الفهم بين الإغفال والإهمال والمبالغة والتطرف‏!(1‏ ـ‏2)‏
بقلم: رجائى عطية


بين الإغفال والإهمال‏,‏ وبين المبالغة والتطرف ـ تضاد ظاهر‏..‏ ولكن كلا من هذا وذلك‏,‏ابتعاد عن الصواب‏,‏ وجنوح إلي الخطأ‏..‏ قد يؤدي إلي متاعب‏..‏ وهما مع ذلك يتقاربان في المسئوليات‏.‏

 

ويتضاءل الفارق بينهما من حيث النتائج في أحوال كثيرة‏..‏ لأن كليهما مفرط ومتطرف‏..‏ والمفرط أو المتطرف في هذا الاتجاه أو ذاك‏..‏ ليسا طرفين علي الحقيقة‏..‏ وإنما هما أدني لأن يكونا وجهين لشيء واحد‏..‏ هذا الوجه يؤدي في نظر العقلاء إلي الشر والخطيئة‏!‏
والاعتدال والاتزان الذي يتواصي به الناس وينشدونه ويمتدحونه‏,‏ مطلب غير ميسور في كل الأحوال‏,‏ ثم هو موقف يستحيل وجوده وجودا دائما مستمرا لدي نفس الشخص‏..‏ لأن مزاج كل منا‏,‏ أيا كانت مواهبه وفضائله‏,‏ متغير غير ثابت يتقلب حتما بين التوتر وبين الاسترخاء‏,‏ ويتغير قليلا أو كثيرا بين يوم وآخر وربما بين ساعة وأخري‏..‏ وهذا المزاج في انتقال مستمر من الحداثة والبدائية إلي النضج‏,‏ ومن الجهل إلي المعرفة‏,‏ ثم منها إلي الخبرة والعلم إن أتيح له أن ينمي كلا منهما‏..‏ وحساب ذلك وناتجه يختلف بداهة تبعا لاختلاف الطبائع لدي الآدميين الذين تتفاوت قدراتهم كما تتباين وتختلف طباعهم‏!‏
فالعاقل متزن معقول في أكثر أحيانه‏,‏ والأحمق مفرط أو مفرط في أغلب الأحوال‏,‏ والأوساط يتداول عليهم الاتزان والاختلال النسبي تارة‏,‏ وفي تارة أخري تستوي الكفتان فترة ثم تختلفات صعودا وهبوطا‏..‏ ليزيد مع هذا الصعود أو ذلك الهبوط ـ نصيب الصواب أو نصيب الخطأ داخل حدود لا يفارقها عادة سلوك العاديين من الناس‏!‏
ومن الغريب اللافت‏,‏ أن الآدميين لا يفطنون فيما يتعلق بمسائل العقائد والأديان ـ لا يلتفتون إلي هذا الواقع الذي يعيشون فيه صباح مساء‏..‏ وأكثرهم يتصورون في مسائل الدين‏,‏ وفي إغفال أو إهمال أو تحاشي ارتكاب الخطايا الجسيمة ـ يتصورون أن ما يشهدون حدوثه فيهم أو فيمن حولهم من المبالغات المادية والجسدية في سياق العبادات والطقوس ـ واجتهادات يقابلها جزاءات وبركات تكتب حسنات‏..‏ لأنهم يحسبون هذه المبالغات إمعانات في التقرب إلي المعبود عز وجل‏,‏ ولا يجول في أخلادهم أن مبالغتهم هي في الواقع حفاوة منهم موجهة إلي أنفسهم‏,‏ ومبالغة في الالتفات إلي ذات كل منهم‏,‏ وإصرار علي اتجاه مقصود إلي رفع قيمة الشخص ومنزلته‏..‏ يكاد لا ينظر الآدمي في ذلك إلا إلي شخصه‏,‏ ولا يلتفت إلي معبوده إلا ليصل التفاته إلي ذاته هو‏..‏ فهذه الذات هي عنده بيت القصيد‏..‏ وهذا في الواقع نوع من عبادة النفس أو الذات‏..‏ يتجنبها حتما الإنسان العاقل الذي لا يختلط لديه التعبير ولا ينصرف عن شدة ولائه لمعبوده عز وجل‏..‏ وحده بلا شريك‏.‏
ونحن عادة نتصور أن الإغفال أو التقصير المحرم‏,‏ هو فقط الإغفال المادي الجسدي للعبادات والطقوس‏,‏ ولا نتفطن إلي أنه ينضوي في هذا الإغفال‏:‏ انعدام الالتفات الخاص التام من جانب الآدمي إلي ربه وحده بلا إشراك أو اشتراك‏..‏ هذا الالتفات الخالص الذي ينسي فهي المخلوق نفسه بكل ما فيها أو معها أو لديها‏..‏ من أجل محاولة التوجه اتجاها صادقا مخلصا إلي المعبود الذي لا يستطيع أن يتصل به بحواسه‏,‏ وقد يصحب هذا الالتفات الخالص الخاص التام أو لا يصحبه أداء مادي بدني‏.‏أما عناية أولي الأمر أحيانا في بعض الجماعات‏,‏ بحمل الناس علي الأداءات المادية لبعض العبادات والطقوس‏,‏ فمقصودها المعقول القابل للتعقل ـ هو وضع عامة وسواد الناس علي بداية طريق مؤد إلي ذلك الالتفات الخاص‏,‏ وليس مقصودها تشجيعهم علي إغفال ذلك الالتفات الخاص التام أو علي الاستغناء عنه بهذه الأداءات المادية‏.‏ ذلك لأن الالتفات التام إلي الله عز وجل هو بلا شك جوهر وأساس كل ديانة‏..‏ فلا يمكن أن يكون لها وجود حقيقي بدون هذا الالتفات‏..‏ وماديات العبادات والطقوس‏,‏ إنما قررت ضمانا لتحقيق هذا الجوهر ولتساعد وتعين علي تحصيل وتحقيق هذا الالتفات الخاص التام‏,‏ وحصوله في قلب وروح وعقل الآدمي‏.‏
والالتفات الخاص التام إلي المعبود عز وجل‏,‏ لا يكون بتوجيه الحواس أو بتلقيها مباشرة ونقل المختار منها إلي خلايا المخ لتبرزه في صورة أو أخري حسب استعدادها ووظيفة كل منها‏..‏ لأننا لا يمكن أن نري المعبود عز وجل بالعين‏,‏ أو نسمعه بالأذن‏,‏ أو نشمه بالأنف‏,‏ أو نلمسه بأعصاب الأطراف أو نتذوقه‏..‏ سبحانه له المثل الأعلي وتعالي عز وجل عما يصفون‏..‏ فتلك الحواس مجرد مخلوقات جزئية في مخلوقات حية تعينها علي أداء دورها في حياتها‏,‏ وليست هي السبيل إلي إدراك المولي عز وجل‏..‏ ولكننا ندرك وجوده سبحانه وتعالي حقا‏,‏ حين ندرك أننا مخلوقون‏..‏ لم نكن ثم كنا‏,‏ زودنا بما لم نزود به أنفسنا لكي يعيش كل منا حياته‏..‏ وإنما زودنا بها الخالق عز وجل لنعيش حياتنا‏..‏ هذه الحياة التي نعرف كلما امتدت بنا الأيام أنها خاضعة لأصول ونواميس وضوابط وشروط عامة كونية‏..‏ هذه الحياة التي نعرف كلما امتدت بنا الأيام أنها خاطئة لأصول ونواميس وضوابط وشروط عامة كونية‏..‏ لم نضعها نحن ويستحيل علينا ذلك‏,‏ وإنما وضعها الخالق جل شأنه‏.‏ ولولا إدراكنا لذلك ما عرفنا خالقنا حق معرفته‏..‏ هذه المعرفة الفذة التي تخالف طريقتنا العادية إلي معرفة المخلوقات‏.‏
فنحن وما نسميه الطبيعة بعامة‏,‏ والكون الهائل الذي نحن ذرة ضئيلة جدا فيه‏,.‏ مخلوقون خلقة ذات نظام بديع محكم هائل‏..‏ يطرد فيه إحكام بالغ الدقة وسع أصغر ما نتصور‏..‏ وأضخم مما نتصوره‏..‏ ويشمل ما نسميه التام والناقص والسليم والمعيب والصحيح والشائه والحافظ والمخرب والصديق والعدو والخير والشرير والمفرح والمحزن‏..‏ وكل ما لدينا من الأضداد التي تعرض لنا خلال وجودنا‏..‏ قصيرا كان وجودنا أو طويلا في نظرنا‏..‏ وكل ذلك مما يلازمنا ويلزمنا‏,‏ قد منحنا إياه مجانا‏,‏ وأعطانا حياتنا مجانا‏,‏ بجميع ما يلزمنا ويسعدنا ويشقينا في دخلنا‏,‏ أو في خارجنا‏..‏ لنمارس حياتنا بعقل وفطنة‏,‏ ونحن نحياها بالعقل والفطنة حتما‏,‏ إذا التفتنا ذلك الالتفات الخاص التام إلي الخالق عز وجل‏,‏ ونجحنا من خلال ذلك الالتفات ومثابرتنا عليه في النظر إليه ـ سبحانه وتعالي من خلال مخلوقاته‏,‏ وكيف يحتضنهم عز وجل ـ جميعا في صبره ورحمته ولطفه ونعمته المجانية التي يدين له بها كل ما كان ويكن سيكون‏.‏
إذا بغير أن نتعلم الصبر والرحمة والفطنة العميقة من تذكرنا المستمر لخالق الكل تبارك وتعالي‏..‏ بغير ذلك لن يستقيم أمرنا قط‏,‏ وسيصيبنا بالتأكيد ما أصاب من سبقونا من دمار وكوارث ورجعة إلي البدائية والهمجية‏..‏ ولن تفلح في انقاذنا ونجاتنا من هذا المصير‏,‏ تلال ما حصلناه من ـ علومنا وتكنولوجيتنا واختراعاتنا واكتشافاتنا وفنوننا وآدابنا وسياساتنا واقتصادياتنا واجتماعياتنا وجيوشنا وأساطيلنا‏..‏ وما تحت أيدينا من امكانات التخريب والتدمير والقتل‏..‏ بالغا ما بلغ فيه التصور والإمكان‏!‏ ويبدو أن وجود الآدمي‏,‏ وهو وجود ذو طابع مرحلي مستمر‏,‏ تصيب فيه كل مرحلة نصيبها من النمو والتطور المناسب لها‏..‏ هذا النمو الذي قد يتسع في مرحلة ويضيق في أخري‏,‏ وقد تبدو عليه شواهد ردة وتخلف أحيانا‏.‏ وهذا الوجود المرحلي المتطور يواكبه ويسير معه تطور عقولنا وزيادة دورها امكانية وفاعلية في حياتنا‏.‏
وتطور العقل قد وضعنا في مرحلة ما ـ لا تتحدد بالدقة‏,‏ علي أول طريق فريد ليس له نظير لدي الكائنات الأخري المعروفة لنا‏.‏ إذ طرح وأثار أسئلة تظهر وتختفي في أفق الوعي بتنبيهه إلي أن الآدمي لم يكن موجودا علي أي نحو قبل أن يتصل أبوه بأمه‏.‏ ثم وجد بعدذلك العدم شيئا فشيئا‏,‏ وأنه لا فضل له ولا لأبويه البتة في وجوده‏,‏ ولا علم له ولهما بكيفية ايجاده‏..‏ كما لا فضل له ولا لهما في تزويده بما زود به من لوازم واستعدادات ومنافع وفرص ـ أتاحت له حياته بكل ما أقامها‏..‏ وأن كل هذه الأسئلة التي تظهر وتختفي تتلاقي حتما في حتمية وجود سبب عظيم هو سر الأسرار‏..‏ سبب هائل وراء ظواهر الكون العظيم نفسه‏,‏ ودليله القاطع الجازم هو كيفية وجودنا نحن ومراحل هذا الوجود‏.‏ وليس في مقدور العقل إبعاد هذا الدليل إلا إذا استبعد وجوده هو‏,‏ ولا يمكنه التغاضي عنه وإغفاله إلا إذا بعثر حياته وبددها وذراها علي غير هدي‏,‏ وقطع ما بينه وبين سر وجوده ووجود الكون الهائل الراضخ الطائع الذي هو جزء منه يستحيل عليه مفارقته‏!‏

 

المزيد من مقالات رجائى عطية<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 161 مشاهدة
نشرت فى 17 فبراير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,826,501