بقلم: رجائى عطية
بين الإغفال والإهمال, وبين المبالغة والتطرف ـ تضاد ظاهر.. ولكن كلا من هذا وذلك,ابتعاد عن الصواب, وجنوح إلي الخطأ.. قد يؤدي إلي متاعب.. وهما مع ذلك يتقاربان في المسئوليات.
ويتضاءل الفارق بينهما من حيث النتائج في أحوال كثيرة.. لأن كليهما مفرط ومتطرف.. والمفرط أو المتطرف في هذا الاتجاه أو ذاك.. ليسا طرفين علي الحقيقة.. وإنما هما أدني لأن يكونا وجهين لشيء واحد.. هذا الوجه يؤدي في نظر العقلاء إلي الشر والخطيئة!
والاعتدال والاتزان الذي يتواصي به الناس وينشدونه ويمتدحونه, مطلب غير ميسور في كل الأحوال, ثم هو موقف يستحيل وجوده وجودا دائما مستمرا لدي نفس الشخص.. لأن مزاج كل منا, أيا كانت مواهبه وفضائله, متغير غير ثابت يتقلب حتما بين التوتر وبين الاسترخاء, ويتغير قليلا أو كثيرا بين يوم وآخر وربما بين ساعة وأخري.. وهذا المزاج في انتقال مستمر من الحداثة والبدائية إلي النضج, ومن الجهل إلي المعرفة, ثم منها إلي الخبرة والعلم إن أتيح له أن ينمي كلا منهما.. وحساب ذلك وناتجه يختلف بداهة تبعا لاختلاف الطبائع لدي الآدميين الذين تتفاوت قدراتهم كما تتباين وتختلف طباعهم!
فالعاقل متزن معقول في أكثر أحيانه, والأحمق مفرط أو مفرط في أغلب الأحوال, والأوساط يتداول عليهم الاتزان والاختلال النسبي تارة, وفي تارة أخري تستوي الكفتان فترة ثم تختلفات صعودا وهبوطا.. ليزيد مع هذا الصعود أو ذلك الهبوط ـ نصيب الصواب أو نصيب الخطأ داخل حدود لا يفارقها عادة سلوك العاديين من الناس!
ومن الغريب اللافت, أن الآدميين لا يفطنون فيما يتعلق بمسائل العقائد والأديان ـ لا يلتفتون إلي هذا الواقع الذي يعيشون فيه صباح مساء.. وأكثرهم يتصورون في مسائل الدين, وفي إغفال أو إهمال أو تحاشي ارتكاب الخطايا الجسيمة ـ يتصورون أن ما يشهدون حدوثه فيهم أو فيمن حولهم من المبالغات المادية والجسدية في سياق العبادات والطقوس ـ واجتهادات يقابلها جزاءات وبركات تكتب حسنات.. لأنهم يحسبون هذه المبالغات إمعانات في التقرب إلي المعبود عز وجل, ولا يجول في أخلادهم أن مبالغتهم هي في الواقع حفاوة منهم موجهة إلي أنفسهم, ومبالغة في الالتفات إلي ذات كل منهم, وإصرار علي اتجاه مقصود إلي رفع قيمة الشخص ومنزلته.. يكاد لا ينظر الآدمي في ذلك إلا إلي شخصه, ولا يلتفت إلي معبوده إلا ليصل التفاته إلي ذاته هو.. فهذه الذات هي عنده بيت القصيد.. وهذا في الواقع نوع من عبادة النفس أو الذات.. يتجنبها حتما الإنسان العاقل الذي لا يختلط لديه التعبير ولا ينصرف عن شدة ولائه لمعبوده عز وجل.. وحده بلا شريك.
ونحن عادة نتصور أن الإغفال أو التقصير المحرم, هو فقط الإغفال المادي الجسدي للعبادات والطقوس, ولا نتفطن إلي أنه ينضوي في هذا الإغفال: انعدام الالتفات الخاص التام من جانب الآدمي إلي ربه وحده بلا إشراك أو اشتراك.. هذا الالتفات الخالص الذي ينسي فهي المخلوق نفسه بكل ما فيها أو معها أو لديها.. من أجل محاولة التوجه اتجاها صادقا مخلصا إلي المعبود الذي لا يستطيع أن يتصل به بحواسه, وقد يصحب هذا الالتفات الخالص الخاص التام أو لا يصحبه أداء مادي بدني.أما عناية أولي الأمر أحيانا في بعض الجماعات, بحمل الناس علي الأداءات المادية لبعض العبادات والطقوس, فمقصودها المعقول القابل للتعقل ـ هو وضع عامة وسواد الناس علي بداية طريق مؤد إلي ذلك الالتفات الخاص, وليس مقصودها تشجيعهم علي إغفال ذلك الالتفات الخاص التام أو علي الاستغناء عنه بهذه الأداءات المادية. ذلك لأن الالتفات التام إلي الله عز وجل هو بلا شك جوهر وأساس كل ديانة.. فلا يمكن أن يكون لها وجود حقيقي بدون هذا الالتفات.. وماديات العبادات والطقوس, إنما قررت ضمانا لتحقيق هذا الجوهر ولتساعد وتعين علي تحصيل وتحقيق هذا الالتفات الخاص التام, وحصوله في قلب وروح وعقل الآدمي.
والالتفات الخاص التام إلي المعبود عز وجل, لا يكون بتوجيه الحواس أو بتلقيها مباشرة ونقل المختار منها إلي خلايا المخ لتبرزه في صورة أو أخري حسب استعدادها ووظيفة كل منها.. لأننا لا يمكن أن نري المعبود عز وجل بالعين, أو نسمعه بالأذن, أو نشمه بالأنف, أو نلمسه بأعصاب الأطراف أو نتذوقه.. سبحانه له المثل الأعلي وتعالي عز وجل عما يصفون.. فتلك الحواس مجرد مخلوقات جزئية في مخلوقات حية تعينها علي أداء دورها في حياتها, وليست هي السبيل إلي إدراك المولي عز وجل.. ولكننا ندرك وجوده سبحانه وتعالي حقا, حين ندرك أننا مخلوقون.. لم نكن ثم كنا, زودنا بما لم نزود به أنفسنا لكي يعيش كل منا حياته.. وإنما زودنا بها الخالق عز وجل لنعيش حياتنا.. هذه الحياة التي نعرف كلما امتدت بنا الأيام أنها خاضعة لأصول ونواميس وضوابط وشروط عامة كونية.. هذه الحياة التي نعرف كلما امتدت بنا الأيام أنها خاطئة لأصول ونواميس وضوابط وشروط عامة كونية.. لم نضعها نحن ويستحيل علينا ذلك, وإنما وضعها الخالق جل شأنه. ولولا إدراكنا لذلك ما عرفنا خالقنا حق معرفته.. هذه المعرفة الفذة التي تخالف طريقتنا العادية إلي معرفة المخلوقات.
فنحن وما نسميه الطبيعة بعامة, والكون الهائل الذي نحن ذرة ضئيلة جدا فيه,. مخلوقون خلقة ذات نظام بديع محكم هائل.. يطرد فيه إحكام بالغ الدقة وسع أصغر ما نتصور.. وأضخم مما نتصوره.. ويشمل ما نسميه التام والناقص والسليم والمعيب والصحيح والشائه والحافظ والمخرب والصديق والعدو والخير والشرير والمفرح والمحزن.. وكل ما لدينا من الأضداد التي تعرض لنا خلال وجودنا.. قصيرا كان وجودنا أو طويلا في نظرنا.. وكل ذلك مما يلازمنا ويلزمنا, قد منحنا إياه مجانا, وأعطانا حياتنا مجانا, بجميع ما يلزمنا ويسعدنا ويشقينا في دخلنا, أو في خارجنا.. لنمارس حياتنا بعقل وفطنة, ونحن نحياها بالعقل والفطنة حتما, إذا التفتنا ذلك الالتفات الخاص التام إلي الخالق عز وجل, ونجحنا من خلال ذلك الالتفات ومثابرتنا عليه في النظر إليه ـ سبحانه وتعالي من خلال مخلوقاته, وكيف يحتضنهم عز وجل ـ جميعا في صبره ورحمته ولطفه ونعمته المجانية التي يدين له بها كل ما كان ويكن سيكون.
إذا بغير أن نتعلم الصبر والرحمة والفطنة العميقة من تذكرنا المستمر لخالق الكل تبارك وتعالي.. بغير ذلك لن يستقيم أمرنا قط, وسيصيبنا بالتأكيد ما أصاب من سبقونا من دمار وكوارث ورجعة إلي البدائية والهمجية.. ولن تفلح في انقاذنا ونجاتنا من هذا المصير, تلال ما حصلناه من ـ علومنا وتكنولوجيتنا واختراعاتنا واكتشافاتنا وفنوننا وآدابنا وسياساتنا واقتصادياتنا واجتماعياتنا وجيوشنا وأساطيلنا.. وما تحت أيدينا من امكانات التخريب والتدمير والقتل.. بالغا ما بلغ فيه التصور والإمكان! ويبدو أن وجود الآدمي, وهو وجود ذو طابع مرحلي مستمر, تصيب فيه كل مرحلة نصيبها من النمو والتطور المناسب لها.. هذا النمو الذي قد يتسع في مرحلة ويضيق في أخري, وقد تبدو عليه شواهد ردة وتخلف أحيانا. وهذا الوجود المرحلي المتطور يواكبه ويسير معه تطور عقولنا وزيادة دورها امكانية وفاعلية في حياتنا.
وتطور العقل قد وضعنا في مرحلة ما ـ لا تتحدد بالدقة, علي أول طريق فريد ليس له نظير لدي الكائنات الأخري المعروفة لنا. إذ طرح وأثار أسئلة تظهر وتختفي في أفق الوعي بتنبيهه إلي أن الآدمي لم يكن موجودا علي أي نحو قبل أن يتصل أبوه بأمه. ثم وجد بعدذلك العدم شيئا فشيئا, وأنه لا فضل له ولا لأبويه البتة في وجوده, ولا علم له ولهما بكيفية ايجاده.. كما لا فضل له ولا لهما في تزويده بما زود به من لوازم واستعدادات ومنافع وفرص ـ أتاحت له حياته بكل ما أقامها.. وأن كل هذه الأسئلة التي تظهر وتختفي تتلاقي حتما في حتمية وجود سبب عظيم هو سر الأسرار.. سبب هائل وراء ظواهر الكون العظيم نفسه, ودليله القاطع الجازم هو كيفية وجودنا نحن ومراحل هذا الوجود. وليس في مقدور العقل إبعاد هذا الدليل إلا إذا استبعد وجوده هو, ولا يمكنه التغاضي عنه وإغفاله إلا إذا بعثر حياته وبددها وذراها علي غير هدي, وقطع ما بينه وبين سر وجوده ووجود الكون الهائل الراضخ الطائع الذي هو جزء منه يستحيل عليه مفارقته!
المزيد من مقالات رجائى عطية<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش