بقلم: د. زغلول النجار
..ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما( النساء:92 و93).
إن سفك دم المؤمن عمدا دون حق هو من الكبائر التي توجب الخلود في النار, وعليه فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمنا أبدا بغير حق, إذا وقع ذلك بالخطأ أي عن غير قصد,
فإذا حدث ووقع قتل المؤمن لأخيه المؤمن بطريق الخطأ في مجتمع للمسلمين, فإن الشرع يفرض علي القاتل عتق رقبة مؤمنة, كفارة عن حق الله, فمن لم يجد فعليه صيام شهرين قمريين متتابعين توبة إلي الله ودفع دية مسلمة إلي أهل القتيل تدفعها عاقلته( أي عصبة أهله من جهة أبيه) إلا إذا عفا أهل القتيل عنه, وأسقطوا الدية باختيارهم, وحينئذ فإن الدية لا تجب عليه, وتبقي عليه الكفارة, وذلك لقول الله تعالي:
( ومن كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلي أهله إلا أن يصدقوا....)( النساء:92).
وإذا كان القتيل مؤمنا وأهله من أعداء المسلمين, فإن الشرع يفرض علي القاتل عتق رقبة مؤمن, فمن لم يجد فصيام شهرين قمريين متتاليين توبة إلي الله, ولا دية عليه لأهل القتيل لأنهم أعداء محاربون للمسلمين, فلا يجوز إعطاؤهم من أموال المسلمين ما يستقوون به عليهم ويستعينون علي قتالهم وإيذائهم, ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل لأنهم أعداء محاربون للمسلمين, وإذا كان القتيل معاهدا أو ذميا, فإن الشرع يفرض علي المؤمن القاتل بالخطأ في هذه الحالة ما يفرضه في قتل المؤمن في المجتمع المسلم: عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين قمريين متتاليين, ودية مسلمة إلي أهله إلا أن يعفوا, ولم تنص الآية الكريمة في هذه الحالة علي كون المقتول مؤمنا مما جعل عددا من المفسرين يأخذون النص علي إطلاقه, باعتبار أن العهد بين المؤمنين وغير المؤمنين يجعل الدماء بينهم مصونة, ولكن لما كانت الآية من مطلعها تنصب علي تحريم قتل المؤمن بغير حق, ثم بينت الحالات التي يكون القتيل فيها مؤمنا, فقد رأي بعض المفسرين أن القتيل المعاهد أو الذمي إذا لم يكن مؤمنا يكتفي في هذه الحالة بدفع الدية إلي أهله, كما فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم في دفع الدية لبعض قتلي المعاهدين دون عتق رقاب بعددهم, ثم شرع الله سبحانه وتعالي لمن يقتل مؤمنا متعمدا الخلود في نار جهنم, واستحقاق غضب الله ولعنته والعذاب الشديد الذي توعده به وأعده له يوم القيامة.
والإسلام العظيم حرم قتل النفس بغير الحق بصفة عامة, وذلك صونا للأنفس عن الإهدار, فإن للدماء حرمتها, فلا يستباح إلا بالحق وبالأمر البين الذي لا إشكال فيه, وذلك لأن الله تعالي هو واهب الحياة, ولا يجوز أن ينهيها غيره إلا بإذنه, فإذا أقدم إنسان علي قتل إنسان آخر بغير حق, فكأنما قد اعتدي علي حق من حقوق الله, ولذلك قال تعالي في ولدي آدم: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين( المائدة:30).
وقال قوله الحق:
( من أجل ذلك كتبنا علي بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون)( المائدة:32).
وقال عز من قائل:( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا)( الإسراء:33).
وفي ذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لزوال الدنيا أهون علي الله من قتل رجل مؤمن( البيهقي والترمذي), وقال عليه الصلاة والسلام: من أعان علي قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله, ولذلك أفتي ابن عباس عليهما رضوان الله بعدم قبول توبة قاتل المؤمن عمدا, بينما ذهب جمهور العلماء إلي أن توبة القاتل عمدا يمكن أن تقبل, واستدلوا علي ذلك بأن الكفر أعظم من القتل العمد, وتوبة الكافر قد تقبل, والخلود في جهنم لقاتل المؤمن عمدا هو مشروع لمن استحل قتله, وقد يكون المقصود بالخلود هنا طول المكث لقول الله تعالي: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افتري إثما عظيما( النساء:48).
والقتل إما عمدا أو شبه عمد أو خطأ, أما العمد فهو القصد إلي القتل بما يفضي إلي الموت, وهذا ما يوجب القصاص والحرمان من الميراث, وتحمل غضب الله ولعنه والخلود في نار جهنم وما فيها من عذاب عظيم في الآخرة كذلك لقول ربنا تبارك وتعالي:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلي الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثي بالأنثي فمن عفي له من أخيه فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدي بعد ذلك فله عذاب أليم, ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون( البقرة:178 و179)
وقتل المؤمن لأخيه المؤمن كبيرة من الكبائر, تتنافي كلية مع الإيمان بالله تعالي فلا يكفر عنها دية, أو عتق رقبة, وإنما يوكل جزاؤها إلي الله الذي توعد الواقع فيها بالخلود في جهنم, وبغضب الله عليه ولعنه, وبما أعد له من عذاب عظيم, ولذلك اتجه بعض المفسرين ـ ومنهم ابن عباس ـ إلي أنه لا توبة منها, وإن رأي البعض الآخر رجاء المغفرة للتائب منها, وفسر الخلود في النار بأنه الزمن الطويل.
والقتل شبه العمد هو الضرب الخفيف المقصود به التأديب, وليس القتل, فهو عمد في الضرب وخطأ في القتل, والنيات لا يعلمها إلا الله تعالي, وهذا فيه الدية والكفارة إذا ثبت عدم العمد إلي القتل, وليس فيه قصاص, وإذا عفا أهل القتيل سقطت الدية عن القاتل, وعليه الكفارة.
والقتل الخطأ أن يقصد رمي غير المقتول المؤمن من إنسان أو حيوان فيصيبه, أو أن يظنه عدوا ثم يظهر له غير ذلك, والأول خطأ في الفعل, والثاني خطأ في القصد, وهذا فيه الدية والكفارة, فإن عفا أهل القتيل سقطت الدية, وبقيت الكفارة, وهي عتق رقبة مؤمنة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتاليين, أخرج أبوداود من حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ألا إن دية الخطأ شبه العمد, ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل, منها أربعون في بطونها أولادها.
وأخرج كل من أحمد, وأبوداود, والنسائي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلظة.
وروي عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: لقد سمعت نبيكم صلي الله عليه وسلم يقول عن المؤمن الذي قتل قتلا متعمدا بدون وجه حق أنه يجيء يوم القيامة معلقا رأسه بإحدي يديه ـ إما بيمينه أو بشماله ـ آخذا صاحبه بيده الأخري, تشخب أوداجه( أي تسيل عروقه دما) حيال عرش الرحمن يقول: يارب سل عبدك هذا علام قتلني؟( الطبري ابن كثير).
هذه الآية القرآنية أهديها للعصابات المجرمة التي حاصرت المعتصمين بميدان التحرير وأطلقت عليهم زخات الرصاص المطاطي والحي وأغرقتهم برشات المياه في محاولة لكسر إرادتهم وأخص من هؤلاء المبالغين في الإجرام منهم والذين قاموا في يومي الخميس والجمعة30 صفر و1 ربيع الأول1432 هـ
وقاموا برجم المعتصمين في الميدان بآلاف الأحجار وقنابل المولوتوف لأكثر من عشر ساعات متواصلة, مما أدي إلي سقوط مئات الشهداء, وآلاف الجرحي من شباب مصر الحر الذي قام بالمطالبة بحقه في الحياة الحرة الكريمة بطريقة حضارية سلمية. ولم يكتف المعتدون بهذه الجرائم, بل قاموا بمحاصرة المعتصمين ليمنعوا عنهم امدادات الطعام والشراب والدواء, وقد بلغ من إجرام هذه الميليشيات المنظمة أن أغار نفر من أفرادها علي المعتصمين في الميدان ممتطين صهوة البغال والجمال ومدججين بالأسلحة البيضاء في هجمة همجية إجرامية لا يقوم بها إلا عتاة المجرمين في عصور الجاهلية الأولي, وقد بلغت هذه الميليشيات المأجورة حدا غير مسبوق في الإجرام تجسد في قيادة عدد من السيارات المصفحة التي قادوها بسرعات جنونية مذهلة وسط حشود المعتصمين في الميدان فقتلوا تحت عجلات سياراتهم الآثمة عشرات من الشهداء, هؤلاء جميعا أهدي إليهم قول الحق تبارك وتعالي: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما( النساء:93).
والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار
ساحة النقاش