بقلم: فاروق جويدة
كنا ننظر له نحن الكبار باستخفاف كبير وبانه جيل تافه ضحل في ثقافته غريب في انتماءة كسول في أحلامه وكنا دائما نسخر منه ومن أذواقه وملابسه وأفكاره..
واكتشفنا فجأة وبلا مقدمات أن هذا الجيل أعطانا درسا في الوطنية والوعي والانتماء والشجاعة والإصرار.. هذا الجيل الذي جمع كل متناقضات عصره ووطنه ما بين الفقر الشديد والثراء الفاحش وما بين ثقافة ضحلة قدمناها له طوال سنوات عمره وانفتاح رهيب علي العالم من خلال تكنولوجيا العصر التي سعي إليها باقتدار.. واكتشفنا أيضا أنه كبر خارج هذا المناخ الثقافي الضحل الذي قدمته مواكب الأدعياء والمهرجين والنخب الكاذبة.. لابد أن نعترف بأن هذا الجيل كان أكبر المفاجآت لنا يوم25 يناير ويبدو أن الحدث أصابتا بحالة ارتباك شديدة ترتبت عليها نتائج كثيرة..
< حاول البعض أن يسرق ثورة الشباب وسرعان ما اعتلي المشهد وقدم نفسه ليتحدث بأسمائهم أو بالنيابة عنهم أمام أجهزة الدولة والرأي العام والدليل علي ذلك أننا لم نشاهد شابا واحدا منهم يتحدث في وسائل الإعلام إلا بعد عشرة أيام من قيام هذه الثورة, وجوه كثيرة تسابقت علي الشاشات المحلية والعالمية تتحدث باسم هؤلاء الشباب في بجاحة غريبة.. هؤلاء الذين صمتوا عشرات السنين ورقصوا علي كل الحبال ونافقوا كل العصور وحملوا كل أنواع المباخر أصبحوا فجأة يتحدثون باسم الثوار الشباب ويعرضون أنفسهم وقد باعوها من قبل ملايين المرات.. كان المشهد غريبا ونحن نري هذه الوجوه التي اعتدنا علي نفاقها وبجاحتها وهي تتصدر المشهد وتحاول القفز عليه وسرقة ثورة هؤلاء الشباب الأبرياء الانقياء..
< سرعان ما التقت المصالح بين أجهزة الدولة التي وجدت نفسها في حالة ارتباك وفراغ غير مسبوقة مع أحلام القيادات الحزبية المترهلة وكلاهما يحاول انقاذ الآخر من ثورة شباب مصر.. كان الهدف من الجبهتين أن تحافظ السلطة علي مواقعها وأن تحافظ الأحزاب علي مكاسبها وكانت الصفقات بين السلطة والأحزاب علي حساب هؤلاء الشباب.. سرعان ما اندفعت فلول الأحزاب لأن السلطة أبدت لهم شيئا من القبول والرضا.. وسارعت السلطة لاحتواء الموقف واستعادة صفوفها لمواجهة الموقف وللأسف الشديد أن هذه الصورة لم تقتصر علي الاحزاب التقليدية ولكن جماعة الاخوان المسلمين التي كانت محظورة التقطت الطعم وألقت بنفسها في هذا المشهد الغريب ونسيت كل ثوابتها القديمة وترك قادتها من شارك من شبابها في ميدان التحرير لتحاول تمرير صفقة للاعتراف بها من السلطة.. كان هذا المشهد تعرية كاملة للواقع السياسي القبيح في المجتمع المصري بكل رموزه.. أحزاب هرولت أمام أول إشارة للحوار.. وجماعة محظورة هرولت بحثا عن صك هزيل بالاعتراف أو الشرعية بينما وقف شباب الثورة في ميدان الحرية بكل شموخه يشاهد الكبار وهم يتسابقون نحو وليمة مسمومة..
< لم يتوقف المشهد عند هذا الحد من السقوط ولكن لجان الحكماء التي تسابقت إلي المشهد تقدم المقترحات والحلول أعطت لنفسها حقا أن تتحدث نيابة عن هؤلاء الشباب وهي لا تحمل تفويضا بذلك.. ودخلت الساحة مواكب الإعلاميين وأصبحنا جميعا فقهاء في الثورات والدساتير والقوانين واختفت خلف هذا كله ثورة الشباب..
نحن أمام مسرحية هزلية غريبة ومريبة..
نحن أمام جيل من الشباب الثائر ضد واقع يرفضه ونظام فشل في أن يوفر له حياة كريمة وأجيال بخلت عليه بكل شيء بل انها أعطت نفسها حق الوصاية ابتداء بالقرار وانتهاء بالحديث باسمه.. حدث هذا رغم أن هذا الجيل يملك شرعية المستقبل الذي هو حق له.. ويملك شرعية القدرات لأنه الأقدر في التعامل مع عصره.. ويملك شرعية الثورة التي حملها إلي الشوارع دون خوف أو حسابات أو صفقات أو مصالح ليقف أسبوعين كاملين ما بين الجوع والصقيع وقبل هذا رصاص الأمن وجمال وخيول وبلطجية الحزب الوطني..
نحن أمام جيل كل ما كان حوله أصابته أمراض التلوث ابتداء بالفكر وانتهاء بالهواء والطعام والسلوك.. نحن أمام جيل العشوائيات والصفقات وأصحاب الملايين من اللصوص وأصحاب العشش من الغلابة.. ورغم هذا التناقض الشديد في الواقع الاجتماعي والإمكانيات المتعارضة توحد في حب شيء واحد هو الوطن وخرج من أجل شيء واحد هو الحرية.. ومات من أجل شيء واحد هو العدالة.. جمعت العدالة بين هؤلاء الشباب رغم أن بينهم الغني الأكثر ثراء والفقير الأكثر حاجة..
إن أغرب ما في هذه القضية الآن أننا أمام أجيال في السلطة لا تريد أن تترك مواقعها.. وأمام أجيال في الأحزاب سواء كانت مشروعة أم محظورة لا تريد أن تترك الساحة لأجيال أحق منها وأمام أجيال تصورت أنها احتكرت الحكمة وصادرت المعرفة حتي ولو كان ذلك علي حساب المستقبل..
إن محاولة سرقة هذه الثورة خيانة لمستقبل هذا البلد.. ومحاولة إجهاضها كارثة سوف ندفع ثمنها مهما طال بنا الزمن.. ومحاولة تشويهها خطيئة سوف نحاسب عليها أمام الله يوم لا ظل إلا ظله..
وللأسف الشديد أننا ارتكبنا كل هذه الجرائم مرة واحدة..
من البداية حاول البعض إلقاء التهم والعمالة والخيانة والتآمر علي ثورة هؤلاء الشباب البريء النقي.. وعلي طريقة المؤسسات الأمنية الراحلة في إلقاء التهم وترتيب الجرائم ابتداء بالسياسة وانتهاء بحيازة المخدرات تبرع الكثيرون لتشويه ثورة هؤلاء الشباب.. قدمت البرامج التليفزيونية سواء في القنوات الخاصة أو الإعلام الحكومي قصصا وحكايات عن شبكات للتجسس وأموال للعمالة ومؤسسات خارجية تدير المعركة في ميدان التحرير وقدم التليفزيون المصري بكل مظاهر الفشل والتجني والارتباك فيه برامج مشبوهة لتشويه صورة أجمل الأجيال التي أنجبتها مصر وكأننا نقتل أبناءنا بأيدينا.. حتي الأحزاب السياسية حاولت تقديم صور مشوهة عن هؤلاء الشباب.. ربما كانت هذه الأحزاب تخفي فشلها العتيق لأنها لم تكن يوما قادرة علي تحريك جزء ضئيل من هؤلاء الشباب أو لأن هؤلاء الشباب كبروا خارج أرحام موبوءة في هذا المناخ الفكري والثقافي والاجتماعي المريض..
من البداية كانت نظرة المسئولين في الدولة لهؤلاء الشباب فيها الكثير من الغرور والتعالي والاستخفاف لأنهم مجموعة من الأولاد المارقين الخارجين علي المجتمع والشرعية ولهذا صدرت لهم الدولة من البداية قوات الأمن لتلحق بها أكبر هزيمة يشهدها الأمن المصري أمام هؤلاء الأولاد الذين استخف بهم المسئولون عندنا.. كنت أشاهد أحاديث المسئولين في الدولة والحزب الوطني ومجلس الشعب وقوات الأمن وأتعجب من هذا الأسلوب المريض في طريقة التعامل وهذا التعالي الذي يعكس فراغا نفسيا وفكريا وإنسانيا لا حدود له.. وأفاق المسئولون علي كارثة لأن فشل الأمن في المواجهة أصابه بحالة جنون غير مسبوقة فأطلق الرصاص علي شباب مصر المسالمين وأطلق عليهم مدافع المياه وهم يؤدون الصلاة ثم ترك عرباته المصفحة تهرس الأجساد وتحطم الجماجم وكانت هذه هي البداية الحقيقية لهذه الثورة.. الأغرب من ذلك أننا بخلنا علي هؤلاء الشباب بلقب الثوار وأن ما حدث يوم25 يناير ولمدة17 يوما لم يكن ثورة رغم أنه بالفعل ثورة حقيقية في كل قواميس الدنيا وأكبر شاهد علي ذلك أن أحداث ميدان الحرية التحرير سابقا كان الخبر الأول في كل فضائيات العالم ونشرات الأخبار ومانشيتات الصحف أسبوعين كاملين..
عندي كلمة أخيرة أوجزها في ثلاث نقاط..
< نحن أمام جيل يحق لنا أن نفخر به وواجبنا أن نسلم له الراية لأنه صاحب المستقبل الحقيقي وان نأخذ مواقعنا خلف هذا الجيل سواء كنا في مواقع السلطة أو كنا أحزابا أو حكماء أو مدعي حكمة لان اغتيال هذا الجيل وإجهاض هذه الثورة جريمة سوف ندفع ثمنها أمام الله وأمام التاريخ..
< لا ينبغي أن نقف أمام ميدان التحرير ونتصور أننا نري الصورة كاملة حيث يتجمع حكماء القاهرة ورؤساء أحزابها النائمة وشيوخ الزفة الباحثون عن دور وسط هذا المشهد المهيب.. في كل محافظات مصر الآن شباب ثائر يبحث عن حقه في حياة كريمة وهو بالفعل صاحب الحق الأصيل..
< منذ سنوات بعيدة ونحن نبحث عن تمثال يتوسط ميدان التحرير سابقا الحرية الآن.. وعندي اقتراح بسيط أن نقيم في وسط الميدان نصبا تذكاريا لشهداء ثورة25 مايو نضع عليه أسماء هؤلاء الشهداء وأنا علي يقين أنهم أكثر عدد من350 شهيدا ذكرهم تقرير الأمم المتحدة ليت أحد رجال الأعمال يكفر عن سيئاتهم ويتولي هذه المسئولية..
من الأفضل لنا كجيل يحب هذا الوطن ويؤمن بمستقبله أن نسلم الراية راضين بدلا من أن نسلمها رافضين ساخطين.. وجيل ثورة يناير هو الأحق الآن بأن يتصدر المشهد ونحن خلفه بالحب والعرفان والنصيحة..
نحن أجيال شبعت من المناصب والكراسي والصفقات والأموال والهزائم والخسائر والمكاسب والأضواء والحكمة الزائفة وجاء الوقت لكي يتقدم الصفوف جيل أكثر علما بروح عصره.. وأكثر طهرا ونقاء بحكم عمره.. وأكثر استعدادا لبناء مصر المستقبل التي نحلم بها لا تجهضوا أحلام هذا الجيل كما أجهضهم أجيالا كثيرة قبله..
ألا قد بلغت اللهم فاشهد..
ثمن الرصاصة يشتري خبزا لنا
إلي شهداء ثورة25 يناير
وحدي أنام علي ترابك
كفني عيني
بضوء من رحيق الفجر
من سعف النخيل
فلكم ظمئت علي ضفافك
رغم أن النيل يجري
في ربوعك ألف ميل
ولكم حملت الناي
في حضن الغروب..
ودندنت أوتار قلبـي
رغم أن العمر منكسر ذليل
لا تعجبي
إن صار وجه الشـمس
خفاشـا بعرض الكون
أو صارت دماء الصبح
أنهارا تسيل
فزماننا زمن بخيل
لا تسألي القنـاص عن عيني..
ولا قلـبي.. ولا الوجه النحيل
ولتنظري في الأفق
إن النهر يبكي
والخيول السمر
عاندها الصهيل
لا تسأليني
عن شباب ضاع منـي
واسألي القنـاص..
كيف شدوت أغنية الرحيل ؟
إني تعلمت الحنان علي يديك..
وعشت أحمل وردة بيضاء
كالعمر الجميل
الناي أصبح في الضلوع رصاصة
والوردة البيضاء..
في عيني قتيل
مدي يديـك إلي.. إنـي خائف
ولترحمي ضعفي
جنوني..
وارحمي الجسد الهزيل
<<<
وجهي ينام علي ترابك كفنيه
لا تتركيه لنشوة القناص..
حين يطارد العصفـور في سفه.. وتيه
لا تتركي الابن القتيل..
يموت موجوعا بنشوة قاتليه
ولترحمي وجهي
فكم صلي علي أعتابك
جناتـك الخضراء تلفظه
وينكره ترابك
لا تنـكريه فإن هذا الوجه
يحمل لون طينك..
حينما كانت خيول المجد
تركض في رحابك
لا تتركي عيني لشمس الصيف تأكلـها
فكم حملت بشائر أمنياتك
ولتستري جسدي
فكم نبتت علي أعشابه الخضراء
أحـلي أغنياتك
لا تتركيني في العراء
أصارع الغربان وحدي..
بعدما أكلوا رفاتك
<<<
إني حلمت ككل أطفال المدينة..
في ليالي العيد
وحلمت باللعب الصغيرة.. والحذاء..
وقطعة الحلوي
وبالثوب الجديد
وحلمت يوما..
أن أكون الفارس المغوار
يغرس في ربوعك
كل أحلام الوليد
زمن سعيد
وطن مجيد
أمل عنيد
لكنني أصبحت في عينيك..
كالطـير الشـريد
يساقط الزغب الصغير علي التراب
جناحي المكسور
ترصده البنادق من بعيد
لم تسألي العصفور
كيف يموت في فمه الغناء ؟
لم تسأليني كيف أهجر ثدي أمي
ثم تغرقني الدماء ؟
لم تسأليني
ما الذي جعل العصافير الصغيرة..
تكره الأشجار تأوي للعراء ؟
الجوع.. والحرمان.. والأمل اللقيط..
صقيع أيامي.. وأحزان الشتاء
فأنا غريب فيك..
لا أمل لديك.. ولا رجاء
الآن صدرك في عيوني
أضيق الأشياء
الآن وجهك في عيوني
أصغر الأشياء
الآن قلبك عن عيوني
أبعد الأشياء
حتـي الدعاء نسيته
حتي الدعاء
<<<
يا أيـها القناص
ثمن الرصاصة يشتري خبزا لنـا
وشبابنا قد سال نهرا من دماء بيننـا
لم لا يكون سياج أمن حولنا
هذا الوطن ؟
لم لا تكون ثماره ملكـا لنا ؟
لم لا يكون ترابه حقا لنـا ؟
يا أيها القناص.. أنظر نحونـا
ستري بطونـا خاويه
وتري قلوبا واهيه
وتري جراحا داميه
فالأرض ضاقت..
ليس لي فيها سند
والناس حولي
لا أري منهم أحد
حتـي الجسد
قد ضاق بي هذا الجسد
<<<
لم تسأليني قبل أن أمضي
لماذا غاب ضوء الشمس عن عيني
وأغرقني ظلامي ؟
لم تسألي جسدا هزيلا مات جوعا
كيف تأكلني عظامي ؟
لم تسأليني
ما الذي جعل الفراشات الجميلة
في جبين الفجر تبدو كالجراد ؟
لم تسأليني
ما الذي جعل الصباح
الأبيض المفتــون يكسوه السواد ؟
لم تسأليني
كيف تنبت في بلاد الطـهر
أزمنة الفساد ؟
لم تسأليني
كيف كان الماء
يجري فوق عيني..
ثم يقتلني العطش؟
لم تسأليني أينا أقـسي
وليد ضاق..
أم أب بطش ؟
لم تسأليني
ما الذي جعل اليمام يصير ثعبانـا..
ويشرب من دمك ؟
لم تسأليني
ما الذي جعل الشـعاع
الأخضر المنساب
يقتل أنجمك ؟
لم تخبرينـي
من إلي سوق النخاسة أسـلمك ؟
مازلت كالمجنـون في حزن أسائل:
هذي الحقول الخضر
كيف تكسرت فيها السنابل ؟
هذي العقول الخضر..
كيف تفجرت فيها القنابل ؟
<<<
إنـي أحبـك.. صدقيني
رغم أن الحزن في قلبي
مليك ظالم
فالسجن بيتي..
والأسي سلطاني
كم نمت واليأس العنيد يهزني
فإذا صحوت أراه في أجفاني
كم همت في صمت الشـوارع
أسأل القطط اللقيطة..
عن بقايا الخـبز.. عن عنـواني
كم طفت فوق موائد الطرقات
تلفظني الشوارع مرة..
ويعود يلقيني طريق ثان
لم تسأليني مرة..
من يا تري أبكاني ؟
لم تسأليني كيف أصبح
حزن هذا الكون من أحزاني
لم تسألي الوطن الجميل وقد نمت
في وجهه الأحقاد كيف رماني ؟
حقـي عليه رغيف خبز آمن
وكرامة الإنسان للإنسان
عبثت بنا أيدي الزمان.. وأظلمت
فينا القلوب.. وليلها أعماني
عمر لقيط.. وارتعاشة عاجز
وأنين بطن.. وانكسار أماني
تلك الرؤوس تهيم في أوكارها
ويصيدنا القناص كالفئران
فأنا شهيدك رغم أنـي عاشق
ودمي حرام.. واسألي سجاني
قد جئت يا أمي
لأطلب ثوب عرسي
من يديك بفرحتـي
أعطيتني.. أكـفـاني
المزيد من مقالات فاروق جويدة<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش