدم الأساليب العقلانية ، إلا إذا اضطر أحد الطرفين كما حصل لابن تيمية في مناظرته مع الرفاعية التي تدعي أن لديها قدرة خارقة مثل دخول النار دون الاحتراق . فتحداهم ابن تيمية وقال للأمير الذي كان يشرف على المناظرة : " ...أنا استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان
مغلوباً ، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار " ( )، واشترط ابن تيمية هذا الشرط لإزالة الدهون التي يشاع بين الرفاعية أنها تقي الجسم من حرارة النار .
2. المجادلة قد تكون محاولة للحصول على شيء يريده طرف من الطرف الآخر وقد ينتهي بالتصالح واختيار حل وسط . أما المناظرة فلا تنتهي - في
الغالب - إلا بإثبات أن أحد الطرفين كان على صواب والآخر على خطأ إما صراحة أو ضمناً .
3. الجدل قد يكون من طرف واحد في حوار بين طرفين غير متعادلين
مثل : بين الله سبحانه وتعالى والملائكة ، وبين الله جل جلاله وإبليس ، وبين أنبياء الله والمدعوين ، أما المناظرة فتكون بين نظيرين - على الأقل - في موضوع المناظرة وفي نظر نفسيهما ؛ ولا تكون بين الله ومخلوقاته ، ولا بين النبي ? وأحد من أتباعه .
يقول أبو زهرة : " إن المناقشة الواحدة قد تشتمل على المناظرة والجدل ، فقد يبتدئ الطرفان بالمناظرة للوصول إلى الحق فينتهيان إلى المجادلة والمكابرة " ( ) . وهو بقوله هذا ينبه إلى مصطلح المناقشة الذي يعتبره أكثر شمولية من الجدل والمناظرة . وكأن الألمعي لا يفرق بين الجدال والمحاجة ويجعل المباهلة نوعاً مختلفاً( ) . وبالرجوع إلى معاجم اللغة نجد أن المباهلة تعني الابتهال إلى الله بأن يعاقب الكاذب من الطرفين ، أي هي أكثر من مجرد المجادلة أو المحاجة ، لأنها تمثل قمة الخصومة والتحدي ، حيث يصل التمسك بالمعتقد الشخصي أو بالرأي إلى درجة الاستعداد للدعاء سوياً بإنزال لعنة الله على الكاذب منهما . ومثاله ما ورد في قوله تعالى: ? فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين? ( ) .
ويقرن ابن سعدي بين المناظرة والمباحثة( ). وأصل كلمة المباحثة " بحث " ترد بمعنى فتش عن الشيء أو طلبه ، وتستخدم في مجال العلاقات الدولية ( مثل المباحثات السياسية ) لتعطي معنى قريباً من المفاوضة أو من المناقشة التي لا تهدف إلى التوصل إلى اتفاقيات ولكن إلى تبادل وجهات النظر والتصورات . ويؤكد الألمعي هذا التوجه فيقول : " قد شاعت بين الناس ألفاظ إن لم تكن واحدة في المفهوم فهي قريبة بعضها من بعض كالمناظرة والمحاورة والمناقشة والمباحثة" ( ) . ويقول أيضاً " إن المحاورة هي المراجعة في الكلام ومنه التحاور أي التجاوب... وقريب من ذلك المناقشة والمباحثة " ( ). ويستخدم العميرين الحوار والمناقشة والجدل كمصطلحات مترادفة ( ) . ويبدو أن المناقشة تركز أكثر على النظر في الموضوع المحدد من زواياه المختلفة ، بخلاف المحاورة التي تركز أكثر على عملية المراجعة بين طرفين أو أكثر . ومثال ذلك : ناقش المسألة أو القضية الرياضية ، أي بحثها بدقة( ) .
ويرى جريشة أن من معاني المراء المجادلة وأن كلمة المراء ومشتقاتها وردت في نصوص قرآنية متعددة لتعني الجدل المذموم أو الجحود والشك( ) . ويقول الصويان: الجدال قد ينشئ المراء( ) . وتفيد المعاني المستقرأة من الآيات القرآنية ومن معاجم اللغة بأن المراء يعني المجادلة التي تركز على الشك والتكذيب( ) .
وأما " التحاج " فقد ورد في معاجم اللغة بمعنى التخاصم( ) . ويقول جريشة : إنه مجاذبة الحجة أو التخاصم " والكلمة " تدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة"( ) . وجاءت قريبا من استعمال الجدال ، وإن غلب على استعماله في الآيات الكريمة الإشارة إلى الجدال المذموم( ). ويؤيده في ذلك زمزمي( ) . ويوافق حسن الآخرين بأن من الألفاظ المرادفة للجدل : المحاجة ، والمحاورة ، والمناقشة ، والمباحثة( ). وبمراجعة الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة " حاجج " نجدها تتضمن أيضاً معنى المعارضة والإلزام بالحجة( ) .
ويجعل زمزمي المحاجة مساوية للجدل ، حيث يقول : " كلها تشترك معه (الحوار) في أنها مراجعة في الكلام ومداولة له بين طرفين ، فهي تدخل في معنى الحوار من هذه الجهة . ثم تفترق المناظرة في دلالتها على النظر والتفكر ، والجدال والمحاجة في دلالتهما على المخاصمة والمنازعة" ( ) .
ومن المصطلحات الشائعة التي تندرج ضمن المحاورة المفاوضة( ) . وهي تختلف عن المناظرة من حيث إمكانية اتفاق الطرفين على حل وسط في
المفاوضة ، ومستبعدة في المناظرة . وتستعمل للتوصل إلى اتفاقيات سياسية اقتصادية... تحقق مصلحة الطرفين قدر الإمكان أو بحسب قوة كل طرف . فالقوي في العادة يملي شروطه على الطرف الضعيف ، أي أن الأقل احتياجا إلى الآخر يملي شروطه على الأكثر حاجة إليه .
وتميزت اللبودي بأن أشارت بوضوح إلى أن الحوار أنواع وأدرجت
عددا من المصطلحات المتشابهة تحتها . فجعلت من أشكال الحوار : المحادثة الحرة ، والمناقشة ، والمناظرة ، والسؤال والجواب ، والجدال ،
والتفاوض( ) . كما قسمت الحوار إلى حوار تثقيفي ، وإقناعي ، وحوار مناسبات( ) . ولعل ما ذهبت إليه هو الصواب ، أي أن الحوار يشمل الأنواع المذكورة .
يلاحظ أن المصطلحات المتشابهة - في الغالب - تختلف من حيث حاجتها إلى صفات لازمة بالإضافة إلى الحاجة إلى موضوع وطرفين . كما يلاحظ أن المصطلح الأقل حاجة إلى الصفات الإضافية هو الأكثر قابلية لأن تكون القاعدة التي ترتكز عليها المصطلحات الأخرى المشابهة .
وإذا افترضنا صحة الملاحظات السابقة فإننا نلاحظ في الجدول رقم (1) الذي يحدد الصفات اللازمة لكل نوع من المصطلحات
المتشابهة ، أن المناقشة أقلها حاجة إلى صفات إضافية ؛ لأنها تركز على ضرورة وجود موضوع النقاش ، دون التصريح بشرط وجود طرفين أو أكثر . وتتلوها المحاورة التي تركز على وجود طرفين أو أكثر في المناقشة . أما الأنواع الأخرى فتحتاج إلى صفات أخرى لازمة إضافة إلى كونها مناقشة في موضوع ما بين طرفين أو أطراف متعددة . ولعل أكثرها حاجة إلى الصفات الإضافية هي المناظرة .
فالمناقشة عنصر أساس في جميع الأنواع ، والمحاورة تضم جميع الأشكال التي تحتاج إلى موضوع وطرفين . وبهذا نستطيع القول بأن " كل نقاش بين طرفين حول موضوع محدد هو حوار ، وهذا الحوار قد يكون هادئاً أو صاخباً ، وقد يكمل فيه كل طرف الآخر أو يعارضه أو يكذبه أو يتحداه... .
فالحوار بمعناه الواسع يعني التفاعل بين طرفين أو أكثر تتبادل فيه الأطراف المتحاورة المشاعر أو الاحتياجات أو الآراء أو الأفكار أو المعتقدات بوسائل التعبير اللفظية وغير اللفظية . فوسيلة التعبير قد تكون ألفاظاً منطوقة أو مكتوبة ، وقد تكون رسماً أو صورة أو نحتاً أو حركة .
ويُفترض في الحوار - بين المخلوقات - وجود رد فعل يحتمل أن يحدث قناعة أو استثارة للدفاع أو حيرة أو شعورا بالعجز عن الدفاع . فيندرج في الحوار أن يقول شخص شيئاً أو أن يفعل شيئاً ما فيقول الآخر شيئاً أو يفعل شيئاً كرد فعل له فيحدث ذلك أيضا رد فعل من الطرف الأول . وقد تتكون المحاورة من سلسلة طويلة من ردود الفعل . وقد تقتصر على رد فعل واحد .
ولا يندرج في الحوار طرفان أحدهما يقول شيئاً أو يفعله فيقلده الآخر . ولا يندرج فيه أن يُصدر طرف أمرا ثم ينفذه الآخر بدون نقاش .
وبهذا تندرج المناقشة ، والمباحثة ، والمفاوضة ، والمحاجة ، والمجادلة ، والمراء ، والمناظرة ، والمباهلة تحت الحوار . ولكل نوع من الأنواع صفاته الإضافية المميزة . انظر الجدول (1)

الجدول (1)


المصطلحات المناقشة المحاورة المحادثة االمباحثة المفاوضة المحاجة المجادلة المراء المناظرة المباهلة
1.الصفات الملازمة لكل مصطلح
تحتاج إلى موضوع * * * * * * * * * *
تركز أكثر على الموضوع * * * * * * * * *
تركز أكثر على المراجعة بين طرفين * * * * * * * * *
تحتاج إلى موضوع جاد * * * *
تشترط اختلاف الطرفين * * * * * *
تشترط تعارض الآراء والمصالح * * * * *
الشك والتكذيب عنصر أساس * * *
الخصومة تصل إلى درجة الملاعنة *
تهدف إلى الوصول إلى حل وسط *
أكثر عرضة للتحول إلى مباهاة وتفاخر * *
أكثر حاجة إلى وجود من يُحتكم إليه *
تحدٍ بين ندين ولو في موضوع النقاش فقط وفي اعتقاد كل واحد في نفسه *
وجود قواعد يحتكم إليها *
جمهور يحتكم إليه أو يشهد *
حرص كل طرف على هزيمة الآخر * * * *
تنحصر في الموضوع الفكري *
ضرورة استخدام الأسلوب العقلي *
لفظي فقط *
لاحظنا عند استعراض الجهود السابقة ظهور عناصر مختلفة ، تُدرج تحتها خصائص الحوار ، ومنها : الأسس والأصول والقواعد والشروط والمنطلقات والمنهج والضوابط والآداب( ) . ولم يظهر مصطلح " الأسلوب " بحجمه الذي يستحقه ، مع أن كثيراً من الصفات تندرج تحته ، ورغم كونه ركناً أساسياً في كل رسالة ولاسيما الرسالة الإقناعية . فأي رسالة لفظية ( مكتوبة أو شفوية ) لابد أن تتألف من المفردات والتركيبات النحوية والأساليب البلاغية أو الإقناعية( ) . وأي رسالة غير لفظية كذلك تحتاج إلى أسلوبها الذي تظهر به والذي قد يكون متقناً أو غير متقن . كما نلاحظ أنه رغم تعدد المصطلحات المتعلقة بالأسس والآداب لا نجد تعريفات لهذه المصطلحات حتى نتمكن من التمييز بينها . والحالة الوحيدة هي محاولة زمزمي التفريق بين الأصول والقواعد والآداب التي يقول فيها : " إذا كان لابد من التفريق بين أصول الحوار وآداب الحوار - ففي رأيي - أن الأصول هي عبارة عن القواعد الرئيسة الثابتة التي تضبط مسار الحوار ، وأما الآداب فهي طريقة الحوار ، والقواعد السلوكية التي ينبغي مراعاتها قبل الحوار أو أثناءه أو بعده " . ثم يعترف في الصفحة نفسها بأن هناك تداخلاً بين الاثنين( ) .
وقد تبين بالرجوع إلى معاجم اللغة( ) واستعمالات هذه العناصر أو المصطلحات أنها تتأثر بنوعية السياق الذي ترد فيه ؛ ومن السياق الإطلاق والقيد . فمثلاً عند الحديث عن الأسس أو الآداب بصورة مطلقة يختلف مدلولها عنه عند الحديث عنها وهي مقيدة مثل قولنا : " الأسس الإسلامية " أو " الآداب الإسلامية " . ومن السياق المجال الذي تستعمل فيه . فهي مثلاً في مجال البناء تختلف قليلاً عنها في مجال البحث العلمي أو في مجال الحوار... ومن السياق طريقة الصياغة مثل قولنا : " يختار الوقت المناسب للتحدث إلى رئيسه في قضاياه الشخصية "، وقولنا : " سوف يختار الوقت المناسب للتحدث إلى رئيسه في
قضيته " . ففي الأولى يكون إلى الأسلوب أقرب ؛ فهي قاعدة عنده . أما في الأخرى فهي إلى الوسيلة أقرب . فهو يتوسل بحسن اختيار الوقت ليقنع رئيسه .
كما يلاحظ أن بعض هذه العناصر أكثر تجسيداً في عالم المحسوسات . فالوسيلة المادية أكثر تجسيداً ويمكنك ملاحظتها بسهولة وبنظرة خاطفة ، أما الأسلوب فيحتاج إلى شيء من الاستقراء لعدد من الأحداث المتكررة ، والمنطلقات تحتاج إلى استقراء وحدس أكثر من الأسلوب . ويلاحظ أيضاً أن بعضها أكثر شمولية من غيرها ، ومثال ذلك العلاقة بين المنطلقات والأسلوب والوسيلة . فالمنطلقات في الحوار أكثر شمولية من أساليبه وأساليبه أكثر شمولية من وسائله . وبالتالي فإن الأقل شمولية أكثر تحديداً .
ويبدو أن عنصر الوسيلة حتمي في أي حوار . ويوضح الجدول رقم (2) طبيعة العنصر وطبيعة العلاقة بينه وبين الحوار .
جدول (2)
رقـــــم 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10
العنصر
طبيعة العنصر
وعلاقته بالحوار الأسس الأصول القواعد الضوابط الشروط آداب المنطلقات المنهج أساليب وسائل
لازم للحوار *
لازم عرفا * * * * * *
لازم للطرفين بالاتفاق * * * * * *
يتعلق بالطرفين معا * * * * *
يتعلق بطرف واحد * * * *
كل طرف يستفيد مما يقدر عليه * * * *
كثير التنوع في الحوار * * *
محدود التنوع في الحوار * * * * * * *

يلاحظ في الجدول (2) أن الغالب على هذه العناصر أو المصطلحات أنها تنقسم إلى ثلاث فئات :
أولاً - فئة يغلب عليها أنها تندرج تحت القيود المشتركة بين المتحاورين ، وهي : الأسس ، والأصول ، والقواعد ، والضوابط ، والشروط ، والآداب . وتتميز هذه الفئة بأن مجال الاختيار فيها محدود بدرجات متفاوتة . وفي الغالب يفرضها العرف السائد أو المنظم للحوار أو الاتفاق بين أطراف الحوار .
ويلاحظ أن هذه الفئة - في الغالب - لا تتوفر إلا في الحوارات المرتب لها مسبقاً إذا كانت ملزمة للطرفين .
ويلاحظ أيضاً أن الآداب( ) أقل إلزامية من الأسس والقواعد والضوابط أو الشروط . فهي تنتمي إلى مستوى أخلاقي أعلى من مستوى الإنصاف والعدالة . ومثال الآداب : أن يحيي المحاور الطرف الآخر في بداية الحوار أو يبتسم له ، أو يحدثه بلطف ، أو يثني على إيجابياته ، أو لا يرد إساءة الأدب بإساءة مثلها... ويمكن للمتحاورين معا أو المنظم للحوار أن يجعل شيئاً منها شروطاً ملزمة للطرفين .
ثانياً - فئة تندرج تحت القيود أيضاً ولكنها قيود فردية ، يتقيد بها كل محاور عمداً أو بصورة تلقائية ، مثل : المنطلقات أو المبادئ ، والمنهج. ويلتزم بها كل طرف بصورة مستقلة عن الآخر طواعية أو تكون مفروضة عليه بحكم اعتناقه ديانة أو فلسفة فكرية معينة أو لانتمائه إلى جماعة معينة لها مبادئها الخاصة .
ثالثا - فئة يخير كل طرف في الاستعانة ببعض هذه العناصر أو الانتقاء ؛ منها لأنها تخضع للأذواق الشخصية وللمهارات الفردية إلى أبعد الحدود . ومثالها : الأساليب والوسائل . ويلاحظ أن مجال الاختيار فيها والإبداع كبير ، وبقدر ما يكون المحاور ماهراً ومبدعاً فيها بقدر ما تتوفر له فرصة اجتذاب الآخر أو إقناعه أو الانتصار عليه .
ويلاحظ على الأساليب أن بعضها ذات أبعاد أخلاقية ؛ فتندرج أيضاً ضمن الآداب أما بعضها الآخر فهي مهارات محايدة تخضع في الغالب للأذواق والقدرات الفردية ، ومثال هذا النوع من الأساليب : طرق الاستدلال ، ومهارة التعبير اللفظية وغير اللفظية .


?


مراجع البحث
أبو زهرة ، تاريخ الجدل ( القاهرة : دار الفكر العربي 1934-1354 ) .
أبو الأنوار ، محمد ، الحوار الأدبي حول الشعر وقضاياه الموضوعية ودلالاته الفكرية وآثاره الفنية من بداية العرن العشرين إلى قيام الحرب العالمية الثانية ( القاهرة : دار المعارف 1987م ) .
الألمعي ، زاهر عواض ، مناهج الجدال في القرآن الكريم (---: --- 1400هـ )
أنيس ، إبراهيم ، عبد الحليم منتصر ، عطية الصوالحي ، محمد خلف الله أحمد ، المعجم الوسيط ط2 ( بيروت : دار إحياء التراث العربي 1392 هـ ) .
ابن حزم ، أبو محمد علي بن أحمد بن حزم ، التقريب لعلم المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية ، تحقيق إحسان عباس ( دار الحياة 1959م ) .
ابن حزم ، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ، الإحكام في أصول الأحكام تحقيق محمود حامد عثمان ( القاهرة : دار الحديث 1998م ) .
ابن ماجة ، أبو عبد الله محمد بن زيد القزويني ، سنن ابن ماجة ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي ( الرياض : المحقق نفسه 1403 هـ ) .
ابن منظور ، أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ، لسان العرب ، ط2 ( بيروت : دار صادر 1412 هـ ) .
البستاني ، بطرس ، قطر المحيط ( بيروت : مكتبة لبنان ---) .
البشر ، مسفر عبد الله ، أسس الحوار وأركانه ، في الفيصل العدد 188 ص 10-11 .
بن حميد ، صالح بن حميد ، أصول الحوار وآدابه في الإسلام ( مكة المكرمة : دار المنارة للنشر والتوزيع 1415 هـ ) .
بن نجم ، ناصح الدين عبد الرحمن ، كتاب استخراج الجدل من القرآن الكريم ، تحقيق زاهر بن عواض الألمعي ط2 (---: --- 1401 هـ) .
الترمذي ، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة ، الجامع الصحيح : سنن الترمذي ، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر ( بيروت : دار الكتب العلمية ---) .
التومي ، محمد ، الجدل في القرآن الكريم : فعاليته في بناء العقلية الإسلامية (__:__ 1980م ) .
التويجري ، عبد العزيز بن عثمان ، الحوار من أجل التعايش ( القاهرة : دار الشروق 1998م ) .
التويجري ، عبد العزيز بن عثمان ، الحوار والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي ( المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة 1997م ) .
الجريشة ، علي ، أدب الحوار والمناظرة ( المنصورة : دار الطباعة للطباعة والنشر والتوزيع 1991م ) .
الجوهري ، إسماعيل بن حماد، الصحاح : تاج اللغة صحاح العربية (_____) .
الجويني ، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله ، الكافية في الجدل ، حواشي خليل المنصور ( بيروت : دار الكتب العلمية 1999م ) .
الحبيب ، طارق بن علي ، كيف تحاور ؟ ( الرياض : مؤسسة الجريسي للنشر والتوزيع 1421هـ ) .
حسن ، عثمان علي ، منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد ( الرياض : دار إشبيليا 1420هـ ) .
الحسيني ، خالف محمد ومحمد توفيق عويضه ( مشرف ) ، الحوار والجدال في القرآن الكريم ( القاهرة : المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية 1395هـ ) .
الحسيني ، خالف محمد ومحمد توفيق عويضه ( مشرف ) ، الحوار والجدال في القرآن الكريم ( القاهرة : المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية 1395هـ ) .
حفني ، عبد الحليم ، أسلوب السخرية في القرآن الكريم ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978 ) استعرضه جمال الدين السيد علي صالح في المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، جامعة الكويت العدد : 32 خريف عام 1988م .
ديماس ، محمد راشد ، فنون الحوار والإقناع ( الرياض : دار ابن حزم 1420هـ ) .
الراوي ، عبد الستار عز الدين ، أسس وتقاليد الحوار العلمي في التراث العربي ، في دراسات في مكانة الأستاذ في التراث ( بغداد : جامعة بغداد 1989م ) 81-92 .
الرحيلي ، عبد الله بن ضيف الله ، قواعد ومنطلقات في أصول الحوار ورد الشبهات ( الرياض : دار المسلم 1414هـ ) .
زمزمي ، يحي بن محمد حسن بن أحمد ، الحوار : آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة ( مكة المكرمة : دار التربية والتراث 1404 ) .
زيادة ، خليل عبد المجيد ، الحوار والمناظرة في القرآن الكريم ( القاهرة : دار المنار 1406 هـ ) .
السعدي ، عبد الرحمن بن ناصر ، المناظرات الفقهية ( القاهرة : دار الآثار 1423هـ ) .
شاهين ، سيف الدين حسين ، أدب الحوار في الإسلام ( الرياض : دار الأفق 1413هـ ) .
الشايب ، أحمد ، الأسلوب : دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية ط6 ( القاهرة : مكتبة النهضة المصرية 1966م ) .
الشيخلي ، عبد القادر ، أخلاقيات الحوار ( عمان : دار الشروق للنشر والتوزيع 1993 ) .
الشيرازي ، أبو إسحاق ، التلخيص في الجدل في أصول الفقه ، تحقيق محمد يوسف نيازي ( رسالة علمية ) .
الصويان : أحمد بن عبد الرحمن ، الحوار : أصوله المنهجية وآدابه السلوكية ( الرياض : دار الوطن 1413هـ ) .
صيني ، سعيد إسماعيل ، الإسلام وحوار الحضارات ، مقدم لمؤتمر " الحوار بين الحضارات من أجل التعايش " المنعقد في دمشق بين 18-20 /5/ 2002م
صيني ، سعيد إسماعيل ، ترجمة معاني القرآن الكريم ومقترحات لتحسينها ( المدينة المنورة : المؤلف 1422هـ ) .
طنطاوي ، محمد سيد ، أدب الحوار في الإسلام ( القتاهرة : نهضة مصر 1997 )
عكاك ، عبد الغني ، التربية الفكرية في الإسلام : أدب الحوار في القرآن الكريم ، في الموافقات ذو الحجة 1414هـ 392-402 .
العميرين ، علي عبد العزيز بن علي ، محقق ، كتاب الجدل : صناعة الجدل على طريقة الفقهاء لأبي الوفاء علي بن محمد بن عقيل البغدادي ( الرياض : مكتبة التوبة 1418هـ ) .
العودة ، سلمان فهد ، أدب الحوار ( الرياض : مكتبة الرشد 1424هـ ) .
الغزالي ، أبو حامد ، إحياء علوم الدين (--- دار الريان للتراث-----)
الفتياني ، تيسير محجوب ، الحوار في السنة وأثره في تكوين المجتمع ( عمان : مركز الكتاب الأكاديمي 1999م ) .
القاسم ، خالد بن عبد الله ، الحوار مع أهل الكتاب ( الرياض : دار المسلم 1414هـ ) .
القدوري ، محمد ، أدب الحوار في الإسلام ، في إيسسكو ص 51-101 .
كتبي ، زهير محمد جميل ، فن الحوار : الجزء الأول : المصطلح والتطور ( ----) .
مكي ، أحمد ، تعليق على الرسالة الموضوعة في آداب البحث ( القاهرة : جمعية النشر والتأليف الأزهرية 1935م ) .
الميداني ، عبد الرحمن حسن حبنكة ، ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة : صياغة للمنطق وأصول البحث متمشية مع الفكر الإسلامي ( دمشق : دار القلم 1993م )
الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، أصول الحوار ( الرياض : الندوة العالمية للشباب الإسلامي 1408هـ ) .
يلجن ، مقداد ، أخلاقيات المناقشة والمحاورة والمناظرة العلمية وآدابها ومبادئها وآثارها على الفرد والمجتمع ( الرياض : الدار الصوتية للتربية 1416هـ ) .

---------
المصدر
*مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 3310 مشاهدة
نشرت فى 8 مارس 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,598,227